لم يعد احتياطي مصر من النقد الأجنبي يكفي لتغطية واردات أم الدنيا لأكثر من 4 أشهر ، وزادت كلفة الاقتراض من البنوك لتلامس 16 بالمائة وهو رقم كبير سرعان ما انعكس على أسعار السوق ، وتوقف الاستثمار الحكومي عند عتبة الصفر وبات سعر صرف الجنيه المصري مهددا بالانهيار . والمتجول في شوارع القاهرة يرى بعينيه توقف خدمات الدولة عدا الخدمات الأمنية والصحية ، ولو يستمر الوضع أشهرا أخرى الى الأمام لتحولت المطالب الثورية السياسية الى مطالب اقتصادية حقيقية وربما ينسى المصريون هتافاتهم بإسقاط النظام وينسى بعض شباب التحرير شعاراتهم باسقاط المشير والعسكر الى شعارات أخرى أولها : نريدا خبزا نريد دواء . فهل تتمكن صناديق الانتخابات الجارية في مصر من تلبية اكراهات المرحلة على الصعيد الاقتصادي والتنموي الملح ؟ وما المطلوب عربيا واسلاميا حتى لا تعود مصر ثانية الى شروط ومراقبة صندوق النقد الدولي كما فعلت الجزائر ذات مرة من العام 1994 ؟ ضريبة اقتصاديات الريع تنتفع الدول النفطية والسياحية والتي تعيش على موارد الطبيعة من ريع اقتصادها في حالة واحدة أي عندما تحول الموارد الطبيعية الى أصول اقتصادية ومالية عن طريق ادماج التكنولوجيا واطلاق المشروعات في الصناعة والزراعة وخدمات التعليم والبحث . أما اذا فشلت في ذلك فستتعرض الى سقوط الاقتصاد برمته عند أول اختبار سياسي . وهذا ما وقع بالضبط لمصر المحروسة ووقع أيضا في تونس وليبيا ويقع الآن في سوريا واليمن ووقع سابقا في الحالة الجزائرية قبل 20 عاما . وأحسب أن المشهد سيتكرر في كل دولة عربية ريعية لا تملك سياسات صناعية متينة وخاصة ان كانت تحتضن بذور ثورات شعبية قادمة . والدرس صعب لنا جميعا لأنه يصف ضريبة اقتصاديات الريع وهي ضريبة قاسية دفعت بالاقتصاد المصري الى الشلل تماما وهربت رؤوس الأموال الى الخارج وخفضت ايرادات السياحة ب 66 بالمائة في سنة واحدة ، وزاد سعر الرغيف الصغير من الخبز الى ما يعادل 1 جنيه أي 20 دينار جزائري ، وعادت طوابير الفقراء حول الخبز من 5 قروش الى الظهور ثانية وسط أرقى شوارع القاهرة مثل حي المهندسين ، وجعلت من ساحة الأهرامات ساحة مهجورة . وفي نفس الوقت لا أحد يعلم كيف تصنع موازنة 2012 بل وكيف تنفذ وقد ضاعف دعم الحكومة للبنزين والغاز من عجز النفقات ولم تعد الايرادات كافية حتى لصرف رواتب القطاع العام . الأجندة الاقتصادية المفقودة سترث الحكومة القادمة في مصر خزينة فارغة وأعباء اجتماعية متزايدة يصنعها حجم سكاني قدره 81 مليون نسمة ، ومطالب للشغل والسكن يصنعها 60 بالمائة من شباب مصر ، ووضعا ماليا خارجيا يطبعه توقف المساعدات الأمريكية التي دأب البيت الأبيض على توفيرها لحكومات حليفة ثم تردد بنك الاستثمار الأوربي في الوفاء بالتزاماته تجاه دول جنوب المتوسط والمقدرة ب 3.6 مليار يورو. وحمدا لله أن شعب مصر شعب ذكي وفهوم فلا أظن أن ذلك سيدفع به الى ثورة أخرى ولكن بالتأكيد أنه لن يتسامح مع حكومة غير مسلحة بأجندة اقتصادية وتنموية طموحة . وكما هي باقي الشعوب العربية ترضى بعربون الحكومات ان رأت فيها ارادة سياسية قوية لتحسين ظروف العيش ، وتغضب أشد الغضب عند أولى