حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية اسكندرية في غيمة - الحلقة الثالثة
نشر في الصباح يوم 02 - 10 - 2012


ملخص ما نشر
" العام 1975 ، الرئيس السادات يحتل العناوين الرئيسية للصحف ، وروسيا وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية غير راضين عن التقارب الشديد بين السادات والغرب ، ونوة المكنسة بأمطارها الشديدة تكنس شوارع الإسكندرية ، والحب بين يارا ونادر بدأ فى حديقة أنطونيادس ، وانفتحت أبواب السماء والموسيقى ، وجرى استدعاء نادر على عجل ، فى مبنى قديم ، لمباحث أمن الدولة ، وجرى استجوابه عن أشياء لا يعرفها ولم يفهم شيئا "

وجه كاريمان الأحمرمن البرد أخذ عينى يارا ودهشتها. جعلها تبتسم كطفلة لم تر ذلك من قبل . لقد دخلت عليها كاريمان وعلى رأسها "بونيه" أزرق، وعلى جسدها بالطو أزرق أيضا، وعلى عنقها إيشارب سماوي، فبدا كأن البرد كله تركز على وجهها وأنفها الذي يكاد يشتعل من الإحمرار. قالت:
- طبعا مندهشة من حضوري المفاجئ.
قالت يارا مبتسمه:
- على العكس سعيدة جدا. مندهشة فقط من جمالك.
إبتسمت كاريمان وفركت يديها قائلة:
- الله على الدفا.
وخلعت البالطو لتضعه على الشماعة، والإيشارب أيضا، ثم عادت تفرك يديها بقوة وتقول:
- نفسي أشرب قهوة.
- أسهل حاجة.
قالت يارا ذلك , وبسرعة أخرجت من كوميدينو صغير في أحد الأركان "سبرتاية" وكنكة وفنجانين صغيرين وبرطمانين صغيرين أيضا في أحدهما بن و في الثاني سكر وزجاجة ماء. قالت كاريمان وهي تنظر إلى كل ذلك:
- نفسي أضع في حجرتي عدة قهوة كهذه . أمي لا توافق.
قالت يارا في دهشة:
- لماذا؟
- زوج أمي في الحقيقة يقول لأمي أن البنات لا يشربن القهوة.
ضحكت يارا بصوت عال ضحكة قصيرة وقالت:
- مجنون.
قالت كاريمان:
- أكثر من ذلك يقول أن البنت التي تشرب قهوة يمكن أن تدخن الحشيش أيضا.
- فعلا مجنون رسمي.
- كل شويه يقول لي ملابسك قصيرة و ينظر إلى ساقي في الداخلة والخارجة. ماعلينا هل أدخن سيجارة؟
إرتبكت يارا للحظة ثم قالت:
- طبعا.
وبسرعة أغلقت باب الغرفة الموارب قليلا.
أخرجت كاريمان من حقيبتها علبة سجائر"كليوباترا" وولاعة "رونسون" وأشعلت سيجارة. أخذت نفسا عميقا وأغمضت عينيها لحظات، ثم نفثت الدخان ببطئ وهي تفتح عينيها من جديد. بدا كأنها تزيح هما ثقيلا عن صدرها.
إنتهت يارا من إعداد القهوة، وقدمت لكاريمان فنجانا أمسكت به، وقربته من أنفها تشمه، بينما تنظر يارا إليها سعيدة. قالت كاريمان:
- لماذا لم تأت إلى الكلية اليوم؟
- الجو غير مشجع على الخروج.
شردت كاريمان قليلا وكسا وجهها حزن خفيف ثم قالت:
- كان بودي أن أبقى في البيت لكن..
وعادت إلى الشرود من جديد ثم قالت:
- أمي ذهبت إلى عملها بالمدرسة , وبقى زوج أمي في البيت , فخرجت إلى الكلية.
فكرت يارا قليلا ثم قالت:
- ما هي حكاية زوج أمك يا كاريمان؟
- سافل . يتحرش بي .
