قانون الإيجار القديم .. جلسات استماع للملاك والمستأجرين يومي الأحد والاثنين (تفاصيل)    تشكيل باريس سان جيرمان المتوقع أمام ارسنال في إياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    تحذير شديد بشأن حالة الطقس .. استعدوا لموجة ساخنة ذروتها 3 أيام (تفاصيل)    قرار من التعليم بشأن إلغاء الفترة المسائية في المدارس الابتدائية بحلول 2026 (تفاصيل)    بتغريدة وقائمة، كيف احتفى رونالدو باستدعاء نجله لمنتخب البرتغال (صور)    قبل جولته بالشرق الأوسط، ترامب يحسم موقفه من زيارة إسرائيل    استشهاد 25 فلسطينيا في غارات إسرائيلية على قطاع غزة    سعر الذهب في مصر اليوم الأربعاء 7-5-2025 مع بداية التعاملات    موعد مباراة تونس والمغرب في كأس أمم إفريقيا تحت 20 سنة    مباراة برشلونة وإنتر تدخل التاريخ.. ورافينيا يعادل رونالدو    تصعيد خطير بين الهند وباكستان... خبراء ل "الفجر": تحذيرات من مواجهة نووية ونداءات لتحرك دولي عاجل    ردود الفعل العالمية على اندلاع الحرب بين الهند وباكستان    تحرير 30 محضرًا في حملة تموينية على محطات الوقود ومستودعات الغاز بدمياط    كندة علوش تروي تجربتها مع السرطان وتوجه نصائح مؤثرة للسيدات    فيديو خطف طفل داخل «توك توك» يشعل السوشيال ميديا    إريك جارسيا يلمح لتكرار "الجدل التحكيمي" في مواجهة إنتر: نعرف ما حدث مع هذا الحكم من قبل    مشاهد توثق اللحظات الأولى لقصف الهند منشآت عسكرية باكستانية في كشمير    مسئولون أمنيون باكستانيون: الهند أطلقت صواريخ عبر الحدود في 3 مواقع    متحدث الأوقاف": لا خلاف مع الأزهر بشأن قانون تنظيم الفتوى    عاجل.. الذهب يقفز في مصر 185 جنيهًا بسبب التوترات الجيوسياسية    شريف عامر: الإفراج عن طلاب مصريين محتجزين بقرغيزستان    سعر التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    "اصطفاف معدات مياه الفيوم" ضمن التدريب العملي «صقر 149» لمجابهة الأزمات.. صور    «تحديد المصير».. مواجهات نارية للباحثين عن النجاة في دوري المحترفين    موعد مباريات اليوم الأربعاء 7 مايو 2025.. إنفوجراف    سيد عبد الحفيظ يتوقع قرار لجنة التظلمات بشأن مباراة القمة.. ورد مثير من أحمد سليمان    د.حماد عبدالله يكتب: أهمية الطرق الموازية وخطورتها أيضًا!!    الذكرى ال 80 ليوم النصر في ندوة لمركز الحوار.. صور    موعد إجازة مولد النبوي الشريف 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    «كل يوم مادة لمدة أسبوع».. جدول امتحانات الصف الأول الثانوي 2025 بمحافظة الجيزة    حبس المتهمين بخطف شخص بالزاوية الحمراء    السيطرة على حريق توك توك أعلى محور عمرو بن العاص بالجيزة    قرار هام في واقعة التعدي على نجل حسام عاشور    ضبط المتهمين بالنصب على ذو الهمم منتحلين صفة خدمة العملاء    المؤتمر العاشر ل"المرأة العربية" يختتم أعماله بإعلان رؤية موحدة لحماية النساء من العنف السيبراني    "ماما إزاي".. والدة رنا رئيس تثير الجدل بسبب جمالها    مهرجان المركز الكاثوليكي.. الواقع حاضر وكذلك السينما    مُعلق على مشنقة.. العثور على جثة شاب بمساكن اللاسلكي في بورسعيد    ألم الفك عند الاستيقاظ.. قد يكوت مؤشر على هذه الحالة    استشاري يكشف أفضل نوع أوانٍ للمقبلين على الزواج ويعدد مخاطر الألومنيوم    الجيش الباكستاني: ردّنا على الهند