رحلات السجون بين عامي 1959 و1964لم يعتقل من العائلة إسماعيل وحده، ضمن عدة مئات من الشيوعيين والديمقراطيين والكتاب والفنانين والنقابيين، بل اعتقلت أيضا شقيقته الفنانة التشكيلية الراحلة إنجي إفلاطون وزوجها الذي كان يعمل وكيل نيابة. للقارئ أن يتخيل ما لاقته جُلبيري في رحلاتها المكوكية إلي سجون القناطر والحربي وطرة والحضرة بالإسكندرية ومعتقل الواحات الشهير، هذا إلي جانب رحلات مكوكية أخري إلي مقار النيابات المختلفة وزيارات متتالية لعدد كبير من المحامين. كما سبق أن أشرت عدة مرات، لم تفعل جُلبيري ما فعلته إلا لأنها امرأة عاشقة ..هكذا بكل بساطة، وانحيازها لاحقا للأفكار اليسارية كان بسبب ما شاهدته وعاشته بالفعل من ظلم وتعذيب زوجها ورفاقه العُزّل ليتخلّوا عن أفكارهم وانحيازهم للشعب. للقارئ أن يتخيل مثلا غلاسة وسخافة وانحطاط من يسخرون منها بسبب إسمها ولكنتها في السجون والنيابة أو حتي من المسئولين الآخرين، للقارئ أن يتخيل أيضا خمس سنوات متواصلة من سعي لا يتوقف في سجون ومعتقلات تبعد بعضها عن القاهرة ما يقرب من 900 كيلومتر مثل معتقل الواحات.وكل هذا معناه ضرورة توفير الغذاء والدواء للمعتقلين الذن يعيشون ظروفا استثنائية، والاتصال بالجهات الضاغطة من الخارج .كان علي جُلبيري أيضا أن تعقد صلات وثيقة ومتنوعة مع زوجات وأمهات وشقيقات المعتقلين، وهي التي لم تعرف في حياتها إلا من ينتمون إلي طبقتها.خاضت جُلبيري التجربة كما يليق حقا بامرأة عاشقة .هناك تفاصيل دقيقة لا يلتفت إليها إلا العاشقات، مثلا ضرورة الذهاب إلي الكوافير قبل الذهاب للقاء اسماعيل في السجن، أهمية العناية بنفسها لأنها سوف تقابل حبيبها في هذا السجن أو ذاك. كتبت مثلا ، وهي تذكر أحد لقاءاتها مع اسماعيل في السجن:"كم أنت أنيقة، قلت لي ،وكنت تبتسم من السعادة.وعندما حان وقت الفراق، ابتعد الضابط، وكذا والدك وشقيقتك ليمنحونا بعض الخصوصية .قلت لي أنك سعدت برائحة عطري التي وجدتها علي علبة النظارة التي أرسلتها إليك، وطلبت مني أن أضع قليلا منه علي علب الأدوية في الطرد المسموح به شهريا، كما طلبت مني ألا أصبغ شعري حتي لا يضيع لونه الطبيعي". هل هناك ماهو أرق من هذا؟! وبعد الإفراج عنه، عَمِل إسماعيل رئيسا لدار المعارف وأرسله عبد الناصر في مهمات خاصة، بل وعُيّن وزيرا ثماني سنوات في عهد السادات ..وبعد كل هذا ، وفي أغسطس 1980كانا معا، جُلبيري واسماعيل يقضيان إجازتهما في باريس وسعيدين بتخلصهما من هذا المنصب الذي لم يحباه أبدا.عاد هو أولا وكان علي جُلبيري أن تتأخر بضعة أيام، لكن الخبر سرعان ماوصلها قبل عودتها في سبتمبر :إسماعيل تم اعتقاله في حملة السادات الشهيرة قبل اغتياله. وهكذا ..كان عليها أن تعيد ما كانت تقوم به قبل ستة وعشرين عاما، لكنها أعادته بالكفاءة والدأب نفسهما كما يليق بعاشقة مولهة، مهما تقدمت السن بها حتي الإفراج عنه. تلك هي الخطوط العريضة لقصة العشق الكبري، ومع ذلك وربما رغما عن جُلبيري نفسها حكت أيضا قصة الوطن والكفاح والحرية، ورغما عنها أيضا قدمت التاريخ والحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية.