كانت الدهشة من نصيبى وأنا أستمع إلى رجل اعتاد دخول السجون وأصبح زبونا للمعتقلات، واعترف لى بأن سجن السادات شىء، وسجن عبدالناصر شىء آخر، وكانت شهادة السعدنى لصالح سجن السادات.. ولكن عقله وقلبه كانا يعيشان ويعشقان زمان عبدالناصر بمعتقلاته وسجونه وأمجاده وانتصاراته وانكساراته، وقد أصغيت كثيرا للسعدنى ولم يكن من السهل أن تحرم نفسك من الاستمتاع بحكاواه وبطريقته فى صياغة هذه الحكاوى التى تزيدها جمالا وبهاء وسخرية. ولذلك فقد قررت أن أضم السعدنى إلى دولاب العمل الذى يسهر كل يوم حتى الصباح من أجل الانتهاء من إنتاج الأثاث وقد كنا فى القناطر الخيرية فى منافسة حادة مع سجن الحضرة فى الإسكندرية فى مهرجان صناعة الأخشاب. وهكذا انضم السعدنى إلى الفريق الذى يعمل فى الأخشاب وأصبح نجارا على الورق، وكنا معا نشرف من بعيد على ورش النجارة ونسهر الليل كله نصنع الشاى على الفحم والسعدنى يتكلم وأنا أستمع. ونظر السعدنى حوله، حيث الحراس والأسوار والمساجين وقال: المكان ده هو أوسخ اختراع لبنى البشر، حتى الحيوانات المفترسة لم تفعل هذا الأمر، وسألنى: عمرك شوفت أسد قام بحبس أسد أو حتى غزالة أو فيل؟! الأسد يصفى حساباته أولا بأول ويمزق الفريسة فى دقائق تكون مأساتها قد انتهت، لكن البنى آدم عمل السجن والأسوار والحراس والزنازين وهى عملية قتل منظمة وبطيئة للبشر من المساجين وبالتقسيط المريح، ومضى السعدنى يصف سجن القناطر بالتحديد ويقول: الشكل من بره يوحى أنك داخل مكان رومانسى يصلح لتصوير فيلم عن قصة حب عنتر وعبلة أو قيس وليلى، لكن آه على المنظر من الداخل، فهذا السجن أسوأ ألف مرة من سجن الباستيل، هنا أشجار الجميز والسرو تخفى المكان والرياح المنوفى يتهادى من جانبه ويشكل صورة تشعر أنها لفنان عظيم، لكن يا عم محسن أنا على قد ما لفيت فى السجون والمعتقلات لم أشهد مكانا بهذا الشكل.. وأنا ترددت ولله الحمد على جميع أنواع السجون الحربية منها والمدنية، وتعرضت لضرب لم يحدث فى تاريخ البشرية وذقت جميع ألوان الضرب من الصفع إلى الشلاليت إلى الكرابيج والعصيان، لكن وعلى الرغم من كل شىء فقد أثبت هذا الاختراع فشله فهو ليس وسيلة ردع ولا عقاب.. المفترض أن البنى آدم اخترع السجن للقضاء على الجريمة.. ولكن هنا وداخل الأسوار الحياة تسير الخالق الناطق كما هى فى الخارج. قلت لعم محمود: يعنى مافيش أى فارق بين ما هو خارج السور وداخله؟! أجاب عم محمود: طبعا فيه فرق.. وإنت خارج الأسوار ستجد ناس طيبين قوى يرفعون شعار الشرف وهم «نصابين» من الدرجة الأولى وستعثر على بنى آدم أجبن من القطة يرتدى ثياب الشجاعة والفروسية، لكن فى السجن الأمر مختلف تماما فكل شىء على المكشوف وعلى عينك يا تاجر.. فكل إنسان هنا معروف بتهمته وهم ينادونه بهذه التهمة.. وعندك مثلا.. فاروق النصاب وإسماعيل القواد وعلى الحرامى وسيد أفيونة، قلت لعم محمود: أنا حاسس إن تجربتك هنا ح تسجلها فى كتاب.. فقال على الفور: أنا ح أكتب عن التجربة الحقيقية.. قبل كده كنا مساجين ومعتقلين فى سجون ومعتقلات ضمت صحفيين وفنانين وكتاباً وأدباء ومثقفين، لكن هذه المرة أنا التقيت بعالم كنت سأموت بحسرتى لو ذهبت إلى قبرى دون أن أراه، إنه عالم المجرمين والقتلة والنصابين والقوادين والمدافعين عن شرفهم ويضحك السعدنى وهو يقول: تصدق إن فى عساكر وسجانة قابلتهم قبل كده فى الواحات.. ولقيتهم هنا فى القناطر بعد أكتر من عشرين سنة!.. وسألته: زى مين؟ قال: عمك عبدالقادر الشاويش.. أول ما شافنى أخدنى بالمراحب الحارة وصرخ بأعلى صوته وقال: إنت جيت تانى يا بيه.. يا ميت مرحب.. انتوا بقيتوا زى الحرامية ساعات بيخرجوا.. لكن على طول بيرجعوا تانى! ولا أعرف لماذا كان لدىّ شغف لمعرفة تفاصيل السجن الأول أو سجون ناصر وكيف أن محمود السعدنى المتهم بانتمائه الناصرى ولهذا سجن أيام السادات هو نفسه الذى سجنه ناصر فى الخمسينيات وكأننى لمست خراجا داخل نفسه.. فإذا به يفتح بربخ الأسرار. قال السعدنى: قبل أن أجيب عن سؤالك عاوز أحكى لك عن السماحة بتاعة العصر الملكى.. كان حيدر باشا هو وزير الحربية.. وكان راجل صاحب نفوذ عظيم أيام الملك كتبت عنه بسبب الكورة برضه.. وقلت: يا عمنا حيدر باشا أنت أثبت أنك جنرال عظيم.. بل لو شئت الدقة أنت أعظم من محل الجنرالات.. من أمثالك وعلى رأسهم جنرال موتورز.. وجينرال إليكتريك. فى هذه الأيام لم يستدع العبدلله أى جهة ولم يحقق معى أى إنسان ولم يجرجرنى أى صنف من أصناف المجندين والشاويشية.. ولكنى ذات يوم كتبت عن رئيس نادى الزمالك أيام الثورة فإذا بهم يجرجرونى على السجن الحربى وانضربت ضرب غرائب الإبل وحمدت الله على أن الموضوع توقف عند حد الضرب. وأعود يا عم محسن للجواب على سؤالك وأقول: فى أحد الأيام اشتدت الحملة بين عمك عبدالناصر والزعيم العراقى عبدالكريم قاسم وتبادلت القاهرةوبغداد حملات إعلامية عنيفة جدا، وبلغ الخلاف بين ناصر والشيوعيين أشده، وكنت موجودا فى مكتبى فى «روزاليوسف» ودخل علىّ عمك عبدالستار الطويلة الكاتب الشهير وكنت أراه للمرة الأولى.. مد يده وصافحنى بحرارة وقال: عبدالستار الطويلة.. شيوعى.. وانتابتنى الحيرة والدهشة فالحرب بين ناصر والشيوعيين فى العالم العربى خصوصا فى بغداد على أشدها. المهم أنى صافحت الطويلة بدورى وحبكت معايا النكتة وقلت: محمود السعدنى.. مخابرات أمريكية! لكن عبدالستار الطويلة وبمنتهى الجد قال: احنا معلوماتنا إنك مخابرات إنجليزية! فقلت له: الإنجليز بعيد عنك افتقروا.. علشان كده أنا غيرت! وبشرنى عمك عبدالستار الطويلة أنها مجرد ساعات وسوف يكون نزيلا فى أحد السجون أو المعتقلات للحاق برفاقه الثوار من الشيوعيين. ولم تمر سوى أيام قليلة، وأنا عائد من مكتبى إلى بيتى وكان لدىّ من الأطفال بنتى هالة وزوجتى حامل فى شهرها الثانى، وكنا فى رمضان وأثناء تناولنا السحور دق الباب.. وطلب منى ضابط اسمه طوسون بنعومة يحسد عليها أن أصحبه إلى مباحث الجيزة لخمس دقائق فقط لا غير.. وارتديت ملابسى وركبت سيارة شرطة فيها جنود مدججون بالسلاح، ثم انطلقنا إلى الدقى فصعد بعض الضباط والعساكر وهبطوا من إحدى العمارات بعمنا أحمد رشدى صالح وكان يحمل فى يده شنطة فيها فوطة وصابون وماكينة حلاقة وفرشاة أسنان.. فنظرت إلى الشنطة وإلى عمك أحمد رشدى صالح وقلت: احنا رايحين خمس دقايق وراجعين.. جايب الحاجات دى ليه؟ فضحك أحمد رشدى صالح وقال: وإنت صدقت حكاية الخمس دقايق دى؟! المهم اجتمع فى الليلة دى كل عقول البلد، الدكتور لويس عوض والأستاذ لطفى الخولى والرسام الفنان زهدى والكاتب الصحفى فتحى خليل والفنان جمال كامل وألفريد فرج الكاتب المسرحى وأيضا الراحل العجوز والمناضل الكبير عمر رشدى.. وضعوا الحديد فى أيدينا جميعا وذهبوا بنا إلى سجن القلعة. الزنازين هناك مصنوعة من أحجار عجيبة فهى ضخمة جدا وسميكة تضمن أن الداخل فيها معزول عن العالم صوتا وصورة، وهى زنازين عملوها للمماليك المشاغبين واكتشفت أن فى زنازين أخرى الكاتب والمفكر محمد عودة ومحمود المانسترلى وعلى الشوباشى.. وقرروا ذات يوم أن نخرج من القلعة إلى حيث إحد المعتقلات المتطرفة. وفى منتصف الليل حشروا أكثر من خمسين معتقلا فى عدد من السيارات والحديد فى أيديهم وأرجلهم وساقونا إلى معتقل الفيوم ووضعونى فى حديدة واحدة مع أحد أكبر العقول الاقتصادية المصرية الدكتور عبدالرازق حسن.. وعندما جاء الدور علينا للعرض على البيه المأمور.. وقف الشاويش يسأل موجها كلامه إلى الدكتور عبدالرازق حسن وقال: اسمك إيه؟ فقال: عبدالرازق حسن.. وكان الشاويش اسمه غطاس شكله يشبه الأتوبيس النهرى وكف إيده فى حجم خف الجمل.. قال للدكتور: انطق اسمك صح يا وله! فغضب الدكتور وقال: أنا الدكتور عبدالرازق حسن مش وله! فقام الشاويش غطاس بلزق الدكتور قلمين وهو يقول: مافيش دكترة هنا، الدكترة دى عند الست الوالدة.. إنت هنا وله.. وستين وله كمان.. مفهوم! وقال الدكتور: أنا أحتج.. وقبل أن يكمل كلامه وكنت مربوطا معه بحديدة واحدة وجدتنى أتشقلب فى السماء وأهوى على الأرض شلاليت على أقلام على بونيات.. ودفعوا بنا إلى داخل العنبر.. ثم جاء المأمور.. ونظر إلى الفنان زهدى.. وقال له: إنت شكلك مش غريب علىّ.. إنت بتشتغل إيه؟! فأجاب الفنان زهدى: أنا رسام كاريكاتير، فقال المأمور بعد أن عض شفتيه: آه.. شاعر يعنى فضج الجميع بالضحك وأكلنا علقة لم يأكلها حرامى فى مولد! وتنقلنا بعد ذلك إلى عدة معتقلات منها معتقل الواحات، وهناك قابلنا عمك صلاح حافظ صاحب أجمل الأقلام فى الصحافة العربية.. وكنا نراقب سلوك عمك لويس عوض فى دهشة فهو يلتزم بالتعليمات ويقوم بتكسير الحجارة بحيوية وحماس شديدين والأغرب بقوة وكأنه عضو عصابة الخط بتاع الصعيد.. ومع ذلك لم يتخل هذا الرجل عن كبريائه على الإطلاق. وذات يوم جمعة وهو يوم إجازة.. اقتحم الزنزانة التى يقيم بها لويس عوض أحد الحراس العواجيز وهو على الرغم من كونه متقدما فى السن، فإنه يملك صحة وقوة تساوى قوة جاموس وحشى! نظر فى وجوه كل المعتقلين ثم قال: أنا عاوز واحد.. متعلم ونبيه.. فرد