محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    الجيش الأمريكي: جماعة الحوثي أطلقت صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر    الشرطة الألمانية تفض بالقوة اعتصاما داعما لفلسطين في برلين    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    مجلس جامعة كولومبيا يصوت على قرار للتحقيق مع الإدارة بعد استدعاء الشرطة لطلبة متضامنين مع غزة    4 أيام متواصلة.. تعرف على عطلة شم النسيم وعيد العمال والإجازات الرسمية حتى نهاية 2024    اليوم.. جلسة محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف عمرو أديب    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    واشنطن تعلن عن مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 6 مليارات دولار    استشهاد شابين فلسطينيين في اشتباكات مع الاحتلال بمحيط حاجز سالم قرب جنين    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    حقيقة انفصال أحمد السقا ومها الصغير.. بوست على الفيسبوك أثار الجدل    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    عاد لينتقم، خالد بيبو: أنا جامد يا كابتن سيد واحنا بنكسب في الملعب مش بنخبي كور    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 27 إبريل بعد الانخفاض الآخير بالبنوك    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    رسالة هامة من الداخلية لأصحاب السيارات المتروكة في الشوارع    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    2.4 مليار دولار.. صندوق النقد الدولي: شرائح قرض مصر في هذه المواعيد    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    حضور جماهيري كامل العدد فى أولي أيام مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير .. صور    حدث بالفن|شريهان تعتذر لبدرية طلبة وفنان يتخلى عن تشجيع النادي الأهلي لهذا السبب    محمد هلب: السيارات الكهربائية بمثابة مشروع قومى لمصر    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    تعطيل الدراسة وغلق طرق.. خسائر الطقس السيئ في قنا خلال 24 ساعة    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    وسام أبو علي يدخل تاريخ الأهلي الأفريقي في ليلة التأهل للنهائي    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    حريق يلتهم شقة بالإسكندرية وإصابة سكانها بحالة اختناق (صور)    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلال فضل يكتب: مولانا أبو البهجة محمود بن عثمان السعدني .. أسعد الله أيامك!
نشر في الدستور الأصلي يوم 07 - 05 - 2010

بصراحة ومن الآخر.. البلد التي يبلغ فيها كاتب بحجم وقيمة وبهججة عمنا محمود السعدني أعتاب الثمانين دون أن تعرف قيمته أو تكرمه كما ينبغي هي بلد لامؤاخذة.. لامؤاخذة تأكل أبناءها. وماأكثر ماتأكل مصر أبناءها.
قد ترى في كلامي هذا مبالغة بوصفي سعدناويا حتى النخاع، وقد ترى أن محمود السعدني أخذ حقه من الشهرة والإنتشار والذيوع، لكنك لن تكون منصفا وقتها لأن ماحصل عليه محمود السعدني لم يحصل عليه سوى من القارئ المصري البسيط، أما الدولة فقد أدارت ظهرها له أغلب الوقت، بدليل أنه لم يحصل على أي من أوسمتها وجوائزها الرفيعة التي تمنح أحيانا لمن لايستحقها، وفيما تطلق أسماء من هب ودب على أكبر ميادين وشوارع مدننا لم يحدث أن تم إطلاق إسم السعدني ولو حتى على مدرسة ثانوي أو قاعة محاضرات في كلية إعلام أو قسم صحافة، لم تطبع ولو مرة أعماله الكاملة في مكتبة الأسرة في حين أصدرت الأعمال الكاملة للموقوذة والنطيحة والمتردية ومارفض السبع أن يأكله، لم تجمع آلاف المقالات التي كتبها طيلة ستين عاما من الصحافة في كتب توثقها، لم يحدث ولو على سبيل الخطأ إعادة تمثيل عمل من أعماله المسرحية البديعة التي صدرت طبعة جديدة منها على إستحياء قبل أعوام ولم يتم تكرير الخطأ ثانية برغم نفادها، لم يتم تحويل أي من أعماله الأدبية الساحرة إلى أعمال تلفزيونية تبهج الناس، وفيما أنتج من هب ودب ماتهبب وتدبب من المسلسلات ظل مسلسل الولد الشقي متعثرا طيلة سنين برغم أنه لو أنتج لأصبح حدثا تلفزيونيا بكل معنى الكلمة، برامجه التلفزيونية التي أمتعت الملايين اختفت في المكتبات برغم أنها أجدى وأهدى من برامج السقالة الموجهة التي تخصص تلفزيوننا الرائد فيها، وحتى أعمال السعدني البديعة في الإذاعة من مسلسلات وسهرات وبرامج تركت منسية لتأكلها الفئران في مكتبات الإذاعة. أليس في هذا بذمتك ظلم بين لكاتب أبهج المصريين كما لم يفعل أحد من قبله. أنا راضي ذمتك.