- إلى هذه الدرجة؟
هزت كاريمان رأسها وقالت:
- لا تشغلي بالك . المهم . ظهر اليوم بكلية الحقوق طلبة يحملون السلاسل الحديدية , وهاجموا بعض الطلبة اليساريين . إنهم من الجماعات الأسلامية.
علت الدهشة وجه يارا غير مصدقة فاستمرت كاريمان.
- أكيد سيظهرون في كليتنا.
سالتها يارا:
- خايفه على حسن؟
- وعلى نادر طبعا. الإثنان لم يأتيا اليوم . أكيد بسبب الشتا.
زاد أرتباك يارا فقالت كاريمان:
- لابد أن ننتبه الأيام القادمة.
فكرت يارا هل هذا حقا هو ما جعل كاريمان تزورها في هذا الجو؟ سيذهب الجميع غدا أو بعد غد إلي الكلية وسيعرفون بما جرى. لكن كاريمان قالت:
- هل يمكن أن أبيت عندك الليلة؟
إبتسمت يارا سعيدة وقالت:
- طبعا.
وبسرعة وقفت تفتح الدولاب تخرج منه قميص نوم شتوي .
- ملابسي ستكون واسعة قليلا , لكن السرير صغير وسيدفئنا معا.
نظرت إليها كاريمان نظرة طويلة وهي تتناول منها قميص النوم وقالت؟
- عيناكي العسليتان جميلتان. لامعتان ونديتان كأنهما ستبكيان.
قالت يارا ضاحكة :
- أين أنا من كاريمان الشقراء وعينيها الخضراوين.إسمعي الموسيقى الجميلة معي . غيري ثيابك وتمددي جواري على السرير.
تساءلت كاريمان :
- لمن هذه الموسيقى؟
- برودين . لاتسأليني من هو. يمكن أن أعرف عنه شيئا فيما بعد. المهم المقطوعة اسمها"ملحمة الأميرإيجور " سمعتها من قبل كثيرا جدا. ميزة البرنامج الموسيقي أنه كثيرا ما يعيد المقطوعات. تحفظيها. عشقت هذه المقطوعة. دائما تذاع هذا الوقت بالليل.
ولم تستطع يارا أن تمنع نفسها من النظر إلى كاريمان وهي تخلع الجوب والبلوزة لترتدي قميص النوم . إبتسمت معجبة من تكوين جسدها البديع , ووجدت نفسها تسألها:
- هل أعجبك فيلم النداهة ؟
ضحكت كاريمان، ودخلت جوارها تحت اللحاف وهي تقول:
- حسن لم يعطني فرصة أستمتع بالفيلم. طوال الفيلم بيبوس فيا.
ضحكت يارا ضحكتها القصيرة المبهجة وقالت:
- كأنها متفقين. حسن ونادر. لقد فعل نادر بي ذلك أيضا ونحن نشاهد الفيلم. لكن الأغنية جميلة جدا وخوفتني.
قالت كاريمان:
- طبعا الفيلم لم يستطيع أن يصل إلى المعنى العميق للرواية.الحكاية ليست سذاجة القروى أو القروية أمام المدينة , ولا سذاجة الجهل أمام العلم .هي شئ كأنه القدر. لكل إنسان ندّاهة خفية إلى مصير غامض.
- الغريب ما قاله لي نادر بعد أن خرجنا من الفيلم. راح يشرح التاريخ الأسطوري للنداهة منذ العصر اليوناني. حكى لي حكاية السيرينيات , ربّات الغواية، اللاتي كان البحارة يسمعون غنائهن في البحر، فيتركون السفن ويلقون بأنفسهم وسط الماء ولا يعودون . وحكي لي كيف شاهد فيلم "أوليس" في سينما درجة ثانية منذ سنوات، ورأى كيف حاول "أوليس" أن لا يستجيب لصوت الغواية , فجعل البحارة الذين سدوا آذانهم يربطونه إلي صاري السفينة دون أن يسد أذنيه , وكيف لم يستطع البقاء مربوطا وهو يسمع أصوات السيرينيات , فمزق الأربطة وكاد يلقي بنفسه في البحر , لولا أن أمسك به البحارة , وكانت السفينة قد ابتعدت .
