يبدو أن نقص كميات المياه وتقلص إمدادات الطاقة يثيران مخاوف قطاعات عريضة من المجتمع المصرى، فضلا عن مدركات النخبة السياسية، بحيث يمكن اعتبارهما ضمن مشكلات الأمن غير التقليدى أو ما يعرف بالأمن الإنساني، لأنهما يرتبطان بأمن البشر واحتياجات الأفراد وأنماط معيشة الجماعات، لاسيما فى ظل أوضاع داخلية صعبة ومشكلات خارجية ضاغطة، وهو ما يتطلب التفكير فى أطر خاصة للتعامل معهما. وهنا، يسود التفكير بالتمنى بأن يكون التفكير الواقعى لدى النظام السياسى الجديد «غير تقليدى» بل يتجاوز ذلك إلى التصور «فوق تقليدي»، يمكن من خلاله أن يواجه الأزمات ليس من خارج الصندوق كما يقال وإنما بتغيير هيكل الصندوق ذاته. تناقش هذه الصفحة لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام معالجتين متميزتين لأزمتى المياه والطاقة، من جانب د.أيمن السيد عبدالوهاب رئيس وحدة الدراسات المصرية ود.أحمد قنديل مدير برنامج دراسات الطاقة، والتى يعتقد بكونهما من أكثر الملفات المطروحة على أجندة الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال المرحلة المقبلة، إذ لا يزال التعامل معهما فى إطار السياسات العامة القاصرة على جهات معينة وذات طبيعة متخصصة، وهو ما كان ينذر بتحول هذه التحديات إلى تهديدات، وربما تصبح «مخاطر» فى حال عدم اتخاذ سياسات عاجلة، تقوم على تصورات متكاملة ومبادرات خلاقة ومسارات متوازية، للحد من تفاقم أزمتى المياه والطاقة يوم بعد آخر.. (المحرر) أمن المياه: مواجهة مخاطر سد النهض يبدو تحدى سد النهضة الأثيوبى، أحد أكبر التحديات التى تواجه الرئيس عبد الفتاح السيسى، ليس لتأثيراته الخطيرة على الأمن المائى المصرى التى بدت جلية، ولا لدلالاته السياسية المتعلقة بتخلى مصر عن حقوقها ومكتسباتها التاريخية فى مياه النيل، ولا لتأثيراته المستقبلية على مسار التعاون المائى مع أثيوبيا وعدد من دول حوض النيل، ولكن التحدى الأكبر يكمن فى عامل الوقت كعامل ضاغط على صناع القرار المصرى، فوقف بناء السد مع الشروع فى التفاوض يجب أن يمثل نقطة بداية التحرك، لاسيما وأن أثيوبيا تدرك أهمية عامل الوقت لها فقد استغلته بامتياز وأنجزت نحو 32% من السد مستفيدة من حالة عدم الاتزان التى مرت بها الدولة المصرية منذ 25 يناير، (حيث شرعت فى بناء السد فى أبريل 2011). كما أن التحدى يمتد إلى القدرة على تفعيل حزمة من الإجراءات والسياسات التى يمكن أن تلجأ إليها مصر لوقف بناء السد وانتزاع بعض أوراق التفاوض التى نجحت أثيوبيا فى امتلاكها خلال الأعوام العشرين الماضية وأيضاً تفعيل عدد من المقومات الداعمة للموقف والمصالح المصرية فى منطقة القرن الإفريقى والبحيرات العظمى. صحيح أن التحركات المصرية الراهنة لن تنطلق من فراغ، فقد نجحت دبلوماسية ما بعد 30 يونيو فى إبطاء عجلة بناء سد النهضة عبر التضييق ومخاطبة الأطراف الدولية الداعمة لتمويل بناء السد، وصحيح أيضاً أن الدبلوماسية المصرية نجحت فى مخاطبة الدولة الكبرى والمؤسسات الدولية المعنية بقضايا المياه والتنمية، ونجحت فى حشد بعض الموقف الدولية استناداً إلى مخاطر السد وتقرير الخبراء الدوليين، وصحيح كذلك أن هناك ترقب لرد الفعل المصرى ومسار هذا الفعل وخاصة بعد اختيار رئيس الجمهورية. ولكن