لاأدعي أنني الوحيد الذي انفرد بالدعوة لتكريم السعدني ومنحه أرفع أوسمة الدولة التي حصل عليها من قبله كتاب يمكن أن يظهروا في أي بلد من آيسلندا إلى جزر الكايمان دون أن يفرق ظهورهم في شيئ، واستكثرتها مصر الرسمية على السعدني أحد الكتاب القلائل الذين لايمكن أن يظهروا إلا في مصر، فلم يجسد الروح المصرية بكل عظمتها وسخريتها وغرابتها أحد مثله. دعا لذلك كثيرون قبلي كان آخرهم الصديق حمدي حمادة أحد أبناء السعدني البررة الذي كتب قبل أشهر مقالا يطالب فيه بتكريم رسمي للسعدني بمناسبة مرور ستين عاما على عمله بالصحافة، وتصورت أن نقابة الصحفيين ستتبنى دعوة حمدي حمادة وتفاجئ بها السعدني في عامه الثمانين، لكن النقابة على مايبدو تعاملت مع السعدني على أنه صاحب خصومة لأنه رفض أن يدخل النادي النهري للصحفيين الذي أنشأه تحت وصايتها، وهو موقف أتمنى أن تعالجه على الفور بتنظيم احتفالية ضخمة تليق بمحمود السعدني الذي إذا لم تكن الدولة لتكرمه فليس أقل من أن يكرمه صحفيو مصر بوصفه واحدا من آباء الصحافة العظام.
في يوم عشرين الفائت أكمل السعدني عامه التاسع والسبعين متجها نحو الثمانين من عمره المديد، وبإستثناء كام سطر في أخبار اليوم وصوت الأمة وكام صفحة في صباح الخير، لم يلتفت أحد للمناسبة مع أنه كان سيكون جميلا لو التف الجميع حول عمنا السعدني خاصة في ظل ظروف صحية صعبة كالتي يعيشها منذ فترة شفاه الله وعافاه. لمة عائلة السعدني حول عميدها أنعشته كثيرا كما حكى لي أبي الذي لم تلده ستي الفنان الكبير صلاح السعدني، عادت الضحكة الصافية الرائقة إلى وجه عم محمود فور أن رأى لمة أبناءه وأحفاده حوله، في الصورة التي أعطاها لي عم صلاح رأيت طفولة الولد الشقي تعود من جديد إلى وجه عم محمود، انظر بنفسك إلى وجهه الذي زالت كل ملامح التعب والإجهاد من عليه وهو راقد على سريره يمد يديه ليتلقف بحب الدنيا آخر العنقود السعدني عبد الله إبن الممثل الصاعد المتطور من عمل لآخر أحمد صلاح السعدني. "ياحبيبي ياعم محمود" قلتها من قلبي والله وأنا ألوم عم صلاح لأنه لم يأخذني معه لأطبع على جبين عم محمود ويديه قبلات لعلها توفي بعضا من جمايله علينا منذ قرأنا له ونحن عيال في سن الضياع وحياة الضياع كذلك، كلما أعطتنا الدنيا في مواضع كثيرة من بينها القفا تذكرنا الولد الشقي وقلنا لعل وعسى تحن علينا الدنيا يوما كما حنت عليه.
ياااه. أسأل نفسي الآن كم مرة قرأت الولد الشقي بأجزائه، فلاأتذكر، ولاأجد إجابة أنسب من أني لم أقرأ الولد الشقي بقدر ماعشته. عندما ساقتني الأقدار وأنا في السنة الرابعة من دراستي الجامعية لأسكن في غرفة حقيرة بشقة أحقر بعمارة أكثر حقارة في حارة سمكة التي شهدت مولد السعدني وصباه، كان مايعزيني على انقطاع المياه الدائم ومعاشرة الأبراص والفئران وتلاصق البيوت ببعضها وقلة الزاد ووعثاء النوم ووساخة الحيطان هو تذكيري الدائم لنفسي بأنني أعيش في مكان اندفن السعدني فيه بالحيا ثم خرج إلى الدنيا الواسعة ليكتب عنه تلك الكتابة العظيمة. لم أكن أعرف وقتها أنني سأصبح واحدا من تلاميذه ومريديه. تعرفت على عم صلاح من خلال كتابتي في الدستور، عشت معه أياما جميلة وتعرفت من خلاله على ألمع كتاب وفناني مصر الذين شكلوا وجداني ووجدان الملايين، لكنني لم أجرؤ يوما على أن أطلب منه أن يعرفني على عم محمود، كأن ذلك كان حلما بعيد المنال لاينبغي أن أطلبه، حتى جاء اليوم الموعود من أيام عام سبعة وتسعين المفترجة الذي قال لي فيه عم صلاح " عم محمود عاوز يشوفك.. تعال نروح له النادي"، ملامح الإرتباك وأمارات الخجل والتعثر جلبت لي شتيمة قبيحة من عم صلاح، معذور بالنسبة له هو عم محمود أخوه الأكبر أو أبوه إن شئت الحق، أما بالنسبة لي فهو الونيس والجليس والمبهج والمفرج في ليالي سوداء من الفقر والنكد وإنعدام ملامح الآتي. عندما قلت للمرة العاشرة "أنا مش مصدق نفسي" استحققت شتيمة قبيحة أخرى، وقررت أن التزم الصمت لكي لايكسب عم صلاح ذنوبا أكثر.