قالت كاريمان ضاحكة:
- كل منهما مجنون..
ضحتكا. ثم ران عليهما الصمت لحظات، وكانت موسيقى ملحمة الأميرإيجور قد انتهت، وبعدها ملأت فضاء الحجرة موسيقى
فيلم الأب الروحي . يارا تعرفها جيدا، لكن علا وجهها خوف وهي تتذكر أغنية ليلى جمال في فيلم النداهة .
شئ من بعيد نادى لي
جري لي ما جرى لي
ومش بإيدي يابا
مش بإيدي يابا..
لاحظت كاريمان شرودها فسألتها:
- إلى أين ذهبت؟
إبتسمت يارا ولم ترد. قالت كاريمان:
- ليتنا لا ننام. نظل نسمع الموسيقى ونتكلم حتى الصباح..
--------------
حين دخل نادر الغرفة رآها كبيرة جدا , ورأى رئيس المباحث
يجلس إلى مكتب ضخم عند نهايتها. لم يرفع الرجل وجهه إليه. كان يكتب شيئا في ورقة أمامه , وأشار إليه أن يجلس , بينما ظل مشغولا بما يكتب لحظات، يفكر فيها نادر في صوت الأنين الذي لم ينقطع هنا أيضا، ويذكر الأفلام الأجنبية عن المعتقلات النازية، وما قرأه في الصحف عن المعتقلات في عهد جمال عبدالناصر ، ويقول لنفسه هذا لا يحدث في مصر الآن . لكن صورا من التعذيب في فلم"الكرنك" المعروض منذ الصيف في السينما تعود تتجسد أمامه . في لحظات فكر في يارا. يارا أجمل من سعاد حسني فهل يصلون إليها؟. وأكثر من ذلك دفع نفسه ليفكر في الإعتذار لسعاد حسني، وتخيل أنه قابلها وراح يعتذر لها لأنه فكر أن هناك من هي أجمل منها، وراح يتأمل إبتسامتها الجميلة التي تفتح له أرجاء الكون وتملأه بالبهجة، وشعر براحة جميلة وهو يفكر في شيئ غير التعذيب والإهانة قاصدا أن يشجع نفسه.
في النهاية رفع رئيس المباحث وجهه إليه، وكان قد إنتهى مما يكتب، فكاد نادر يضحك بقوة. لم يتوقع أبدا هذا الشبه الكبير بينه وبين مصطفى الحلاق الذ ي يحلق عنده في المكس . كأنه توأمه. هذا سبب آخر ليشعر بالاطمئنان. سيتعامل معه باعتباره مصطفى الحلاق، وليس أبدا سيد بيه عبدالباري. وربما يفكر أن يلتقي بزوجته أيضا ليحكي عنها القصص الخرافية التي يحكيها زبائن مصطفى الحلاق عن زوجته "ليلى" الجميلة حقا، التي يعرف الجميع أن حكاياتهم عنها كلها من أحلامهم، وأن أحدا منهم لم يلتق بها، وأقصى ما فعله أن رآها تمر أمامه في الشارع، لكنهم لا يتوقفون عن الحكي..
- أهلا يا سي نادر.
أرتبك نادر الذي عاد من خيالاته.
- تشرب شاي؟
- شكرا يا افندم.
- أنت تشتغل أم تدرس؟
- الإثنان يا افندم. أعطي دروسا حصوصية لأبناء الجيران في الحي، وأدرس في كلية الآداب . أساعد نفسي.
- أذن أنت الوحيد الذي تمتلك المال بين زملائك؟
- مش فاهم!
- يعني تصرف على مجلات الحائط من مالك.