قيد التحضير وسيكون حازمًا وشاملًا    مكسب مالي غير متوقع لكن احترس.. حظ برج الدلو اليوم 7 مايو    3 أبراج «أعصابهم حديد».. هادئون جدًا يتصرفون كالقادة ويتحملون الضغوط كالجبال    بدون مكياج.. هدى المفتي تتألق في أحدث ظهور (صور)    نشرة التوك شو| الرقابة المالية تحذر من "مستريح الذهب".. والحكومة تعد بمراعاة الجميع في قانون الإيجار القديم    كندة علوش: الأمومة جعلتني نسخة جديدة.. وتعلمت الصبر والنظر للحياة بعين مختلفة    الهند: أظهرنا قدرا كبيرا من ضبط النفس في انتقاء الأهداف في باكستان    من هو الدكتور ممدوح الدماطي المشرف على متحف قصر الزعفران؟    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    أطباء مستشفى دسوق العام يجرون جراحة ناجحة لإنقاذ حداد من سيخ حديدي    طريقة عمل الرز بلبن، ألذ وأرخص تحلية    ارمِ.. اذبح.. احلق.. طف.. أفعال لا غنى عنها يوم النحر    أمين الفتوي يحرم الزواج للرجل أو المرأة في بعض الحالات .. تعرف عليها    نائب رئيس جامعة الأزهر: الشريعة الإسلامية لم تأتِ لتكليف الناس بما لا يطيقون    وزير الأوقاف: المسلمون والمسيحيون في مصر تجمعهم أواصر قوية على أساس من الوحدة الوطنية    «النهارده كام هجري؟».. تعرف على تاريخ اليوم في التقويم الهجري والميلادي    جدول امتحانات الصف الثاني الثانوي 2025 في محافظة البحيرة الترم الثاني 2025    وكيل الأزهر: على الشباب معرفة طبيعة العدو الصهيوني العدوانية والعنصرية والتوسعية والاستعمارية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية اسكندرية في غيمة - الحلقة الثالثة
نشر في الصباح يوم 02 - 10 - 2012


ملخص ما نشر
" العام 1975 ، الرئيس السادات يحتل العناوين الرئيسية للصحف ، وروسيا وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية غير راضين عن التقارب الشديد بين السادات والغرب ، ونوة المكنسة بأمطارها الشديدة تكنس شوارع الإسكندرية ، والحب بين يارا ونادر بدأ فى حديقة أنطونيادس ، وانفتحت أبواب السماء والموسيقى ، وجرى استدعاء نادر على عجل ، فى مبنى قديم ، لمباحث أمن الدولة ، وجرى استجوابه عن أشياء لا يعرفها ولم يفهم شيئا "

وجه كاريمان الأحمرمن البرد أخذ عينى يارا ودهشتها. جعلها تبتسم كطفلة لم تر ذلك من قبل . لقد دخلت عليها كاريمان وعلى رأسها "بونيه" أزرق، وعلى جسدها بالطو أزرق أيضا، وعلى عنقها إيشارب سماوي، فبدا كأن البرد كله تركز على وجهها وأنفها الذي يكاد يشتعل من الإحمرار. قالت:
- طبعا مندهشة من حضوري المفاجئ.
قالت يارا مبتسمه:
- على العكس سعيدة جدا. مندهشة فقط من جمالك.
إبتسمت كاريمان وفركت يديها قائلة:
- الله على الدفا.
وخلعت البالطو لتضعه على الشماعة، والإيشارب أيضا، ثم عادت تفرك يديها بقوة وتقول:
- نفسي أشرب قهوة.
- أسهل حاجة.
قالت يارا ذلك , وبسرعة أخرجت من كوميدينو صغير في أحد الأركان "سبرتاية" وكنكة وفنجانين صغيرين وبرطمانين صغيرين أيضا في أحدهما بن و في الثاني سكر وزجاجة ماء. قالت كاريمان وهي تنظر إلى كل ذلك:
- نفسي أضع في حجرتي عدة قهوة كهذه . أمي لا توافق.
قالت يارا في دهشة:
- لماذا؟
- زوج أمي في الحقيقة يقول لأمي أن البنات لا يشربن القهوة.
ضحكت يارا بصوت عال ضحكة قصيرة وقالت:
- مجنون.
قالت كاريمان:
- أكثر من ذلك يقول أن البنت التي تشرب قهوة يمكن أن تدخن الحشيش أيضا.