عندما وصلنا إلى النادي ظننت أن عم محمود يحتفل بمناسبة ما، قبل أن أعرف أن مارأيته هو العادي بتاع كل ليلة، القعدة التي تجمع الحابل بالنابل وأبو قرش على أبو عيار 24 قيراط، الطواجن التي ستأكل منها بإشراف مباشر من عم محمود، والبهجة التي ستغرق فيها حتى أذنيك. عندما أنظر إلى الصورة التي التقطها لي صديقنا حسن عبد الفتاح أشعر بالإمتنان لعم محمود لأنه وافق على إستقبالي وأنا أرتدي قميصا كالذي ترتديه في الصورة، عندما قلت له أكثر من خمسة مرات أنني كنت أسكن حارة سمكة إلى وقت قريب كان يضحك من قلبه في أول ثلاث مرات لكنه عبس في الرابعة وفي المرة الخامسة كسب ذنبا هو الآخر قبل أن يقول لي " إوعى تكون فاكر الكتابة بإنك تسكن في حارة معفنة". يومها قال لي ملاحظات على أداء الدستور الصحفي لكنه كان فرحانا بها جدا، كم كان جميلا وهو يختم ملاحظاته بتأكيد معلم عظيم أن كل ملاحظاته هذه لاتساوي شيئا أمام جمال أن نجرب ونخطئ ونتعلم من أخطائنا. لولا الملامة يومها لقررت أن ابات في نادي الصحفيين النهري، كان مقعدي إلى جوار السعدني مطمعا لعدد من الوافدين على القعدة بينهم وزراء حاليون وسابقون وفنانون وكتاب أعشقهم لو طلب أحدهم أن أحمله على كتفي لفعلت، بعضهم سأحمله وأرميه في النيل للأمانة، لكن لتكن النطاعة ديدني، أنا قتيل هذا الكرسي وليحدث مايحدث.

شوف.. أنا لست عبيطا. لو عرفتني لعرفت ذلك. أنا للأسف رغاي ولساني متبرئ مني، لكن تعال وشفني وأنا أجلس في حضرة محمود السعدني لتحس أنني طالب هرب لتوه من معهد التنمية الفكرية، أنظر إليه طول الوقت وابتسامة بلهاء ترتسم على وجهي ستراها جلية في الصورة لأنني كنت طيلة جلوسي في حضرته أقضي الوقت في تذكر فقرات بالكامل من الولد الشقي ومسافر على الرصيف والطريق إلى زمش، كنت أظن أن بلاهتي تلك غير ملحوظة لكنني أدركت خطلي وهطلي عندما تصورت أنها ستعدي على عين لاقطة كعين السعدني. بعد عام عرفت ذلك. في عام 98 كانت الدستور قد أغلقت في عز العهد الذي لم يقصف فيه قلم لأعود من جديد إلى مكابدة حياة الشك والشكك، أتخبط بين مجلة والأخرى ناشرا حوارا هنا وتحقيقا هناك، مرة ذهبت إلى الأسبوع لأعطي مقالا للصديق الأستاذ مصطفى بكري، قابلني بالأحضان مهنئا وقائلا "تستحقها والله.. عمر بطيشة قال لي إن عم محمود السعدني قايل عنك كلام كتير في برنامجه اللي هيتذاع في رمضان". خرجت من مبنى الأسبوع وأنا أشعر أنني أكبر من الكون، لم أكن أعرف ماقاله عني عم محمود، لكنني اعتبرت أن ماقاله لو لم يكن رائعا لما تذكره عمر بطيشة ونقله لمصطفى بكري، كل شوارع وسط البلد جبتها وأنا أتنطط سعادة، لم يكن التحرش الجنسي قد اخترعوه في وسط البلد أيامها وإلا لكنت يومها ضحية مضمونة للذئاب البشرية، ماذا تقول في شحط يتنطط وهو يضحك ويكفكف دموعه في ايام لم يكن قد انتقل مركز تواجد إخواننا المثليين الذين ليسوا مثلي ولامثلك من وسط البلد إلى أفلام إيناس الدغيدي، كان قد بقي على رمضان أسبوعان لعن فيها كل من أعرفهم يوم معرفتي من فرط ماحكيت لهم وبشرتهم باليوم الموعود الذي سيسبح صوت محمود السعدني في موجات الأثير ليقول لهذه البلد التي لاتعرف قيمتي أن تلم نفسها وتأخذ بالها مني، لو كنت مكاني لقمت بكل أدب بالإتصال بالأستاذ عمر بطيشة لتسأله عما قاله السعدني عني أو حتى لمعرفة اليوم الذي ستذاع فيه الحلقة، لكني اعتبرت أن ذلك سيقلل من قيمتي التي لم ألحق في تثبيتها في ذهن الرجل، لا، لابد أن أتقل لأسمع بنفسي، أستاذ عمر، إذا كنت لاتزال تسأل نفسك عن الأرقام التي كانت تتصل بك على الموبايل وتقفل فور سماع صوتك، لك أن تعلم إني كنت المتصل، وإذا كنت قد سببت لك إزعاجا فلك أن تعلم أنني دفعت ثمن تلك المكالمات من حر مالي ودم قلبي أيام كان سماع صوت رجل كارت الميناتل وهو ينبئك بقرب إنتهاء الكارت أمرا محزنا بحق.