على الفور لويس عوض.. وقال: أنا فأمره الشاويش أن يتبعه.. وتعلق كل المعتقلين بنوافذ العنابر لمعرفة السبب الذى اختار الشاويش واحداً بينهم فى حجم لويس عوض.. المهم أنهما لويس والشاويش بلغا منتصف الحوش فتوقف الشاويش وأخذ ينزع غطاء البكابورت وكان طافحاً.. ثم نظر إلى لويس عوض وقال: انزل ياله.. سلك البكابورت ده!! ونظر لويس عوض إلى منظر الشاويش الذى كان يشبه الغوريلا بعد أن لاحظ أن علامات الغضب بدأت ترتسم على وجهه.. فقام على الفور وشمر عن سواعده ونزل البكابورت ليسلك البلاعة على الوجة الأكمل، وكانت إهانة عظيمة ولا تغتفر.. لمثقف مصرى عظيم لن يتكرر فى حجم وقامة عمنا لويس عوض. وقد استوقفت عم محمود لأسأل: إن كل من تكلمت عنهم من المحسوبين على قوى اليسار.. ألم يقع فى طريقك أحد من الإخوان المسلمين!! ضحك عم محمود قبل أن يجيب.. كان فى الواحات عنبرين واحد للإخوان والتانى بتاع الشيوعيين.. لكن يا سبحان الله الفارق بين العنبرين زى الفارق بين السما والأرض!، كان الشيوعيون فعلاً ناس عندها مرونة وممكن التعامل معهم حتى مع الإخوان لم يقطعوا شعرة معاوية بالعكس حاولوا دائماً أن يفتحوا قنوات للحوار، ولكن محاولاتهم كلها فشلت، فقد كان الإخوان لديهم اعتقاد بأن الشيوعيين كفرة وملحدون وأنهم لا يستحقون إلا الموت وأن مصيرهم أزرق بعون الله، ويحكى لى السعدنى من حكاية مع أحد المساجين عن الإخوان فى معتقل الواحات وكان الجميع يقومون بعملية حفر الرمال ذات يوم شديد الحرارة وكان الإخوان يحفرون فى مكان بينما الشيوعيون يحفرون فى مكان مقابل، وشعر السعدنى بعطش رهيب وقال لى.. عبرت الحدود ووصلت إلى معسكرا الإخوان فوجدت شيخا يشبه الملايكة شعره اشتعل شيباً وملامحه فيها سماحة يجلس تحت فرع وضع عليه خشبة تصنع ظلا يتقى به حرارة الشمس، وكان أمام الشيخ جردل ماء لفه بخيشة مبللة وتحسست الجردل وقلت اللهم صلى على النبى الجردل خلى الميه زى التلج فى اليوم الملهلب ده ومددت يدى وأنا أستأذن فى شربة ماء.. فنظر إلىّ الرجل وهو يمسك بالجردل.. وقال: إنت حتعمل إيه فقلت له ح أشرب فقال لا مافيش عندنا ميه للشرب.. وسألته ليه ما هى الميه موجودة أهى ولله الحمد.. فقال.. أصل دى ميه طاهرة وأمسكت لسانى عن سب الرجل وقلت.. ميه طاهرة وهو أنا كلب ح أنجسها.. فأومأ الرجل برأسه وقال: إنت وزمايلك دول أنجس من الكلب.. فقلت للرجل والعطش يكاد يقتلنى.. هو فيه بنى آدم أنجس من الكلاب.. قال آه الشيوعى أنجس من الكلب فقلت له.. أنا مش شيوعى ولله الحمد.. فقال.. وحياة النبى.. أمال الحكومة قالت عليكم كده ليه.. بتتبلى عليكم ولا إيه!! فقلت للرجل وإنت صدقت كلام الحكومة قال.. آه طبعاً فقلت له أما أمرك غريب ياشيخ.. أهى نفس الحكومة دى لما جابتك هنا.. قالت عليك إنك قاتل ومجرم وسفاح وابن «...» وأنا ما صدقتهاش ولا حاجة.. ونظر إلىّ الرجل ثم سألنى عن اسمى.. فقلت محمود السعدنى وتبادلنا الحديث واكتشفت أن اسمه الشيخ طرطور من الإسماعلية وأنهم حكموا عليه