- فعلا مجنون رسمي.
- كل شويه يقول لي ملابسك قصيرة و ينظر إلى ساقي في الداخلة والخارجة. ماعلينا هل أدخن سيجارة؟
إرتبكت يارا للحظة ثم قالت:
- طبعا.
وبسرعة أغلقت باب الغرفة الموارب قليلا.
أخرجت كاريمان من حقيبتها علبة سجائر"كليوباترا" وولاعة "رونسون" وأشعلت سيجارة. أخذت نفسا عميقا وأغمضت عينيها لحظات، ثم نفثت الدخان ببطئ وهي تفتح عينيها من جديد. بدا كأنها تزيح هما ثقيلا عن صدرها.
إنتهت يارا من إعداد القهوة، وقدمت لكاريمان فنجانا أمسكت به، وقربته من أنفها تشمه، بينما تنظر يارا إليها سعيدة. قالت كاريمان:
- لماذا لم تأت إلى الكلية اليوم؟
- الجو غير مشجع على الخروج.
شردت كاريمان قليلا وكسا وجهها حزن خفيف ثم قالت:
- كان بودي أن أبقى في البيت لكن..
وعادت إلى الشرود من جديد ثم قالت:
- أمي ذهبت إلى عملها بالمدرسة , وبقى زوج أمي في البيت , فخرجت إلى الكلية.
فكرت يارا قليلا ثم قالت:
- ما هي حكاية زوج أمك يا كاريمان؟
- سافل . يتحرش بي .
- إلى هذه الدرجة؟
هزت كاريمان رأسها وقالت:
- لا تشغلي بالك . المهم . ظهر اليوم بكلية الحقوق طلبة يحملون السلاسل الحديدية , وهاجموا بعض الطلبة اليساريين . إنهم من الجماعات الأسلامية.
علت الدهشة وجه يارا غير مصدقة فاستمرت كاريمان.
- أكيد سيظهرون في كليتنا.
سالتها يارا:
- خايفه على حسن؟
- وعلى نادر طبعا. الإثنان لم يأتيا اليوم . أكيد بسبب الشتا.
زاد أرتباك يارا فقالت كاريمان:
- لابد أن ننتبه الأيام القادمة.
فكرت يارا هل هذا حقا هو ما جعل كاريمان تزورها في هذا الجو؟ سيذهب الجميع غدا أو بعد غد إلي الكلية وسيعرفون بما جرى. لكن كاريمان قالت:
- هل يمكن أن أبيت عندك الليلة؟
إبتسمت يارا سعيدة وقالت:
- طبعا.
وبسرعة وقفت تفتح الدولاب تخرج منه قميص نوم شتوي .
- ملابسي ستكون واسعة قليلا , لكن السرير صغير وسيدفئنا معا.
نظرت إليها كاريمان نظرة طويلة وهي تتناول منها قميص النوم وقالت؟
- عيناكي العسليتان جميلتان. لامعتان ونديتان كأنهما ستبكيان.
قالت يارا ضاحكة :
- أين أنا من كاريمان الشقراء وعينيها الخضراوين.إسمعي الموسيقى الجميلة معي . غيري ثيابك وتمددي جواري على السرير.
تساءلت كاريمان :
- لمن هذه الموسيقى؟
- برودين . لاتسأليني من هو. يمكن أن أعرف عنه شيئا فيما بعد. المهم المقطوعة اسمها"ملحمة الأميرإيجور " سمعتها من قبل كثيرا جدا. ميزة البرنامج الموسيقي أنه كثيرا ما يعيد المقطوعات. تحفظيها. عشقت هذه المقطوعة. دائما تذاع هذا الوقت بالليل.
ولم تستطع يارا أن تمنع نفسها من النظر إلى كاريمان وهي تخلع الجوب والبلوزة لترتدي قميص النوم . إبتسمت معجبة من تكوين جسدها البديع , ووجدت نفسها تسألها:
- هل أعجبك فيلم النداهة ؟
ضحكت كاريمان، ودخلت جوارها تحت اللحاف وهي تقول:
- حسن لم يعطني فرصة أستمتع بالفيلم. طوال الفيلم بيبوس فيا.
ضحكت يارا ضحكتها القصيرة المبهجة وقالت:
- كأنها متفقين. حسن ونادر. لقد فعل نادر بي ذلك أيضا ونحن نشاهد الفيلم. لكن الأغنية جميلة جدا وخوفتني.