إبتسم نادر وقال:
- مجلات الحائط لا تكلف شيئا. حضرتك عارف سعر فرخ الورق المقوى
أربعة قروش لا أكثر . المجلة فرخ واحد عليه المقالات. القلم الجاف أيضا بقرشين.
هز سيد بيه عبدالباري رأسه وصمت قليلا، ليعود صوت الأنين عاليا أكثر. صوت أنين امرأة هذه المرة. لكن نادر قرر أن يتماسك بأقصى ما يستطيع, وهكذا أنكر تهمة أنه شيوعي . قال ليس تهمة أن يكون الانسان شيوعيا ,هذا من ناحية , كما أنه ليس معنى إنهم يدرسون الماركسية في الكلية أنه شيوعي، ففي قسم الفلسفة يدرسون كل النظريات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية. وإذا كانوا غير متوافقين هو وأصحابه مع سياسة الرئيس السادات، خاصة سياسته الجديدة التي تقرب مصر من إسرائيل وأمريكا، وتتخلى عن حليفها الأصيل الإتحاد السوفيتي، وعن فضائها ومجالها الحيوي، العالم العربي، فذلك فقط لأنهم مصريون يحبون وطنهم.
أعطاه سيد بيه عبدالباري فرصة كبيرة للحديث، لأن يريد أن يعرف منه كل خبايا نفسه، وأبدى له إعجابا بما يقول، ليستدرجه لقول أكثر. ونادر الذي لم يتزحزح عن تصوره لسيد بيه عبدالباري باعتباره مصطفى الحلاق، راح يجيب على كل الأسئلة باستفاضه وبلا خوف. قال أنه لا يعرف أن في مصر أحزابا شيوعية سرية، وإنه يعرف ذلك الآن لأول مرة من سيد بيه، وكذالك لايعرف بشر زهران ولا حسن حافظ ولا كاريمان شيئا عن ذلك. هم أصدقاؤه ويعرف كل شيء عنهم. وأراد أن يمزح قليلا فقال أن بشر زهران مثلا يحرر المجلات رغبة في الشهرة أكثر من كونه عملا سياسيا، لأن بشر قصير القامة . وفي هذه الحظة أرتبك خوفا أن يكون سيد بيه عبدالباري قصير القامة، لكن الرجل ضحك، فاطمأن نادر، واستطرد أن حسن فنان يكتب المسرحية والقصة، ويميل إلى مسرح العبث أكثر.
عناوين مسرحياته تدل على ذلك . "العين تمشي والقدم تنظر" "شمس الليل وقمر النهار" هل لهذا علاقة بالشيوعية؟ حتى قصته الأخيرة القصيرة جدا المنشورة بآخر مجلة علقوها، اسمها"القلق القديم"، عن أعداء لا يأتون المدينة فيتحول أهلها إلى أقزام؟ إنها قصة مستوحاة من رواية "صحراء التتار" لدينو بوتزاتي . فقط أضاف إليها حكاية التحول إلي أقزام .
كانت عينا سيد بيه عبدالباري تتسعان في دهشة حقيقيه ثم قال:
- دينو بوتزاتي هذا أجنبي؟
- كاتب إيطالي.
- هل هو معكم في الحزب؟
إرتبك نارد ، ثم أحس بالرغبة في الضحك، لكنه تماسك وقال:
- يا افندم لا حزب ولا غيره. نحن فنانين غاضبين، وبوتزاتي هذا كاتب إيطالي كبير مثل بيرانديللو مثلا، وروايته قديمة ترجمت إلى العربية، وتباع على الأرصفة بعشرة قروش. نحن لا نحب السياسة.
نظر إليه سيد بيه عبدالباري نظرة طويلة ثم قال:
- ويارا.. ألا تحبها أيضا؟
هنا أرتبك نادر. ضاعت منه صورة مصطفى الحلاق التي احتلت وجه سيد بيه عبدالباري، وقفزت مكانها صورة الرجل الذي حاول إغتصاب سعاد حسني في فيلم الكرنك، لكن استطاع أن يخفي ألمه ويقول:
- ارجوك يا افندم لا داعي للحديث عن يارا.
