من حسن طالعي أنني عندما بدأت أعي الأشياء وأستوعب الأسماء وأتعرف علي الأشخاص وجدت نفسي أمام خبيئة بشرية ضمت كنوزا من البشر كان أول من أحببت عمي وتاج رأسي المرحوم كامل الشناوي صحيح أنه مات وأنا لم أبلغ من العمر خمس سنوات، لكنني أحفظ كلماته لي عن ظهر قلب وكان الولد الشقي السعدني الكبير رحمه الله عندما بدأنا نتعلم الكلام ونردد كما البغبغان ما نسمعه.. أقول كان السعدني يعلمنا الشتيمة والسباب، ففي البدء كان الكلام محصورا علي قاموس حارة رابعة وكنا عندما نردد ما يلقيه علينا السعدني من ألفاظ، نجده لا في الوضع ضاحكا، ولكن إن شئت الدقة.. ساخرا، وكنا نعشق أن نراه علي هذا الوضع ونتسابق هالة شقيقتي الكبري وأنا علي ترديد كلمات بالطبع لا أستطيع الإشارة إليها لأنها تتعارض مع قانون النشر، وكان كامل الشناوي رحمه الله يتقي سيل الشتائم التي أقابله بها بالهدايا، وبالطبع لم يدر بخلدي أن الشناوي ينافقني وظننت أنه سعيد منشكح بما يتلقاه من سباب، وكان يضحك من أعماق القلب أحيانا ويكظم ضحكه داخله إذا كان هناك ضيوف من ذلك النوع الذي يشرب جردل نشا قبل أن يغادر منزله ليحضر عزومة أو سهرة في منزلنا، وكان عم كامل يقول لي أنت لسانك أوسخ من لسان جليل البنداري، بس الفرق بينك وبينه إن عمك جليل لما ياخد مني هدية يبطل يشتمني، إنما أنت طول النهار عمال أغرقك في هدايا وأنت تحميني شتيمة، وكان السعدني سعيدا بهذا الأمر.. فيراقب عن بعد ما نفعله بأصدقائه ولا يتدخل في الأمر إلا عندما يهدد الضحية بالانسحاب وترك البيت ويقسم بأغلظ الأيمان أنه لن يدخل للسعدني بيتا بعد اليوم، وبالطبع نال كل أصدقاء السعدني من قلة أدبنا الشيء الكثير، ما عدا قلة قليلة، فقد كنت أنظر إلي إحسان عبدالقدوس علي أنه خواجة بفضل بشرته التي كانت تبدو حمراء وكدت أقسم ذات يوم أنني أشاهد الدورة الدموية وهي تسير في وجه هذا الرجل، فقد كان وجهه شفافا وشعر رأسه فضيا علي أسود وليس أبيض في أسود، وكان شبيها بممثلي السينما الأمريكية، ولم نستطع أن نمارس هوايتنا مع هذا الرجل ظنا منا أنه ألماني أو إنجليزي لن يفهم لغوتنا، ولكنه عندما تكلم اكتشفنا أنه يتكلم مثلنا وأنه مش خواجة ولا حاجة، وكنت أول مرة في حياتي ألتقي به في مكتبه وكان عمري يومها خمس سنوات كنت قد التهمت كمية من الدواء تكفي لقتل جمل في تمام صحته وكامل عنفوانه ويومها اتصل عم إحسان بناء علي طلب من السعدني الكبير بمستشفي قصر العيني لكي ينقذوا حياتي، ومع ذلك أحسست أن جبل الجليد بيننا لن يذوب علي الإطلاق، فملامح الرجل لا تنبئ بأنه سوف يتلقي شقاوتنا بالمراحب الحارة واعتبرناه هالة وأنا من البشاوات الذين كنا نتفرج عليهم في أفلام الأبيض والأسود، أما العم أحمد بهاء الدين فقد كان صامتا وقورا قليل الكلام يستمع أكثر مما يتكلم لا يميل إلي الهزل أو الهزار وتعلمت منذ اللحظة الأولي التي شاهدت فيها هذا الرجل أن أكون حريصا في اختيار الكلمات والألفاظ والحركات، وظل هذا السلوك قائما منذ طفولتنا المبكرة وحتي رحيل العم بهاء عن دنيا الأحياء وبصريح العبارة تعلمنا احترام الغير ونحن في سن مبكرة بسبب هذا الرجل الذي يجبرك علي أن تنظر