قالت كاريمان:
- طبعا الفيلم لم يستطيع أن يصل إلى المعنى العميق للرواية.الحكاية ليست سذاجة القروى أو القروية أمام المدينة , ولا سذاجة الجهل أمام العلم .هي شئ كأنه القدر. لكل إنسان ندّاهة خفية إلى مصير غامض.
- الغريب ما قاله لي نادر بعد أن خرجنا من الفيلم. راح يشرح التاريخ الأسطوري للنداهة منذ العصر اليوناني. حكى لي حكاية السيرينيات , ربّات الغواية، اللاتي كان البحارة يسمعون غنائهن في البحر، فيتركون السفن ويلقون بأنفسهم وسط الماء ولا يعودون . وحكي لي كيف شاهد فيلم "أوليس" في سينما درجة ثانية منذ سنوات، ورأى كيف حاول "أوليس" أن لا يستجيب لصوت الغواية , فجعل البحارة الذين سدوا آذانهم يربطونه إلي صاري السفينة دون أن يسد أذنيه , وكيف لم يستطع البقاء مربوطا وهو يسمع أصوات السيرينيات , فمزق الأربطة وكاد يلقي بنفسه في البحر , لولا أن أمسك به البحارة , وكانت السفينة قد ابتعدت .
قالت كاريمان ضاحكة:
- كل منهما مجنون..
ضحتكا. ثم ران عليهما الصمت لحظات، وكانت موسيقى ملحمة الأميرإيجور قد انتهت، وبعدها ملأت فضاء الحجرة موسيقى
فيلم الأب الروحي . يارا تعرفها جيدا، لكن علا وجهها خوف وهي تتذكر أغنية ليلى جمال في فيلم النداهة .
شئ من بعيد نادى لي
جري لي ما جرى لي
ومش بإيدي يابا
مش بإيدي يابا..
لاحظت كاريمان شرودها فسألتها:
- إلى أين ذهبت؟
إبتسمت يارا ولم ترد. قالت كاريمان:
- ليتنا لا ننام. نظل نسمع الموسيقى ونتكلم حتى الصباح..
--------------
حين دخل نادر الغرفة رآها كبيرة جدا , ورأى رئيس المباحث
يجلس إلى مكتب ضخم عند نهايتها. لم يرفع الرجل وجهه إليه. كان يكتب شيئا في ورقة أمامه , وأشار إليه أن يجلس , بينما ظل مشغولا بما يكتب لحظات، يفكر فيها نادر في صوت الأنين الذي لم ينقطع هنا أيضا، ويذكر الأفلام الأجنبية عن المعتقلات النازية، وما قرأه في الصحف عن المعتقلات في عهد جمال عبدالناصر ، ويقول لنفسه هذا لا يحدث في مصر الآن . لكن صورا من التعذيب في فلم"الكرنك" المعروض منذ الصيف في السينما تعود تتجسد أمامه . في لحظات فكر في يارا. يارا أجمل من سعاد حسني فهل يصلون إليها؟. وأكثر من ذلك دفع نفسه ليفكر في الإعتذار لسعاد حسني، وتخيل أنه قابلها وراح يعتذر لها لأنه فكر أن هناك من هي أجمل منها، وراح يتأمل إبتسامتها الجميلة التي تفتح له أرجاء الكون وتملأه بالبهجة، وشعر براحة جميلة وهو يفكر في شيئ غير التعذيب والإهانة قاصدا أن يشجع نفسه.
في النهاية رفع رئيس المباحث وجهه إليه، وكان قد إنتهى مما يكتب، فكاد نادر يضحك بقوة. لم يتوقع أبدا هذا الشبه الكبير بينه وبين مصطفى الحلاق الذ ي يحلق عنده في المكس . كأنه توأمه. هذا سبب آخر ليشعر بالاطمئنان. سيتعامل معه باعتباره مصطفى الحلاق، وليس أبدا سيد بيه عبدالباري. وربما يفكر أن يلتقي بزوجته أيضا ليحكي عنها القصص الخرافية التي يحكيها زبائن مصطفى الحلاق عن زوجته "ليلى" الجميلة حقا، التي يعرف الجميع أن حكاياتهم عنها كلها من أحلامهم، وأن أحدا منهم لم يلتق بها، وأقصى ما فعله أن رآها تمر أمامه في الشارع، لكنهم لا يتوقفون عن الحكي..