بوادر الظلم والفساد . رأينا ذلك في الحالة الجزائرية قبل عام عندما نجحت الحكومة في اخماد ثورة شبانية لأنها سارعت في دعم أسعار مواد استهلاكية محددة ولو لفترة محددة ، ولكن الوضع في مصر يختلف تماما بالنظر الى وضعية المؤشرات المالية وحجم المشكلات ومخلفات النظام السابق . و في مصر امكانيات يمكن توظيفها لانتاج العربون المطلوب ، ويقع على باقي الدول العربية والاسلامية والصديقة أيضا واجب المساعدة والنصرة ليس على اعتبارات عاطفية أو قومية أو دينية فحسب بل بدوافع مصلحية وتجارية أيضا . فمصر بها يد عاملة رخيصة ومدربة على المهن وشديدة القابلية للتشغيل مهما كان نوع العمل ، ولقد رأيت المصريين كلهم يعملون ولو في حرف ونشاطات غير منظمة، وبها سوق كبيرة يكاد يعادل حجمها سوق دول المغرب العربي مجتمعة أو ربع سوق الوطن العربي بدوله الاثنين والعشرين ، وبها غاز مدعم يباع بأرخص سعر لكل من الكيان الصهيوني ، اسبانيا ، فرنسا والأردن . وفي مصر ملايين الفدادين من الأرض الخصبة رأيناها جميعا فس مسلسلات الساعة السابعة ، وفي القاهرة ميترو يمتد الى 60 كم وقاعدة اتصالات متينة ، ومياه للنيلين الأبيض والأزرق تصلح مزارع واسعة للسمك . وفي مصر خام سياحي يصلح لأن يتطور ، وفوق هذا وذاك نسيج سكاني شاب قابل للتحول سريعا الى مشروعات صغيرة ومتوسطة على رقعة جغرافية تساوي تقريبا نصف مساحة الجزائر أي مليون كيلومتر مربع . حقيقة يمكن لمصر أن تتحول الى صين الشرق الأوسط ان هي أرادت . الجزائر والفرصة التاريخية ولمصر هامش تحرك جيد على منحى تعديل وضبط أسعار الغاز المصدر ، استثمارات النفط ، ترشيد الانفاق الحكومي ، الاستثمارات الصغيرة في الزراعة والصناعات الغذائية والترقية العقارية ، جلب الاستثمار الأجنبي على قاعدة الاستقرار السياسي ، الدبلوماسية الاقتصادية النشطة مع دول الرخاء العربي وعلى رأسها الجزائر . ولكن وفي نفس الوقت ينقص مصر معارضة بأجندات اقتصادية ، ورؤية للتنمية تملك حلولها ، وموارد مالية كافية ، وخبرات في التخطيط الاقتصادي المبني على المعرفة . نقائص يمكن سدها سريعا بمد اليد للعون العربي والاسلامي قبل أن تمد الى المؤسسات الدولية . يمكن لمصر أن توفر استثمارات جيدة لدول الفائض العربي والاسلامي ان هي عرفت كيف تقلل من أعباء الاستثمار وتدير الديون السيادية التي لا أرى مهربا منها في الوقت الراهن . وربما تقتنص الجزائر هذه الفرصة التاريخية لاعادة تنشيط حضورها القومي والتاريخي أي حضورها الديبلوماسي بعد أن تلقت خارجيتها مؤخرا ضربات موجعة صنعتها الأحداث المفاجئة والديبلوماسية الموجهة . أما من الناحية الاقتصادية والتجارية فإن العائد على رأس المال يوفر لرأس المال الجزائري ميزات نسبية أفضل من التوظيفات في السندات الأمريكية أو مخزون الاحتياطي من الصرف أو الانفاق على برامج الحكومة التي لا جدوى اقتصادية منها . فهل تلقى الحكومة الجديدة في مصر صدى اخوانها العرب أم أن التاريخ يعيد نفسه وترتمي في أحضان صندوق النقد الدولي كما فعلت الجزائر العام 1994 ولكن بكلفة اجتماعية لازلنا نتجرع مرارتها حتى اليوم . أكاديمي وكاتب جزائري [email protected]