إليه باعتباره جبلا شامخا وشيخا وقورا مع أنه كان في شرخ الشباب في العقد الرابع من العمر، وقد تعلمت أن أستمع أو إن شئت الدقة أصمت وأنا في حضرة أحمد بهاء الدين، ولذلك كان العم بهاء دائم الشكوي للسعدني الكبير من أنني لم آخذ عنه - أي السعدني والعم صلاح - ملكة الكلام، فكان يسأل: لماذا أكرم صامت دائما؟.. ولم يكن أحمد بهاء الدين يعلم أنني في صمتي مرغم وفي سمعي مكره نفسي علي ذلك، لأنني في حقيقة الأمر كنت أستمع إلي عصير تجربة وحياة وقراءات وثقافة وفكر رجل قلما جاد الزمان بمثله ولم أكن حتي أمنح انفعالاتي أي فرصة للظهور، وقد كانت الدهشة تحتل كياني بأكمله وأنا أري كيف كانت علاقة محمود السعدني بأحمد بهاء الدين عجيبة ومثيرة وغريبة ومدهشة، فقد كان العم بهاء من مواليد عام 1927 وهو العام نفسه الذي شهد مولد السعدني، ومع ذلك لم يكن السعدني ينادي أحمد بهاء الدين باسمه، ولكنه كان يناديه بالعم بهاء، فقد كان يحترمه بشكل مثير للدهشة ويعشقه ويحرص علي قراءة ما يكتبه في الصحف العربية والمصرية، ومع ذلك كان السعدني علي خلاف شديد مع العم بهاء فيما يخص عصر وشخص وحكم ونظام الرئيس الراحل أنور السادات، وكانت نظرة الرجلين أيضا مختلفة حول شخص الرئيس الراحل والزعيم الأخلد في تاريخ العرب جمال عبدالناصر، ولكن شخص الرئيس المخلوع حسني مبارك كان محلا للاتفاق بين الرجلين وحتي لا يفهمني أحدهم خطأ فأرجو الانتظار حتي الانتهاء من قراءة مقالي هذا ولعلني أبدأ أولا بالحوارات التي جرت في العراق والكويت ومصر وامتدت لعشرات السنوات بين الرجلين وأحدهما هو ساخر الأمة الأكبر والثاني هو أحد أخطر وأهم كتابها ومفكريها ومحلليها علي الإطلاق، ولعلني أستأذن في أن أبدأ من العراق، حيث جاء الأستاذ الكبير أحمد بهاء الدين بدعوة من الرئيس العراقي صدام حسين واصطحب معه ابنه الصديق العزيز زياد وزارنا الأستاذ بهاء في منزلنا الكائن بحي «المتنبي» وكان السعدني قد دخل معارك الهول بسبب ما نعانيه في هذا الحي من إهمال في المرافق فسخر من رئيس الحي في جريدة «ألف باء» التي كان يرأس تحريرها الشاعر العربي العراقي الكبير شفيق الكمالي، وقامت الدنيا ولم تقعد فقد اعتبر رئيس الحي سخرية السعدني منه إساءة إلي شخصه وإلي القبيلة الكبيرة المفترية التي ينتمي إليها وكادت الأمور تصل إلي حد القتل لولا تدخل الرئيس العراقي شخصيا والذي طلب عن طريق مكتبه صباح سلمان أن يتصل بالسعدني ويبلغه أن مصر ليست العراق وأن عليه أن يتصل بالرئاسة لو أراد حل أي مشكلة بسبب المياه أو الكهرباء أو ما شابه ذلك، وصارح السعدني العم بهاء بالمأساة التي يعيشها فحتي رئيس الحي في العراق لا تستطيع أن توجه له النقد، فكان رد العم بهاء بأن علي السعدني أن يصبر، وكان رأيه أن نظام الرئيس السادات لن يستمر طويلا في الحكم ويسأل السعدني عن السر وراء هذا الاستنتاج فيقول العم بهاء أن السادات تحول إلي كارت محروق بالنسبة للأمريكان وأن أي إدارة سوف تأتي بها الانتخابات الأمريكية المقبلة سوف تنفض يديها من السادات لأن علي مصر أن تعود وتقود المنطقة نحو عملية السلام فتتسع لأكبر عدد من البلاد العربية وإسرائيل، لكن