- أهلا يا سي نادر.
أرتبك نادر الذي عاد من خيالاته.
- تشرب شاي؟
- شكرا يا افندم.
- أنت تشتغل أم تدرس؟
- الإثنان يا افندم. أعطي دروسا حصوصية لأبناء الجيران في الحي، وأدرس في كلية الآداب . أساعد نفسي.
- أذن أنت الوحيد الذي تمتلك المال بين زملائك؟
- مش فاهم!
- يعني تصرف على مجلات الحائط من مالك.
إبتسم نادر وقال:
- مجلات الحائط لا تكلف شيئا. حضرتك عارف سعر فرخ الورق المقوى
أربعة قروش لا أكثر . المجلة فرخ واحد عليه المقالات. القلم الجاف أيضا بقرشين.
هز سيد بيه عبدالباري رأسه وصمت قليلا، ليعود صوت الأنين عاليا أكثر. صوت أنين امرأة هذه المرة. لكن نادر قرر أن يتماسك بأقصى ما يستطيع, وهكذا أنكر تهمة أنه شيوعي . قال ليس تهمة أن يكون الانسان شيوعيا ,هذا من ناحية , كما أنه ليس معنى إنهم يدرسون الماركسية في الكلية أنه شيوعي، ففي قسم الفلسفة يدرسون كل النظريات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية. وإذا كانوا غير متوافقين هو وأصحابه مع سياسة الرئيس السادات، خاصة سياسته الجديدة التي تقرب مصر من إسرائيل وأمريكا، وتتخلى عن حليفها الأصيل الإتحاد السوفيتي، وعن فضائها ومجالها الحيوي، العالم العربي، فذلك فقط لأنهم مصريون يحبون وطنهم.
أعطاه سيد بيه عبدالباري فرصة كبيرة للحديث، لأن يريد أن يعرف منه كل خبايا نفسه، وأبدى له إعجابا بما يقول، ليستدرجه لقول أكثر. ونادر الذي لم يتزحزح عن تصوره لسيد بيه عبدالباري باعتباره مصطفى الحلاق، راح يجيب على كل الأسئلة باستفاضه وبلا خوف. قال أنه لا يعرف أن في مصر أحزابا شيوعية سرية، وإنه يعرف ذلك الآن لأول مرة من سيد بيه، وكذالك لايعرف بشر زهران ولا حسن حافظ ولا كاريمان شيئا عن ذلك. هم أصدقاؤه ويعرف كل شيء عنهم. وأراد أن يمزح قليلا فقال أن بشر زهران مثلا يحرر المجلات رغبة في الشهرة أكثر من كونه عملا سياسيا، لأن بشر قصير القامة . وفي هذه الحظة أرتبك خوفا أن يكون سيد بيه عبدالباري قصير القامة، لكن الرجل ضحك، فاطمأن نادر، واستطرد أن حسن فنان يكتب المسرحية والقصة، ويميل إلى مسرح العبث أكثر.
عناوين مسرحياته تدل على ذلك . "العين تمشي والقدم تنظر" "شمس الليل وقمر النهار" هل لهذا علاقة بالشيوعية؟ حتى قصته الأخيرة القصيرة جدا المنشورة بآخر مجلة علقوها، اسمها"القلق القديم"، عن أعداء لا يأتون المدينة فيتحول أهلها إلى أقزام؟ إنها قصة مستوحاة من رواية "صحراء التتار" لدينو بوتزاتي . فقط أضاف إليها حكاية التحول إلي أقزام .
كانت عينا سيد بيه عبدالباري تتسعان في دهشة حقيقيه ثم قال:
- دينو بوتزاتي هذا أجنبي؟
- كاتب إيطالي.
- هل هو معكم في الحزب؟
إرتبك نارد ، ثم أحس بالرغبة في الضحك، لكنه تماسك وقال:
- يا افندم لا حزب ولا غيره. نحن فنانين غاضبين، وبوتزاتي هذا كاتب إيطالي كبير مثل بيرانديللو مثلا، وروايته قديمة ترجمت إلى العربية، وتباع على الأرصفة بعشرة قروش. نحن لا نحب السياسة.