إتسعت عينا سيد بيه كأنه أدرك نقطة ضعفه. وقال:
- خائف عليها؟
أغمض نادر عينيه ، وبدأيشعر برعب حقيقي , ثم قال بصوت خافت :
- أجل.
مرّت لحظات صمت، لاحظ فيها نادر نظرة سيد بيه عبدالباري العميقة إليه، فراح ينظر إلى الأرض كي لا يظهر ضعفه أكثر من ذلك , وإذا بسيد بيه عبدالباري يقول:
- طيب . دعنا من يارا الآن. لو سألتك هل في مصر حرية أم لا فماذا ستقول؟
- لا.
خرجت الإجابة من نادر بسرعة دون أن يفكر. ظهر الغيظ على وجه سيد بيه عبدالباري، فقال نادر بسرعة وقد عادت من جديد صورة مصطفى الحلاق تحتل وجه الرجل:
- آسف. أنا أصلا وجودي لذالك أقول لا.
- ماذا تعني؟
هنا انطلق نارد في الكلام كمن وجد مهربا حقيقيا :
- الوجودية ترى الإنسان يولد من دون إرادة ، ويموت دون إرادة , وبين الميلاد والموت يعيش الإنسان كما يريد له الناس , فهو أيضا غير حر. الآخرون هم الجحيم , والحرية الوحيدة هي في الإنتحار.
إرتبك سيد بيه عبدالباري هذه المرة. لاحظ نادر ذلك فاستمر يتحدث بسرعة وشجاعة:
- الوجودية أنتجت حركة الهيبز مثلا في أوروبا، ومغنين فوضويين مثل جولييت جريكو. الخروج على المألوف هو المعنى الوحيد للوجود. الإنسان لا يحب أن يكون ملتزما بشيئ . يحب أن يكون لا منتميا لشيئ؟
بدا سيد بي عبدالباري شاردا حقا كأنه يفكر في شيئ آخر, ثم قال فجأة وهو يشير الي الخارج :
- تفضل.
- أخرج؟
- طبعا. لن تنفعنا بشيئ.
وقف نادر بسرعة قائلا في حماس:
- متشكر جدا يا افندم.
لم يكن يدري وهو يخرج مسرعا , أن سيد بيه عبدالباري كان يتابعه بنظراته في قرف.
لم يصدق نادر أنه غادر المبنى إلا بعد أن لفحه الهواء البارد، ورأى أمامه خيوط المطر في الفضاء المظلم . رأى أمامه شارع فؤاد الذي أندفع في إتجاهه، فأسرع تحت البلكونات يحتمي من المطر. لاحظ أن القمر موجود بعيد جدا فوق السحب التي تحجب ضوءه، ووجد نفسه يضحك ويهتف:
"ينصر دينك يا مصطفى يا حلاق".
سيأخذ طريقه الآن إلى محطة الرمل، وسيركب الترام ليصل إلي الشقة يحكي كل شيء لأصحابه، ويكون جميلا لو ذهبوا الليلة إلى "نوال بوط" Nawal Boat، ليسهروا حتى الصباح مع نوال. سيحكي لها في الملهى كل ما جرى ويضحك. لن يحكي شيئا ليارا، وسيطلب من أصحابه ألا يخبروها بشيء . يارا طائر الجنة لا يحب أن يصيبها بأي خوف. نوال سيتسع صدرها له، ستخفف عنه، وستشعره بالاطمئنان.
يحتاج حقا اليوم أكثر من أي يوم أن يعرف لماذا تهتم بهم نوال صاحبة الملهى، هم الشباب الشيوعيون كما قالت عنهم ضاحكة من قبل . هل سيعرف سرها الليلة ؟ لكن الوقت مهما أسرع في الطريق سيكون متأخرا. الساعة تقترب من منتصف الليل. فليؤجل نوال بوط إلى ليلة أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.