كنت كتبتُ في الأسبوع الماضي عن هذا الكتاب الفاتن للرحلة جُلبيري إفلاطون، وهوكتاب يجد الواحد نفسه يلتهمه التهاما، علي الرغم من صفحاته التي تزيد عن ثمانمائة صفحة من القطع الكبير، وعلي الرغم أيضا من ترجمته المتعجلة، وافتقاره للمراجعة والتدقيق. أواصل هنا قراءة هذا العمل المترامي، والذي عبّرت عنه الكاتبة بالفرنسية، وكانت العربية بالنسبة لطبقتها لا تستخدم إلا للتعامل مع الخدم. ومع ذلك رسمت عالما خلابا، لم تكن متماهية تماما معه، وربما كان الصدق النادر الذي تحلّت به، بل البوح، هو ما جعلها قادرة علي التعبير عنه علي هذا النحو. واللافت للنظر هنا هو اعتمادها علي مذكراتها الشخصية (وهو ما تذكره صراحة في عدة مواضع، ونقلت عن هذه المذكرات في كتابها سطورا عديدة) ربما لهذا السبب استطاعت استدعاء الروح والجو والتفاصيل الدقيقة. عالم القصور وسهرات الأرستقراطية ومدرسة القلب المقدس وأبواها المنفصلان، علي الرغم من أنهما أبناء عمومة، لأن أمها ضبطت الأب وهو يغازل الخادمة، فأصرّت علي الطلاق وانتقلت بطفلتيها واستقلّت بهما ..هذا هو العالم الذي تقدمه جُلبيري التي نشأت مع شقيقتها إنجي إفلاطون الفنانة التشكيلية الكبيرة فيما بعد، تحت جناح الأم ذات الشخصية القوية، بل المتسلطة حسبما عبرّت جُلبيري، وهي وحدها "صالحة هانم "تحتاج لكتابة منفصلة ..إنها شخصية روائية بامتياز. تتحرك جُلبيري بخفة الفراشة بين قصور العائلة في شبرا ونيل الزمالك، تتلقي تعليمها هي وأختها علي أيدي معلمات يقمن معهن في البيت، ثم في مدرسة القلب المقدس الداخلية، وتستفيض في سرد صنوف وأشكال التعذيب البدني والمعنوي في مدرسة تشبه السجن من أجل تعليمهن الأخلاق الحميدة والسلوك القويم ، لكنها مع ذلك اكتشفت نفسها، كانت الأولي دائما في مادة التعبير بالفرنسية طبعا- وشجعتها الراهبات في المدرسة، وانفتح أمامها عالم واسع ، وتنوعت قراءاتها من خلال الاستعارة من مكتبة جديها أو أبيها، ويبدو أن الأرستقراطية المصرية كانت طبقة محترمة فيما يتعلق بالثقافة، إلا أن تلك قصة أخري.. ولأن صالحة هانم إمرأة مجنونة، وصممت علي الاستقلال ببنتيها، اصطحبتهما في إحدي الرحلات السنوية إلي باريس، وهناك نفّذت مشروعها السري الكبير، واتخذت إسما مستعارا ،والتحقت بأرقي "أتلييه" للخياطة والتفصيل، وتلقت تعليمها الذي استمر عدة شهور، فقد وصلت أخبار الفضيحة رغم كل الاحتياطات :صالحة تتعلم الخياطة في باريس، أي أنها تستعد لفضيحة أكبر، وهو ما جري بالفعل ، فبعد وقت قصير افتتحت "أتلييه صالحة هانم"، والذي ظل أحد أهم أماكن الأرستقراطية المصرية، بل والعائلة المالكة، فقد كانت موديلاتها التي تبدع في تفصيلها لا يمكن مقاومتها، واستمر هذا الأتيلييه حتي أوائل الستينات، عندما غابت شمس الأرستقرطية تماما. لكن اللحظة الحاسمة لجُلبيري جاءت عندما وقعت في غرام الطالب اسماعيل صبري عبد الله الذي كان يدرس الاقتصاد، في الوقت الذي كانت تتلقي دروسا في الآداب، وتبحث عن مدرس لتتعلم اللغة العربية، واشترط اسماعيل ألا يتقاضي أجرا. وهكذا بدأت واحدة من أرق وأجمل قصص الحب الكبري ،وهو ما سوف أتناوله في الأسبوع المقبل .