نظر إليه سيد بيه عبدالباري نظرة طويلة ثم قال:
- ويارا.. ألا تحبها أيضا؟
هنا أرتبك نادر. ضاعت منه صورة مصطفى الحلاق التي احتلت وجه سيد بيه عبدالباري، وقفزت مكانها صورة الرجل الذي حاول إغتصاب سعاد حسني في فيلم الكرنك، لكن استطاع أن يخفي ألمه ويقول:
- ارجوك يا افندم لا داعي للحديث عن يارا.
إتسعت عينا سيد بيه كأنه أدرك نقطة ضعفه. وقال:
- خائف عليها؟
أغمض نادر عينيه ، وبدأيشعر برعب حقيقي , ثم قال بصوت خافت :
- أجل.
مرّت لحظات صمت، لاحظ فيها نادر نظرة سيد بيه عبدالباري العميقة إليه، فراح ينظر إلى الأرض كي لا يظهر ضعفه أكثر من ذلك , وإذا بسيد بيه عبدالباري يقول:
- طيب . دعنا من يارا الآن. لو سألتك هل في مصر حرية أم لا فماذا ستقول؟
- لا.
خرجت الإجابة من نادر بسرعة دون أن يفكر. ظهر الغيظ على وجه سيد بيه عبدالباري، فقال نادر بسرعة وقد عادت من جديد صورة مصطفى الحلاق تحتل وجه الرجل:
- آسف. أنا أصلا وجودي لذالك أقول لا.
- ماذا تعني؟
هنا انطلق نارد في الكلام كمن وجد مهربا حقيقيا :
- الوجودية ترى الإنسان يولد من دون إرادة ، ويموت دون إرادة , وبين الميلاد والموت يعيش الإنسان كما يريد له الناس , فهو أيضا غير حر. الآخرون هم الجحيم , والحرية الوحيدة هي في الإنتحار.
إرتبك سيد بيه عبدالباري هذه المرة. لاحظ نادر ذلك فاستمر يتحدث بسرعة وشجاعة:
- الوجودية أنتجت حركة الهيبز مثلا في أوروبا، ومغنين فوضويين مثل جولييت جريكو. الخروج على المألوف هو المعنى الوحيد للوجود. الإنسان لا يحب أن يكون ملتزما بشيئ . يحب أن يكون لا منتميا لشيئ؟
بدا سيد بي عبدالباري شاردا حقا كأنه يفكر في شيئ آخر, ثم قال فجأة وهو يشير الي الخارج :
- تفضل.
- أخرج؟
- طبعا. لن تنفعنا بشيئ.
وقف نادر بسرعة قائلا في حماس:
- متشكر جدا يا افندم.
لم يكن يدري وهو يخرج مسرعا , أن سيد بيه عبدالباري كان يتابعه بنظراته في قرف.
لم يصدق نادر أنه غادر المبنى إلا بعد أن لفحه الهواء البارد، ورأى أمامه خيوط المطر في الفضاء المظلم . رأى أمامه شارع فؤاد الذي أندفع في إتجاهه، فأسرع تحت البلكونات يحتمي من المطر. لاحظ أن القمر موجود بعيد جدا فوق السحب التي تحجب ضوءه، ووجد نفسه يضحك ويهتف:
"ينصر دينك يا مصطفى يا حلاق".
سيأخذ طريقه الآن إلى محطة الرمل، وسيركب الترام ليصل إلي الشقة يحكي كل شيء لأصحابه، ويكون جميلا لو ذهبوا الليلة إلى "نوال بوط" Nawal Boat، ليسهروا حتى الصباح مع نوال. سيحكي لها في الملهى كل ما جرى ويضحك. لن يحكي شيئا ليارا، وسيطلب من أصحابه ألا يخبروها بشيء . يارا طائر الجنة لا يحب أن يصيبها بأي خوف. نوال سيتسع صدرها له، ستخفف عنه، وستشعره بالاطمئنان.
يحتاج حقا اليوم أكثر من أي يوم أن يعرف لماذا تهتم بهم نوال صاحبة الملهى، هم الشباب الشيوعيون كما قالت عنهم ضاحكة من قبل . هل سيعرف سرها الليلة ؟ لكن الوقت مهما أسرع في الطريق سيكون متأخرا. الساعة تقترب من منتصف الليل. فليؤجل نوال بوط إلى ليلة أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.