قصة حب يحتل القسم الثاني من سيرة الراحلة جُلبيري إفلاطون القسم الأعظم من الحكاية، فهو القسم الذي يتناول قصة الحب النادرة بينها وبين اسماعيل صبري عبد الله بعد لقائهما في باريس. أود أن أؤكد في البداية أن قصة الحب هنا ليست حلية ولا إطارا ولا وسيلة لسرد التاريخ والواقع السياسي مثلا .هي قصة حب فقط بكل ما يحيط بها من التياع وعشق وخوف ودلال. وإذا كان اسماعيل ينحدر من عائلة صعيدية ثرية عريقة، كما لمست جُلبيري بنفسها، عندما اصطحبها بعد الزواج إلي قريته، وكانت لا تنتقل من مكان إلي آخر إلا مصحوبة بتشريفة معتبرة من رجال أشداء مسلحين.. إذا كان هذا هو حال اسماعيل، فإن جُلبيري إبنة باشوات اختارت هذا الفارس الأسمر والمنتمي للحزب الشيوعي المصري السري، ولم يكن انتماؤه يشكلّ بالنسبة لها أي مشكلة .كل ما في الأمر أنها أحبته وعشقته وارتبطت به باعتباره رجلها وليس لأي اعتبار آخر، فهما لا يتنميان للطبقة نفسها وبينما كان هو قد حسم موقفه كمناضل شيوعي، كانت هي امرأة أرستقراطية تكتب الشعر ( بلغتها ) الأصلية الفرنسية!. أظن أن هذا ما منح السيرة أَلّقها وصدقها وتأثيرها العاصف. علي أي حال، عاش العاشقان بضعة شهور في الإسكندرية، حيث عمل إسماعيل بالجامعة في تخصصه. وفوجئ باتصال من الرئاسة باختياره مستشارا للشئون الاقتصادية، وحاول التملص لكن محاولاته فشلت، وبعد فترة قصيرة تم اعتقاله، عندما توصلت أجهزة الأمن إلي أسرار خطيرة! اسماعيل هو الرفيق خالد السكرتير العام للحزب الشيوعي السري، والسبب هو أن الحزب أصدر تقريرا اقتصاديا مهما، وتخيلت الأجهزة أن المعلومات والتحليلات الواردة في التقرير لابد أن يكون كاتبها ضليعا في الاقتصاد، ومن يمكن أن يكون ضليعا أكثر من الشاب اسماعيل العائد لتوّه من دراسة الاقتصاد في باريس، حتي لو كان يعمل مستشارا في الرئاسة. هذا الخطأ ضاق به عبد الناصر كثيرا وعنّف وزير الداخلية زكريا محيي الدين آنذاك. أما الفضيحة الكبري فقد جَرت بعد ذلك عندما تم تعذيب اسماعيل تعذيبا شديدا، أي تم خلع أظافره وجلده وضربه ليعترف بأنه الرفيق خالد السكرتير العام, تحمل اسماعيل أهوالا كبري، إلا أنه رفض الاعتراف، بالطبع كان يعرف أن الرفيق خالد هو د.فؤاد مرسي، وكان يستطيع أن يعترف لينجو من حفلات التعذيب اليومية والتي استمرت عدة شهور، لكن اسماعيل كان طرازا آخر من البشر. للقارئ أن يتخيل ما جري لجُلبيري في مثل تلك الظروف، كيف تتصرف بنت الذوات التي لا تعرف العربية؟ كيف تتصل بالمحامين؟ وكيف تعرف في أي سجن تم اعتقاله؟ وكيف تستخرج تصريح زيارة؟ وكيف تطمئن عليه..إلخ أنجزت جُلبيري كل هذا بكفاءة منقطعة النظير، فهي ببساطة شديدة تحب اسماعيل، أما الأخير فلم يخرج إلا بمصادفة نادرة عندما أخطأ اللواء مصيلحي الذي كان معروفا بإجرامه وليس مجرد القسوة، وأجاب علي القاضي الذي سأله عن تعذيب اسماعيل (كانت آثار التعذيب ما تزال موجودة وواضحة بعد مرور عدة شهور) محاولا التنصل من المسئولية بأنه وأجهزته لم يعذبوه، وربما حدث هذا في السجن الحربي الذي أودع فيه قبل أن يتسلمه مصيلحي وأجهزته. سأواصل إذا امتد الأجل- في الأسبوع المقبل.