بشكل مفاجئ اجتمع أمس مجلس الأمن الدولي وناقش مشروع قرار يتعلق بسوريا ، للمرة الأولى منذ أشهر طويلة ، حيث استحال انعقاده بسبب اتساع الهوة بين أطرافه القوية تجاه ما يحدث في سوريا ، وتحديدا ، تمسك الرئيس الروسي بوتين ببقاء الطاغية بشار الأسد في منصبه رغم كل المجازر والدمار والخراب الذي ارتكبه طوال السنوات الخمس الماضية ضد شعبه ، فجأة اجتمع مجلس الأمن وناقش مشروع القرار ووافق عليه بالإجماع ليحمل القرار الرسمي للمجلس رقم 2254 ، وقد صدر القرار هذه المرة بعد تدخل روسيا بثقلها في المعارك من خلال سلاح الطيران والخبراء وضخ المزيد من السلاح الحديث لقوات بشار واتساع رقعة توترها مع تركيا وحلف الناتو ، وبعد أن ظهر تعثر المشروع الروسي وبداية غرقه في الوحل السوري ، بدون أي آثار حاسمة على الأرض ، بل واصل الثوار تحرير مناطق جديدة ، رغم الآلام ورغم خسائرهم لمناطق صغيرة وقرى هامشية ، كما صدر القرار الجديد في أجواء تصريحات متتالية من جميع أطراف مجلس الأمن ، ظهر من خلالها أن المجموعة الغربية : أمريكا وبريطانيا وفرنسا ، رأيهم واضح ومحدد ، وهو أن بشار لا مستقبل له وأنه فقد شرعيته ، بل وصل الأمر إلى أن فرنسا تطالب علنا بضمان لرحيل الأسد ، فقد طالب وزير خارجيتها، لوران فابيوس، في مجلس الأمن بضمانات تتعلق برحيل بشار الأسد عن السلطة بموجب الخطة التي أقرها المجلس ، بل إن فابيوس أوضح أن هذا الكلام ليس من منطلق أخلاقي فقط ، بل من منطلق عملي إن كنا راغبين في إنهاء المأساة قائلا : يجب أن تكون لدينا ضمانات بشأن رحيل الأسد، وهذا الأمر ضروري. ليس فقط لأسباب أخلاقية، ولكن أيضا لضمان فاعلية الخطة المرجوة ، بينما كانت تصريحات الروس والجانب الصيني تحمل خطابا عاما عن أن مستقبل سوريا يقرره السوريون ، وأنه لا أحد يملي على الشعب السوري من يقوده ، وهو كلام يصح ببشار وبدون بشار ، وهو كلام بشكل عام لا يختلف عليه الجميع . قرار مجلس الأمن الجديد الذي وافق عليه كل من روسيا والصين ، حمل إشارات صريحة إلى سحب سلطة بشار الأسد وتسليمها إلى هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات لإدارة شؤون سوريا في المرحلة الانتقالية ، ففي ديباجة القرار جاء ما نصه : (التأكيد أنه ما من حل دائم للأزمة الراهنة في سوريا إلا من خلال عملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، بهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ 30 حزيران/يونيو 2012، الذي أيده القرار 2118 (2013)، وذلك بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة) ، فالكلام واضح ، أن الحل لن يكون إلا بعملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري ، وبديهي أن بشار ليس هو القيادة الجامعة التي تلبي هذه التطلعات ، وإلا ما كان هناك أزمة بالأساس ، وكذلك يعود البيان لكي يؤكد على تشكيل "هيئة حكم انتقالية جامعة تخول سلطات تنفيدية كاملة" ، وهذا يعني نظام حكم جديد ومرحلي لمدة عامين حسب ما أوضح البيان لحين إعادة هيكلة المؤسسات وإطلاق انتخابات ، وقد أكد القرار في ديباجته أكثر من مرة على مرجعية بيان جنيف الأول والثاني . وفي البند الأول من القرار كانت الإشارة إلى مقررات مؤتمر جنيف ونص القرار هنا حرفيا على : (السعي إلى كفالة التنفيذ الكامل لبيان جنيف، كأساس لانتقال سياسي بقيادة سورية وفي ظل عملية يمتلك السوريون زمامها) ، فالحديث واضح عن عملية "انتقال" سياسي ، أي تشكيل سلطة جديدة بقيادة سورية ، وعاد في البند الثاني لكي يؤكد على هذا المعنى بقوله : (يطلب إلى الأمين العام أن يقوم، من خلال مساعيه الحميدة وجهود مبعوثه الخاص إلى سوريا، بدعوة ممثلي الحكومة السورية والمعارضة إلى الدخول على وجه السرعة في مفاوضات رسمية بشأن عملية انتقال سياسي) ، فنحن لسنا بصدد عملية ترقيع أو أنصاف حلول ، وإنما أمام عملية "انتقال سياسي" ، أي تشكيل سلطة جديدة جامعة ، وعاد في البند الرابع ليؤكد على معنى "حكم ذي مصداقية يشمل الجميع" . قرار مجلس الأمن الجديد في معظم مواده بعد ذلك ركز على نواحي إجرائية تتعلق بوقف القتال ووقف استهداف المدنيين خاصة بالطائرات ، وهي إشارة دامغة للقوى التي تملك الطائرات ، وبالأساس نظام بشار وروسيا ، كما يلزم باتخاذ التدابير لتوصيل المساعدات فورا ومن أقصر طرق إلى المناطق المحاصرة ، وهي مسائل معقدة ، خاصة عندما يحاول أي طرف تطبيقها على الأرض . بشكل عام ، القرار إيجابي ، ويمثل انتصارا مرحليا للثورة السورية ، أو خطوة أولى نحو بناء سوريا الحرة الديمقراطية ، وفي ظل تدويل الأزمة ، والصراعات بالغة الخطورة التي نشبت من خلفها في دول إقليمية وحتى مع حلف الناتو ، فإن صدور مثل هذا القرار هو بكل يقين نتيجة لتضحيات وبسالة رجال الثورة السورية ، وصمودهم الأسطوري طوال هذه السنوات أمام تحالف دولي شمل روسيا وإيران وجيش بشار وعشرات الميليشيات الطائفية من لبنان والعراق وأفغانستان ، وأعتقد أن أول من سيحاول عرقلة قرار مجلس الأمن هو بشار الأسد نفسه ، لأن هذا القرار يعني بداية لف الحبل حول عنقه ، ولكنه مدرك أن القرار لم يعد قراره ، وأن "الوصي" الشرعي عليه ، فلاديمير بوتين وضع توقيعه عليه ، بعد أن أدرك خطأ رهانه وتقديراته للمعركة على الأرض ، ووجد أنه لن يراهن بمستقبل بلاده ومصالحها وأمنها القومي من أجل هذا الطاغية الصغير .