بالإعدام وتم تخفيف الحكم بعد ذلك إلى المؤبد وأنه أمضى فى هذا المكان سنوات طويلة من عمره.. وأحببت الشيخ طرطور فقد كان رجلاً شديد الطيبة واكتشفت أنه لا يفهم أى شىء ولم يقرأ أى كلمة عن الشيوعية وكل معوماته عنها أن شيئا لنفسه حتى زوجته هى على المشاع وإن كل الشيوعيين يعبدون ماركس ولينين.. والغريب فى الأمر أن الشيوعيين كانوا على اطلاع على كل ما كتبه الإخوان وكل ما كتب عنهم. وأقول للسعدنى.. ألم تلعب أى دور فى التوفيق بين الجانبين قال.. ح أحكى لك حكاية حصلت علشان تعرف الإخوان وتفهم طبيعتهم كويس.. وسألنى.. فاكر الحادث الشهير لناقلة البضائع المصرية كليوباترا، قلت.. نعم قرأت عنه.. عندما رفضت إدارة ميناء نيويورك تفريغ شحنة السفينة وردت عليهم نقابة العمال عندنا بمقاطعة كل مراكب الشحن الأمريكية قال السعدنى: وكل النقابات العمالية فى العالم العربى عملوا نفس الشىء. ويضيف السعدنى.. فى صباح اليوم التالى اتجه كل الشيوعيين برابطة المعلم وذهبوا إلى إدارة السجن وطالبوا بإرسال برقية تأييد باسمهم إلى اتحادات النقابات فى مصر والعالم العربى وإلى الحكومة المصرية.. وعندما عادوا.. كنت أجلس مع الشيخ طرطور وسألنى عن هذه الجلبة.. فحكيت له الموضوع وقلت له لماذا لا تؤيدون هذا الموقف باسم الإخوان المسلمين؟ فرد على الفور أنت انتجننت يابنى وسألته ليه.. قال.. الحكومة دى كافرة ونحن لا نتعامل مع الكفرة مهما عملوا وليس بيننا وبينهم إلا الثأر فإذا أخذنا بثأرنا فى الحياة كان بها.. وإلا فموعدنا يوم الحساب العظيم.. ولكن نؤيد ولاّ نبايع ناس كفرة لا يمكن. ويومها أطلقت عليهم الإخوان الزعلانين! وأسأل السعدنى وكم أمضيت خلف الأسوار فى هذه الرحلة المضنية.. قال 18 شهراً بالتمام والكمال. قلت له.. حكيت لى عن إهانات وضرب وأشغال شاقة فى قلب الصحراء وفى عز القيالة وسب وطعن ونزال ومع ذلك فأغلب الذين اعتقلهم عبدالناصر من أهل الفكر والقلم والفنون خرجوا ليدافعوا عنه وظلوا على حالهم هذا بعد وفاته.. وهذا شىء لا أستطيع أن أجد له تفسيراً. أجاب السعدنى ونظراته تلمع.. وكأنه يستعيد شعوراً بالفخر والإعزاز.. نعم عبدالناصر أهاننا.. ولكنه أعز مصر. ويا سبحان الله.. أمضى معنا السعدنى فى سجن القناطر أقل من 18 شهراً ولكنها مضت وكأنها 18 ساعة لم يخل يوم واحد من السمر والسهر والحكايات.. وبعضها سجله السعدنى فى كتابه الجميل.. «الولد الشقى فى السجن» عندما تعرض لنماذج من عتاة الإجرام لم يسبق لكاتب صحفى أن تعرف عليهم أو عاش معهم أو دخل عالمهم!! ولكن تبقى أشياء أخرى لم يكتب عنها السعدنى وإن كان دائماً ما يحكيها، وهى قصة صديقه الفلاح إبراهيم نافع وهو غير الأستاذ إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة الأهرام ورئيس التحرير الأسبق، وأيضاً حكاية أحد أشرف الرجال الذين عملوا بالعمل العام كما يقول السعدنى وهو فريد عبدالكريم. أما حكاية إبراهيم نافع فقد أحزن السعدنى أنه جرجره وراءه حتى السجن وكان الوحيد الذى