كل يوم في الشهر المبارك كنت أبدأ الأهرام بقراءة صفحة التلفزيون حيث يعلن عمر بطيشة عن ضيف برنامجه "ضيوفك مين سنة 2000"، أوبّز الناس، إسم البرنامج يوحي بالضرورة أنني سأكون واحدا منهم، يابركة عياطك على حال إبنك ياأمه، هاهو قد تغير. عندما جاء اليوم الموعود لم يفطر أحد من أهلي الذين حشدتهم كما ينبغي، صوت الراديو واصل إلى آخر الشارع، ونظرات العتاب تنبعث مني على كل من يفكر في مد ملعقة إلى طبق، بدأ البرنامج وبدأ عم محمود يختار ضيوفه في سنة 2000 والذين من المفترض أن يكون لهم مستقبل الآن يجعل لهم سنة 2000 شنة ورنة، لاأذكر أنني سمعت شيئا مما قيل قبل ورود إسمي سوى إسمي الروائي محمد ناجي واللاعب أحمد حسن، عندما سأله عمر بطيشة من سيستضيف من الصحفيين كدت أهتف ياهذه الدنيا أصيخي واسمعي، لكن أصوات زكية زكريا المنبعثة من شقق الجيران كانت تنبئ بالعكس، لاشيئ يهم، يكفي أن أصيخ وأصغي أنا وعائلتي ومن أحب، " هو في واد لما تشوفه شكله غريب قوي طويل قوي وتخين قوي، شكله عبيط لما تشوفه تحس إنك عايز تديله عسلية لكن لما تقرا له تلاقيه صحفي جامد قوي.. وهيبقى ليه مستقبل كبير"، لاأعتقد أن الذاكرة قد خانتني في تذكر ماقاله، كدت أقلب طبق البامية الملتهب على خالي وأنا أفط إلى السماء بعد لحظات من التجمد كنت أتشبع فيها باللحظة، وجوه من حولي لاتبدو فرحة، يقولون لي وبئس ماقالوا "فرحان ليه ده قال عليك شكلك عبيط"، لم يكن ردي منطقيا على مايبدو عندما قلت "عارفين يعني إيه إن محمود السعدني يقول عليا كده.. أو يجيب سيرتي أساسا". يتحرق كل من لم يفهم أو من لم يكلف نفسه عناء تلبية رجائي بأن يسمع، يكفيني أنني عشت في زمن محمود السعدني وأنه اختارني من بين كل مريديه وتلاميذه ليتنبأ لي بمستقبل كبير.
"ياحبيبي ياعم محمود" أقولها كلما تذكرت لحظات الإحباط ولحظات النجاح. أقولها كلما تذكرت المكالمات التي كانت تأتيني من رؤساء تحرير كبار لصحف قومية ومستقلة وهم يتصلون بي ليعرضوا علي العمل معهم بناء على توصية من السعدني. "خايف عليك تضيع موهبتك" كان يقولها لي كلما قلت له أنني لم أذهب إلى فلان أو علان لأنني لاأحبه فكيف أصبر على العمل معه. عندما قلت له أنني تلقيت مكالمة من الأستاذ مكرم محمد أحمد لكي أعمل معه رئيسا لقسم الفن الذي بدأت أكتب فيه بعد إغلاق الدستور، وأنني سأذهب لأجرب حظي، قال لي "مكرم كويس وهتنبسط معاه"، قبل أن أعرف بعدها أنه هو الذي رشحني للأستاذ مكرم، هل ترى في حكاياتي هذه ثرثرة، من حقك، لكنني أراها تكريما لرجل كبير لم يفعل هذا معي وحدي بل فعله مع مئات قبلي وعشرات بعدي، إقرأ شهادة الصحفي الشاب سامي كمال الدين في كتابه "أيام مع الولد الشقي" لتدرك كم هو مملوء حنانا وجدعنة وأبوة هذا الولد الشقي الذي ياهناك وياسعدك لو أحبك، وياسوادك لو لم تنزل له من زور وشكك إفيها تعيش معه بقية عمرك.
عندما جاءت سنة 2000 كنت قد عدت للبطالة من جديد بعد أن تركت العمل في صحيفة القاهرة مع الأستاذ صلاح عيسى لأسباب يبدو أن وقت الحكي عنها قد حان، وكان أحمد حسن قد تعثر مستواه الكروي وترك البلاد إلى أندية مغمورة ماتعرف فين، وكان محمد ناجي قد توقف منذ فترة عن إصدار روايات جديدة. قلت لعمنا محمود ذات جلسة نهرية " الظاهر إن عشمك ماكانش في محله ياعم محمود"، كسب ذنوبا كثيرة ثم اتهمني بأنني خايب وماليش في الإستقرار وفرحان بالتنطيط، كان قد سبقني إلى ترك الكتابة في القاهرة قبل أشهر، لكنه كان يرى أن تركها لها شيئ وترك سنكوح مثلي لها شيئ آخر، "يعني هترجع ماتاكلش لحمة غير كل فين وفين". كان سيقولها "غير لما تيجي هنا" لكنه لم يرد قولها لكي لايضع ملحا على جراحي المعنوية.
اللحمة. لم أكن محتاجا لمعرفة السعدني لكي أدرك الموقع المركزي الذي تحتله اللحمة لديه، كتبه كلها كافية لإدراك ذلك. لدينا جميعا ماخلا "الفيجيتريان" منا اللحم سيد الطعام دون شك لكنه كان عند جيل الصعاليك العظام كالسعدني أكثر من ذلك. ربما لخصها ساخرا مرة الصعلوك الأعظم عبد الرحمن الخميسي الذي أهدروا دمه على مذبح سمير سيف، قالها لعم صلاح الذي سأله عن سر نهمه للحم، "شوف ياصلاح ياابني.. الدنيا دي حتتين لحمة واحدة ناكلها والتانية..."، قررت ألا أكمل الجملة لكي لاينقض أعضاء كتائب الإخواطيين حاصل جمع نواب الإخوان والوطني فيطلبوا نبش قبر الخميسي ودفني معه.