فى المقابل يجب الأخذ فى الاعتبار أن اللحظة الراهنة تتطلب استعادة القدرة على المبادرة والتأثير فى بيئة التفاوض، وإدخال أطراف وقوى ومؤسسات دولية من شأنها أن تحجم الطموح الأثيوبى وتعلى من معادلة الاستقرار والتنمية فى منطقة حوض النيل. وقبل ذلك استعادة مقومات الدولة المصرية وقدراتها على التحرك الفعال فى محيطها العربى والإفريقى، فمن شأن ذلك أن يغير الكثير من مواقف الأطراف الهادفة للإضرار بالمصالح المصرية. المبادرة التنزانية ولأن عامل الوقت ضاغط على كل الأطراف، فيجب تحييده عبر وقف أثيوبيا بناء السد وأن تدفع مصر بمجموعة من الأفكار الداعمة لمبادرة حقيقية تشمل الوصول إلى اتفاق قانونى ومؤسسى داعم لأطر التعاون المائى والطاقة وبالقدر الذى لايقصر هذه المبادرة فقط على إدارة موارد النهر. ويمكن الاستفادة هنا بدعم المبادرة التنزانية الداعية لمراجعة البنود الخلافية بالإتفاقية الإطارية لدولة حوض النيل المعروفة (باتفاق عنتيبى) عبر لقاء يجمع وزراء الخارجية، وتطويرها بحيث لاتكون وسيلة لاكتساب أثيوبيا مزيد من الوقت بحيث يتحول سد النهضة لواقع يفرض على مصر التعامل مع مخاطرة وآثاره. ومن المعروف أن نقاط الخلاف تدور بالأساس حول ثلاث نقاط رئيسية، هى: مفهوم ومتطلبات الأمن المائى وتلك ترتبط بحصة مصر، ورفض الإخطار المسبق الذى يعطى لمصر حق رفض أى مشروع يؤثر على حصتها، ونمط التصويت حيث تطلب مصر باعتماد الإجماع كسبيل لاتخاذ القرارات أو فى حالة الأغلبية تكون مصر من ضمن الأغلبية المصوتة. وعلاوة على عامل الوقت كتحد يفرض نفسه على متخذ القرار المصرى، يبدو هناك تحدى آخر يتعلق بإمكانية صياغة تعاون مائى جماعى فى حوض النيل تتبناه مصر وتقدمه كرؤية إستراتيجية تتوافر لها الآليات والإمكانيات، فبالإضافة لضعف الموارد والقدرات المالية والاقتصادية لغالبية دول الحوض بما فيها مصر، فالملاحظ أن مثل هذه الإستراتيجية سوف تظل حبيسة تباين الرؤى والدوافع الداخلية لدول الحوض من ناحية، وقيود البيئة الإقليمية من ناحية ثانية، فضلاً عن تأثيرات المتغيرات الدولية، وهو ما يتجلى فى المبررات التى تقدمت بها غالبية دول الحوض للدفاع عن رؤيتها ومنهاجها التفاوضى والتوقيع على إتفاق عنتيبى وذلك بالحديث عن السيادة الوطنية ورفض الوصاية المصرية وحقوقها التاريخية وعلاقة تلك الحقوق بالإتفاقيات والمعاهدات القديمة، وربطها الحق فى التنمية برؤيتها لمصالحها العليا ومستجدات الواقع الإقليمى والدولى. تصور متكامل ولذا، تبدو نقطة البداية المصرية مرتهنة بالقدرة على صياغة رسالة خاصة لقضية الأمن المائى ضمن رسالة أوسع للتوجهات الرئاسية والحاكمة للسياسة الخارجية المصرية تجاه إفريقيا وفى القلب منها العلاقات مع دول حوض النيل، وأن تتضمن فى نفس الوقت بلورة رؤية لمعالجة درجات التشابك بين كثير من القضايا المطروحة على أجندة القارة الإفريقية لاسيما تلك المتعلقة بقضايا التنمية والفقر والسلم والأمن، وتجسيد المنظور الأخلاقى والقيمى الحاكم للتحرك المصرى ولسياساتها الخارجية المبنية على دعم قضايا التنمية كسبيل لتحقيق الأمن الإنسانى والغذائى. هذه الرسالة بدورها، يجب أن تتضمن مبادرة جديدة لتفعيل أطر مبادرة دول حوض النيل، وأن تشمل تقديم تصور