تم ضربه وتعذيبه فى قضية مراكز القوى، ولكن لفريد عبدالكريم قصة أخرى فقد كان السعدنى أثناء المحاكمات يقول إن فريد عبدالكريم سوف يدفع ثمن موقفه من قضية الفيلا الشهيرة التى استولى عليها السادات فى الهرم.. وأصل الحكاية كما رواها السعدنى.. أن السادات كان يسكن فى منطقة الأهرام وأن إحدى الفيلات الخالية من أصحابها قد أعجبته، ولذلك قرر أن يستولى عليها لنفسه.. أما الفيلا فكانت ملكاً للواء إبراهيم الموجى الذى كان متواجداً فى بورسعيد فى هذه الأثناء، وكان ناصر خارج البلاد فى زيارة للاتحاد السوفيتى وقرر السادات الذى كان يشغل منصب نائب الرئيس ويتولى مهامه بالنيابة أقول أفادنى السعدنى أن السادات قرر فرض الحراسة على الفيلا ولكى يتم تنفيذ هذا القرار كان لابد من أن يقوم بالتنفيذ وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء السيد أمين هويدى فى هذا التوقيت، ولكن الرجل رفض بشدة تنفيذ هذا القرار بفرض الحراسة على الفيلا وأصر على موقفه على ألا يبت فى الأمر حتى يعود عبدالناصر من رحلته وحدث أن السيد أمين هويدى أبلغ السيد سامى شرف بالأمر، خصوصاً بعد أن تحرك السيد فريد عبدالكريم وأقسم بأن السادات لن يستولى على هذه الفيلا إلا على جثته!، وخرجت مظاهرات وأقيمت ندوات ومؤتمرات على مستوى لجنة الجيزة فى الاتحاد الاشتراكى العربى تندر بخطوة السادات، ساعتها أرسل السيد سامى شرف للرئيس عبدالناصر فى موسكو رسالة إبلغه فيها بأمر قرار السادات التحفظ على الفيلا من أجل الاستيلاء عليها لنفسه فقال.. ناصر: يتوقف كل شىء ولا يتم اتخاذ أية قرارات حتى أعود وقابله ناصر عند عودته بالمطار ونال السادات ما نال من ناصر ولذلك أضمرها السادات فى نفسه.. والشىء الغريب أن السعدنى ذكر لى بأنه فى وقت ما قررت القيادة المصرية بالكامل وأعضاء الصف الأول من مجلس قيادة الثورة أن يتخلوا عن مناصبهم لكى يفسحوا الطريق للصف الثانى والثالث وعندها اكتشف السادات أنه لو خرج إلى المعاش فإنه سوف يتقاضى 75,26 جنيه.. ستة وعشرين جنيهاً وخمسة وسبعين قرشاً فقط لا غير، ولذلك قرر عبدالناصر أن يعين الرجل وزيراً لمدة سنة على الأقل حتى يمكن له أن يتقاضى معاش وزير وهذا الكلام ؟؟؟ السعدنى شهوده ولم يبق منهم على قيد الحياة سوى السيد سامى شرف أطال الله فى عمره. ويا سبحان الله ارتقى السادات فى المناصب حتى حل المرض بعبدالناصر فتم تعيين السادات نائباً للرئيس وعندما مات عبدالناصر اجتمعت اللجنة المركزية وقيادات الدولة لكى تقرر هل يستمر السادات رئيساً شرعياً للبلاد أم يتم اختيار مجلس رئاسى.. وتقرر استمرار السادات لحين إزالة آثار العدوان.. أو إنهاء مدته الرئاسية الأولى أيهما أقرب، وذلك بأغلبية الآراء ولكن السادات كان أكثر دهاء، فتخلص من الجميع بعد أن انضم إليه هيكل ثم تخلص من هيكل بعد ذلك.. إنها نفس الحدوتة ولكن فى ثوب جديد ستجدها تتكرر فى تاريخ مصر منذ أيام عمك محمد على مع المماليك وعمر مكرم.. وحتى يومنا هذا. رحم الله الجميع.∎