منذ المرة الأولى التي توقفت عن البحلقة في عم محمود ببلاهة وصرت قادرا على الأخذ والعطاء معه، دعاني بقلب جامد إلى ترابيزة العشاء التي كانت تضم أناسا كنت أرى صورهم وأنا في الإبتدائي وشاءت الأيام أن يجمعني بيهم عيش ولحمة راس وكوارع، لايجلس عم محمود على كرسيه إلا بعد أن يوزع بالعدل والقسطاس هبر اللحمة على الجالسين مختصا الغلابة مثلي بالحتت خالية الدهن والعضم، عيني ستروح إلى اللحمة وعليها لكنني لم أكن معتادا على الإحساس بالأمان وإلى جواري وزير داخلية سابق مثل اللواء عبد الحليم موسى ومدير أمن دولة مثل اللواء فؤاد علام فضلا عن كام وزير ومحافظ حالي وسابق، ظن عم محمود بي خجلا أو ترفعا، فزغدني قائلا " يااد كل لحمة مش هتلاقيها في بيتكو"، أخذتني العزة باللحم فقلت في إباء وشمم لكي أسمع أهل السلطة الجالسين إلى جواري " ده أنا لسه واكل لحمة من كام ساعة"، عديها ياعم محمود، لكن إزاي،"وكلتها فين بقى إن شاء الله"، كان لابد من التوضيح " كلت خمسة إنصاص كبدة وسجق في العربية اللي على ناصية شارع المحطة"، نلت قطعتي لحمة إضافيتين جزاء وفاقا لإنبساطه من شجاعتي. أخذت آكل وأنا أبحلق في وجوه الجالسين إلى جواري محاولا أن أفسر سر غرام محمود السعدني بإستضافة أهل الحكم خصوصا السابقين منهم، كانت الأفكار الطفولية لاتزال تسكنني، كل من يتولى السلطة لايمكن أن يكون فيه خير أيا كان، مرة حاولت أن أنكش عم محمود في هذا الموضوع فنلت وصلة هجوم حادة لأنني من أهل الحنجوري الذين يظنون أنهم يمتلكون الحقيقة وبمقدورهم الحكم على الآخرين وإعطائهم صكوك الغفران. مع الوقت أصبح لدي تفسير خاص أقوله لبعض أصدقائي الذين لم يكن تعجبهم قعدات السعدني، هو أن السعدني يحرص على إستضافة من هم مثلي من العامة والدهماء ليجمعهم بعلية القوم نكاية فيهم، كنت أبرر ذلك بالنظرات التي كنت أتلقاها من بعض هؤلاء عندما أرفع صوتي سائلا أو معترضا أو مثبتا حضوري الفكري وخلاص، كان الود ودهم لو سألوا السعدني ومين ده اللي إنت مقعده معانا وبتوجه له الكلام ساعات ولا بتسمع له أساسا، وإنتهى الأمر بإدراكي أن كثيرين من الذين كانت تضمهم قعدات السعدني بغض النظر عن تقييم أدائهم السياسي هم بشر في غاية الجمال يمكنك أن تتعلم الكثير منهم لو توقفت عن إصدار الأحكام وتركها للواحد القهار.
أشهد الله أنني حضرت جلسات كثيرة له مع رجال حكم وسياسة، وكان دائما جدعا وإبن بلد ومضيافا وكريما مع الكل، لكنه لم يكن يتباسط مع أحد إلا مع من كانوا قريبين من قلبه وأغلبهم كان خارج السلطة ولم يكن ممكنا أن يتربح من وراءه السعدني، كل من رأيتهم في قعدة السعدني كانوا يسعون إليه ولم يكن أبدا يسعى إليهم، أحيانا كنت أشعر أن الواحد منهم وهو في مقعد الوزارة سينحني على السعدني ليطلب منه خدمة أومصلحة، ولاأذكر أن السعدني أثار مع أحد من كل من رأيتهم من مسئولين في حضرته أمرا يخص مصلحة شخصية أو خدمة تخص أحدا من عائلته، بل دائما ماكان يسعى في خدمة الناس وقضاء مصالحهم، وفي ذلك يطول حديث الأجدى منه أن نطلب له الثواب من الله على سعيه الحثيث والدائم لقضاء حوائج الناس.