مصرى متكامل لمعادلة التعاون المائى لايقف عند سد النهضة ولكن لمنظومة السدود على طول النهر وربطها بمتطلبات التنمية الزراعية والطاقة وأن تتحدد وفقاً لجداول زمنية تراعى عدم الإضرار، وخاصة أن مشكلة التعاون لا ترتبط بندرة المياه ولكن بعدم القدرة على إدارة عملية الاستفادة من مياه النهر، فكثير من المياه المهدرة فى المستنقعات يمكن الاستفادة منها، ولكن المشكلة ترتبط بالمنظور الأحادى التى سعت أثيوبيا وعدد من دول المنابع لفرضه على مصر كواقع من خلال اتفاق عنتيبى. حزمة آليات هذه الرسالة يجب أن تحمل بين مضامينها رسائل مباشرة لباقى دول حوض النيل وألا تقتصر فقط على قضية المياه أو مشكلة سد النهضة فقط، وهنا يمكن أن يكون الإعلان عن الخطوات التنفيذية للوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية فى حوض النيل (المنشأة بقرار رئاسة مجلس الوزراء 959 لعام 2013) مدخلاً ملائماً للتعبير عن آلية تنموية تتكامل فيها الدبلوماسية بالتنمية، والجهود المصرية الحكومية وغير الحكومية للتواصل مع شعوب دول الحوض، وإعطاء مساحة جديدة للتحرك، وتكثيف الجهود المصرية تجاه قضايا التنمية البشرية فى الحوض، وذلك عبر مجموعة من البرامج والآليات الهادفة للتنمية وتقديم الخدمات والمساعدات والتوعية، نذكر منها: تفعيل دور منظمات المجتمع المدنى كسبيل لتفعيل قنوات التواصل مع نظرائها من دول الحوض، لاسيما فى قضايا مكافحة الفقر والتصحر والإيدز والإغاثة. توظيف أدوات القوة الناعمة بشكل تكاملى من خلال برامج تتبناها الوكالة ليتشابك الدور الرسمى وغير الرسمى ويبرز التأثير المصري، مثل أدوار الأزهر والكنيسة والجامعات والمثقفين والإعلاميين. تأسيس قناة فضائية أو استقطاع بعض الأوقات من الفضائية المصرية لتوجه لإفريقيا بشكل عام ودول الحوض بشكل خاص. هذه الرسائل والأفكار المصرية، لن تكون كافية لتغيير الموقف الأثيوبى، فالرفض الأثيوبى المتتالى للمقترحات المصرية وعدم تقديمها لأية مقترحات تعبر عن قدر من المرونة، وتوضح استمرار النهج التفاوضى المتشدد، كما أن رد فعل أوغندا وجنوب السودان الرافض للمبادرة التنزانية لأسباب متعددة تتعلق برفضهما لتهميش مواقفهما تعنى أن الحاجة لتفكيك مواقف بعض دول الحوض وتجاوز حالة الحشد التى نجحت فيها أثيوبيا تقتضى تحرك مصرى مباشر تجاه كل دولة، وتقتضى أيضاً تعظيم المصالح المشتركة وأطر التعاون الثنائى، وهو ما يصطدم بعامل الوقت والإمكانيات الاقتصادية. مسارات متوازية ومن ثم، وفى إطار المنهاج المصرى الحالى المستند إلى التحرك فى محاور متوازية يجب تكثيف عملية إدخال أطراف وقوى ومؤسسات دولية وإفريقية لمواجهة التعنت الأثيوبى، وأن تزيد مصر من حجم التحركات الخشنة القادرة على تحجيم الطموح الأثيوبى، وأن تعظم من سبل التنسيق والتعاون مع عدد من الدول والأطراف المؤيدة للرؤية المصرية، لاسيما الخليجية وتلك صاحبة المصلحة فى تعزيز فرص الاستقرار والتنمية فى منطقة حوض النيل. فالقضية لا يجب أن تختزل فى سد النهضة ولكن فى القدرة على استعادة مقومات الدولة المصرية وقدراتها على التحرك الفعال فى محيطها العربى والإفريقى فى أسرع وقت ممكن، فمن شأن ذلك أن يغير الكثير من مواقف الأطراف الهادفة للإضرار بالمصالح المصرية.