السعدني كان متشائما إلي أبعد حد وصارح العم بهاء قائلا: أنا خايف يا عم بهاء السادات يطول في الحكم وأنا لو مت في المنفي ده العيال حيعملوا إيه ويروحوا فين؟! ولم يرد العم بهاء الذي تأثر كثيرا بكلام السعدني أن يجيب عن تساؤلات السعدني، ولذلك فقد غير الحديث وقال: سيرتك جت النهارده مع الرئيس صدام.. فيقول السعدني: خير! ويرد بهاء: الرجل سألني سؤالا مباشرا: تفتكر مين من الصحفيين الموجودين عندنا في العراق في حال العودة إلي القاهرة ممكن يصبح له شأن هناك؟! ويكمل الأستاذ بهاء: علي الفور أنا رديت وقلت محمود السعدني، فضحك الرئيس صدام وقال: السعدني كاتب ساخر لا يتحمله سوي مجتمع أشبه بالمجتمع المصري، ويعلق الأستاذ علي كلام الرئيس صدام: السعدني نبتة من التربة المصرية، لكن عنده قدرة علي التكيف مع المتغيرات، لقد تصورت أنه سينهار عندما سجنه السادات، لكنه خرج أقوي مما كان، ولذلك أنا أعتقد أن السعدني سيلعب دورا كبيرا إذا عاد إلي مصر، ثم توقف الأستاذ عن الكلام واقترب من السعدني وقال بصوت هامس: لقد عرض علي الرئيس صدام أن أقيم في العراق في الوقت والمكان الذي أحدده، وهنا ارتسمت السعادة بعلاماتها التامة علي وجه السعدني، وهو يسأل الأستاذ: قلت له إيه؟ فأجاب العم بهاء: أنا شكرت للرئيس عرضه وقلت: إنني أعتبر العراق وطني الثاني، لكنني في الوقت نفسه لا أخفي عليك يا سيادة الرئيس أنني حريص علي الاحتفاظ بشعرة معاوية مع الرئيس السادات.. وكان معروفا أن الرئيس صدام أغضبه بشدة اختيار أحمد بهاء للكويت لكي تكون المنفي الاختياري الذي فضله الأستاذ علي غيره من البلاد العربية.. وقد أثني السعدني علي رأي بهاء وهو يقول: أنا كتبت عن الراجل بتاع حي المتنبي وقلت يظهر أنه من أنصار البحتري أو أبونواس واتريقت عليه لإهماله في الشوارع والكهرباء التي تنقطع في الصيف فيتحول البيت إلي قطعة من جهنم، القبيلة بتاعة الراجل هددتني بالقتل أنا وعيالي فضحك عم بهاء وهو يقول: طيب وأنا ح آجي هنا أعمل إيه بقي يا محمود.. ويقول السعدني: علي الطلاق يا عم بهاء في رحلة المنفي السودة دي أنا ما شفت راحة في عملية الكتابة إلا في الكويت.. فيه حرية حقيقي عند الناس دي في الصحافة ويستشهد السعدني بواقعة جرت له في صحيفة عربية شهيرة، فقد كتب فيها مقالا عن «بيليه» الجوهرة السوداء وقال فيما كتب أنه ملك الكورة بلا منازع، ولكنهم عندما نشروا المقال وجد أنهم غيروا وكتبوا أنه رئيس الكورة بلا منازع، تصدق بقي فيه رئيس للكورة؟! ويضحك العم بهاء ويكمل السعدني: أصله مافيش في الكون غير ملك واحد بس هو اللي بيحكم، لكن نقول ملك الصحافة أو الكورة أو ملك التغطية، ده ممنوع خالص ومش مسموح به أبدا! وهو يستعد للرحيل قال العم بهاء: أنا أنصحك يا محمود تهدي الجو واللعب شوية مع الجماعة هنا لأن طبيعتهم حادة شوية زي ما أنت عارف ويا ريت تستحملهم لحد ما الأولاد يخلصوا تعليمهم وبعد كده ربنا يسهلها، واحتضن السعدني العم بهاء وكأنه لن يراه بعد ذلك اليوم أبدا وحبس السعدني دمعة في عينيه وكذلك فعل العم بهاء وعلي العكس خدعتني دموعي وأنا أشهد هذا الوداع المأساوي. العدد المقبل السادات وبهاء والسعدني