أذكر أنه عقب الحملة التي شنها ضد المستشار ماهر الجندي محافظ الجيزة والتي كاد عم محمود أن يذهب بسببها إلى السجن قبل أن تثبت الأيام أنه كان على حق ويذهب الجندي إلى السجن في قضية فساد،أيامها كان بعض الكارهين له يقولون أنه كان يشن الحملة على الجندي لأن لديه مصالح في المحافظة، وبعد أن تمت الإطاحة بالجندي وجاء المستشار محمود أبو الليل خلفا له كنت بالصدفة شرفت بحضور جلسة في مرسى النادي حضرها أصدقاء عم محمود المقربون، وجاء يومها المستشار محمود أبو الليل ليزور السعدني، كان للزيارة معان كثيرة لم تكن لتخفى على أحد من الحاضرين، حاول أحدهم أن يقول مايعني شماتة في المحافظ الراحل وإنتصار عم محمود عليه سياسيا لكن السعدني نهره بقوة وغضب قلما رأيته منه، قضيت القعدة كلها أراقب تعبيرات السعدني لأتعلم منه دروسا في الإنسانية والنبل والجدعنة، كان حريصا على أن يكون محتفيا بالمحافظ الجديد دون تباسط زائد أو شعور بأنه ممتن أكثر من اللازم لمجيئه، ولم يعد إلى طبيعته إلا بعد أن رحل المحافظ الذي قضى أغلب القعدة صامتا ولم ينسجم فيها أبدا.
كان لعم محمود موقف خاص من الرئيس مبارك، كنت أختلف معه لكني كنت أحترمه وأتفهمه لأنه كان موقفا إنسانيا بحتا، ولأنه وهذا الأهم لم يتاجر بهذا الموقف أو يستخدمه في التربح، كان يقولها بالصوت العالي أن ضعفه تجاه الرئيس مبارك ضعف شخصي لأنه رده إلى مصر وأنقذه من جحيم الغربة ولم يسجنه أو يشرده أو يقطع رزقه، لايمكن أن تتفهم هذا الموقف إلا لو قرأت جيدا ماكتبه عن ذكريات الولد الشقي في المنفى، ولايمكن أن تكون منصفا إلا إذا قرأت ماكتبه السعدني جيدا في هذه الفترة وأدركت أن هذا الموقف لم يمنعه من أن ينتصر للمواطن العادي ضد الفاسدين والظلمة والأغبياء. كان السعدني يفرق بين مواقف الشباب المعارضين في الصحف المستقلة ويقدرها بدليل أنه كان يقرب كثيرا منهم إليه ويعتبرهم أبناءه، وبين مواقف المتربحين من وراء المعارضة خصوصا في أحزاب المعارضة التي كانت تطالب الرئيس مبارك بما لاتطلبه من رؤساء أحزابها. ربما لأني أحبه كنت دائما ألتمس روح التمرد في مواقفه وأفرح عندما أشعر بجذوة الشقاوة حية نابضة. أذكر عندما التقيت به في لقاء رئيس الجمهورية مع المثقفين ذلك اللقاء الذي كانوا يسمونه بالفكري ليه ماتعرفش، كان ذلك في عام 98 قبل إغلاق الدستور مباشرة (لهذا اللقاء قصة لابد أن ارويها لك يوما ما)، عندما رأيته عقب إنتهاء اللقاء وهو يجلس في الصفوف الخلفية متكئا على عصاه وعلى وجهه إبتسامة ساخرة، هرعت لأسلم عليه، قال لي " إنت إيه اللي بيجيبك الحاجات دي"، ضحكت بشدة وقلت له "كنت لسه هاسألك السؤال ده"، كانت جملته كافية لي لأشعر أن الولد الشقي لايمكن بأي حال من الأحوال أن يأكل من الأونطة. كنت دائما أبحث عن تخريجات لعلاقة الولد الشقي بالسلطة في عهد الرئيس مبارك، وكنت دائما مطمئنا إلى ماأجده من تخريجات، أبرز مايحضرني ذلك الموقف الذي جمعه بالرئيس مبارك خلال زيارة إلى توشكى اصطحب فيها عددا من الكتاب والفنانين كان على رأسهم محمود السعدني، وبعد أن انتهى الرئيس من تفقد المشروع وهم بالإنصراف وجد السعدني أمامه فسأله عن رأيه في المشروع فعبر له عن إنبهاره به وإعجابه به، فطلب منه الرئيس أن يكتب مارآه ويرد على من عارضوا المشروع، رد السعدني فورا أنه لن يكتفي بالكلام بل سيكون له موقف عملي، اهتم الجميع بكلام السعدني، قال السعدني بجدية شديدة للرئيس أنه سينافس الوليد بن طلال الذي أخذ مائة ألف فدان وأنه سيشتري مائة واربعين ألف فدان، نظر الجميع إليه باستغراب، فقال للرئيس أنه بيتكلم بجد وأن لديه مستثمر مصري سيشاركه في هذا المشروع وموجود معنا، وأشار إلى شخص، نظر الجميع باهتمام إلى من أشار إليه فوجدوا أنه الدكتور عبد العظيم رمضان، ضحك الجميع وقال الرئيس مبارك للسعدني أنا غلطان إني صدقت أنك تتكلم بجد، وتركه ومشى. قد ترى في هذه الواقعة مجرد هزار، وهذا حقك، لكني أراها شقاوة فلاح فصيح ذكي مكار يقول بالسخرية أشياء كثيرة، أراها الولد الشقي الذي مهما ظهر أنه أصبح عاقلا وحصيفا يصر على أن يخرج لسانه للجميع في اللحظة التي يقررها هو وحده.

لاأدعي أبدا أنني كنت من أقرب المقربين إلى عم محمود، فقد كان الخجل من طرح موضوع اللحمة وتخبطي في الحياة وبين الجرائد والمجلات يمنعني كثيرا من زيارته لكي لاآخذ كلمتين في جنابي، لازلت أنتظر اليوم الذي أقرأ فيه شهادات من إقتربوا منه كثيرا مثل إبنه الكاتب الجميل أكرم السعدني وإبن شقيقته إيهاب دسوقي وحمدي حمادة وعمنا فؤاد معوض وصديق عمره الحاج إبراهيم نافع والفنان الكبير أحمد طوغان. لكنني دائما أحن إلى الأيام التي أتاني فيها زماني بما أرتجي وجمعني به في ليالي النادي النهري المحفورة في وجداني. اليوم باعد المرض بيني وبينه كما باعد بينه وبين كثير من محبيه الذين ربما لايطيقون مثلي رؤيته وهو في أبهى صوره، قاتل الله المرض الذي تسلل إليه شيئا فشيئا فحرمه من متعه في الحياة، بدأ بالجهاز الهضمي فحرمه من الطواجن والمسبك والمحمر والمشمر، ثم وصل إلى ركبه فحرمه من متعة اللف والصعلكة وصار صعود سلالم النادي النهري عبئا لايحتمله ولايحتمل تمهل الناس في إنتظار صعوده وهبوطه، ثم وصل إلى أكثر مايحبه في الدنيا، الكلام، ليغرقه في صمت عميق لايليق بواحد من صناع البهجة العظام. هنا أذكر أنني تلقيت من خلال قراءاتي الكثيرة عن السعدني انطباعا خاطئا بأنه متكلم عتيد وأنك لاتستطيع أن تتكلم في حضرته لكني وجدت ذلك غير صحيح إلى حد بعيد، بل على العكس وجدته يستمع أكثر مما يتكلم ولكنه إذا تكلم خبطك تعليقا يلقيك على ضهرك من الضحك أو حكى لك سرا يذهلك أو قال لك تحليلا لم يكن ليخطر لك على بال. أذكر أنني قلت له هذه الملاحظة يوما ما فبدلا من أن يجيبني بكلام مبتذل من نوعية "وماالذي يمكن أن أقوله الآن" أو ماإلى ذلك من الكلام الذي يقال عادة في الرد على اسئلة مثل هذه، لكنه اختار أن يحكي لي حكاية رائعة عن كيف كانت تدور حروب طاحنة بين كبار المتكلمين على قهوة عبد الله أمثاله هو والخميسي وحسن فؤاد وعبد الحميد قطامش وزكريا الحجاوي، وكيف كان كل منهم يحاول أن يوسع الثاني كلاما، حتى جاء اليوم الذي قهرهم فيه الشيخ زكريا أحمد الذي جاءهم في زيارة غير متوقعة فلم يستطع أحد منهم أن يفتح فمه بكلمة طيلة القعدة، وتركهم بعد ساعات إتكلم فيها فيهم كما يكون الكلام، وبعد أن غادرهم شعروا بالقهر لأنهم لم يتكلموا أبدا وصمموا على الإنتقام منه، واتفقوا على أن يلتقوا في ظهيرة اليوم التالي ويذهبوا إليه في بيته ويشبعوه كلاما ولايتركوا له فرصة لفتح فمه حتى يثأروا منه، وبالفعل تجمعوا وذهبوا إليه وماإن طرقوا بابه وفتح لهم الباب حتى قال لهم دون أن يعطيهم فرصة لفتح أفواههم " بالكو بقى إيه اللي حصل" ليوسعهم كلاما حتى رفعوا الرايات البيضاء وعادوا من حيث أتوا.
ياالله. كيف يمكن للإنسان أن يسيطر على حبل ذكرياته وهو يتذكر إبحاره في بحر البهجة السعدنية. لاضير من المحاولة. أتذكر ذلك اليوم الذي استدعاني فيه بالتليفون من الدستور غاضبا وطالبا مني أن آتي إليه في النادي فورا، كان قد أرسل إلي بفتاة هيفاء فارعة الطول ممشوقة القوام شلولخ لكي تتدرب على العمل الصحفي، مع أنها كانت بحكم الفراغ العقلي والبنية الجسدية والصحة الكويسة تصلح لأعمال أخرى غير العمل الصحفي، أو هذا مااستنبطته وحاولت تطبيق قواعد المعرفة العليمة لتحويل الإستنباط إلى نظرية علمية، لكي لاتفهم أيها القارئ خطئا خصوصا إذا كنت زوجتي كل مافي الأمر أنني حاولت أن أقبل يدها كما يفعل الأبطال في الأفلام الأجنبي على أساس أن ذلك من أمارات الرقي والتحضر، لكن التجربة فشلت قبل حتى أن يسنح لي البدء في التجربة بعد أن أسمعتني من المنقي خيارا وتختفي من المكان لاعنة الصحافة والصحفيين الأوغاد مثلي، توقعت أن عم محمود يريديني لمناقشتي بشكل علمي فيما حدث، هرعت إلى النادي لأجده جالسا وسط محبيه، أحسست من سلامه الفاتر علي أن وراء الأكمة ماوراءها، أخذني من يدي وخرج بي من الشادر الذي كان منصوبا على ماأذكر وسط النادي، سرنا على ضفاف النادي الذي لم يكن لحسن الحظ ممتلئا يومها، قال لي بحزم لم أره فيه من قبل "إيه اللي إنت عملته مع البنت اللي بعتها لك"، هل أنا مجنون لكي أقول له الحقيقة، رسمت على وجهي ملامح فريد شوقي في نهاية جعلوني مجرما وقلت له " عملت إيه.. أنا أستجري أعمل حاجة مع حد جاي من طرفك ياعمي"، أخذنا كورنيش النادي جيئة وذهابا وهو يقررني عما فعلته وأنا مصمم على أنني أشد خجلا من العذراء في خدرها، لم يكن أمامي طريق آخر لكي لاأجد نفسي مطرودا من جنة السعدني للأبد، انبسطت اساريره وشعرت أنني عدت إلى المنطقة الدافئة في قلبه، التفت نحوي وسدد عينه في وجهي وقال لي بجدية ممزوجة بالحنان "يعني عمرك ماحاولت تعمل معاها حاجة كده ولا كده"، قلت له " برضه مش مصدقني ياعم محمود.. هو أنا أسيب شغلي وأعمل حاجة زي كده"، فجأة قال لي ودون أن أتوقع " الله يخيبك وأنا اللي كنت فاكرك مدردح"، هاتني من الأرض ساعتها وأنا أبكي بالدموع لأني لم أكن أتوقع جملته، لم يكن مستعدا ليعاملني بأي احترام ساعتها، نظر إلى وقال "أنا اللي غلطان إني أبعت لشاب منحل زيك بنت ناس تتدرب على الصحافة".
في نفس المكان بعدها بسنين، ربما كان ذلك في عيد ميلاده عام 2001، أخرجته من بين محبيه الذين توافدوا للإحتفال به، كنت قد أحضرت له هدية شعرت أنها ستعني له الكثير، وكم كنت محقا في ذلك، كنت قد أحضرت له من سور الأزبكية الطبعة الأولى من مجموعته الأولى السماء السوداء والطبعة الأولى من كتاب صديقه الحميم الخميسي "قمصان الدم"، مهما أقول لك لن أستطيع أن أصف مدى فرحة عم محمود بالكتابين، لم أكن أعلم أنني نكشت عنده حبا قديما هو حبه لكتاب السماء السوداء الذي قال مرة في حوار إذاعي أعاد نشره سامي كمال الدين أنه لو طلب منه أن يحتفظ بكتاب واحد من كتبه لاحتفظ بكتابه الأول السماء السوداء، بعد أن خلا الجو حاولت أن أحدثه عن أعماله الأدبية، لكنه جرني فورا للحديث عن الخميسي وذكرياته معه وقصة اكتشافه لسعاد حسني، كانت تلك المرة الأولى التي أستأذنه فيها أن أدون مايحكيه لأنني كنت أستعد للكتابة عن الخميسي، وافق على مضض فقد كان بيننا اتفاق غير معلن أنني لاأمثل في حضرته بصفتي الصحفي بلال فضل بل بصفتي الواد بلال فضل وهو ماأندم عليه الآن كثيرا لم تكن تلك المرة الوحيدة التي أدرك أن عم محمود لايحب كثيرا الحديث عن تجربته الأدبية ربما لما لاقاه من تجاهل نقدي مرير لم ينته حتى الآن، كثيرا ماسمعت من نقاد وأدباء كبار مديحا لأعمال السعدني الأدبية خصوصا قصصه القصيرة واعترافا بالتقصير في حقها، لكنهم دائما كانوا يكتفون بالحديث، ولاأعتقد أن أحدا قد انبرى لإيقاف هذا التقصير حتى الآن، ولازال وجه السعدني كاتب القصة والرواية والمسرحية غير معروف للملايين من قرائه وعشاقه، ولعل ذلك ينتهي عندما تنبري جهة ما عندها دم لإعادة نشر أعماله الأدبية في طبعات شعبية تتيح لقراء السعدني أن يتعرفوا على تجربته الأدبية التي أعتبر أنها أجمل وأصدق وأمتع بكثير من تجارب أونطجية كثيرة تم الإحتفاء بها من باب الإسمه إيه، أيوه هو ده. في حقيقة الأمر ليس الوجه الأدبي لمحمود السعدني وحده هو الذي يحتاج إلى إستجلاء وإنصاف بل الوجه الفكري أيضا له بحاجة إلى ذات الإستجلاء وذات الإنصاف، أعماله العظيمة مثل مصر من تاني ومسافر على الرصيف وأمريكا ياويكا بحاجة إلى إعادة قراءة وإعادة تأمل لما تحتويه من الأفكار البراقة الطازجة التي تخلو من الرطانة والتقعر والحذلقة والنقل من مصادر أجنبية.
وحتى يحدث ذلك وحتى يحدث ماسنظل نطالب به حتى تبح أصواتنا ونكنس السيدة ونحسبن على الظالم وابن الحرام من تكريم لمحمود السعدني يليق به ليس أمامنا سوى أن نقول لعم محمود السعدني ياأبا البهجة وعم الناس أسعد الله أيامك بقدر ماأسعدت المكدودين وأبهجت المتكحولين وأوجعت الهابرين والشافطين لثروات الوطن وسخرت من الزائفين والمديوكر والمتحنجرين في الشواشي العليا.
يامولانا تصور صرنا نأكل اللحمة بانتظام لكن مانفتقده الآن هو حسك الجميل. كل سنة وحسك في الدنيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.