قبل رحيله بأربعة أيام سألت السفير بسيونى عن أحوال البلد فقال: الأيام أصبحت غير الأيام، وسهام الغدر تنطلق من كل مكان، والصمت الآن أفضل من الكلام.. وأضاف.. رحم الله جيل أكتوبر حرروا الأرض والعرض.. تسلقوا الجبال بالحبال، وناموا فى المزاغل والخنادق، وأكلوا الثعابين والعقارب، لم يطلبوا جاهاً أو سلطاناً، كتبوا التاريخ بمداد من نور.. نسيهم الناس، فذكرهم الله فيمن عنده.. وقبل الحديث عن السلام ومباحثات الكيلو 101 والتى التقى فيها الجنرال النحيف اللواء محمد عبد الغنى الجمسى رئيس هيئة العمليات والجنرال أهارون ياريف مدير المخابرات الإسرائيلية فى 67 ومساعد رئيس الأركان فى حرب أكتوبر. قبل الحديث عن تلك الذكريات والمحادثات الشاقة التى أبداها الجنرال الجمسى مع مدير المخابرات الإسرائيلى يقول السفير بسيونى: لا بد من التسليم بعدة حقائق: منها أن العقيدة الإسرائيلية لا تعرف السلام، وإذا عرفته فهو سلام مقرون بالقوة، وقد جاء على لسان موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق ومهندس حرب 67 أن حدود إسرائيل تنتهى عند أقدام جنودها. وتأكيدا لهذه النظرية أو العقيدة فإنه رغم قبول مصر وإسرائيل قرار وقف إطلاق النار فى 22 أكتوبر، فإن إسرائيل نقضت العهد ولم تلتزم بقرار الأممالمتحدة، وحاولت جاهدة انتهاز الفرصة وكسب الوقت بالسيطرة على أراض جديدة لإحراج القيادة السياسية المصرية ومحاولة حصار الجيش الثالث واحتلال مدينة السويس لتكون بمثابة ورقة ضغط فى حال المفاوضات العسكرية والسياسية، ورغم المحاولات المستميتة لتحقيق هذا الهدف فقد فشلت إسرائيل فى الحصار والاحتلال لأن الفكر الصهيونى كان بمثابة كتاب مفتوح للقيادة المصرية. ولأن قوات إسرائيل فى الثغرة كانت فى موقف ضغيف لم يحقق لها أى نصر سياسى أو عسكرى فقد دفعت -إسرائيل - رغم قرار وقف إطلاق النار- بقوات جديدة لتحقيق أى نصر إعلامى فى محاولة منها لتجميل وجه جيش الدفاع الذى قالوا عنه إنه لا يقهر، وقد تحولت قوات إسرائيل فى غرب القناة إلى هدف للقوات المسلحة المصرية، وأصبحت مدرعات ومجنزرات العدو أثراً بعد عين وشاهد عيان على بطولة أفراد القوات الخاصة والصاعقة ومقاتلى الفرقة 19 بقيادة اللواء البطل يوسف عفيفى، والذى أبلى بلاءً حسناً مع ضباطه وجنوده دفاعاً عن المدينة، ولقن قوات شارون درساً قاسياً فى حرب المدن والشوارع لدرجة أن موشيه ديان طلب وقف العمليات لحين إجلاء الجرحى والقتلى. ويتذكر السفير بسيونى قائلاً: يجب ألا ننسى فى أحداث الثغرة الدور الذى قام به اللواء قابيل قائد الفرقة الرابعة المدرعة والذى قال لوسائل الإعلام العالمية التى جاءت لتستطلع الأمر على الطبيعة أمامنا خياران: إما النصر وإما الشهادة، وعلى جنرالات إسرائيل، وبالتحديد إيلى زعيرا وديان وشارون واليعازر قراءة الفاتحة على قوات شارون فى الثغرة لأنهم لن يعودوا إلا قتلى أو جرحى أو أسرى، مما جعل إسرائيل تعيد حساباتها وتستنجد بأمريكا فى محاولة جادة لفض الاشتباك، وبعد تصريحات اللواء قابيل والروح المعنوية التى ظهر عليها.. تأكد ديان أن ثغرة شارون كانت ورطة لأنها وضعت قوات إسرائيل بين فكى الأسد. ولم يعد سراً كما قال السفير بسيونى إن إسرائيل كانت ومازالت تخدع العالم بحكاية أمن إسرائيل، وبات من الواضح أيضاً أن حكاية الأمن هذه أصبحت الشماعة التى تعلق عليها أهدافها السياسية والعسكرية، وقد كشفت عقيدة العدو من خلال الوقائع والأدلة والأسانيد أن دولة إسرائيل قامت فى الأساس على أرض عربية معتمدة فى ذلك على التفوق العسكرى وكيانات الدول الكبرى، والصعود على أكتاف الغير والتهام الكعكة العربية مستغلة حالة الوهن والضعف التى أصابت الأنظمة والحكام بعد ظهور البترول وتطلعات بعض الدويلات العربية الصغيرة والتى تحاول جاهدة الآن التواجد فى مقعد الصدارة. وقد ظهرت العقيدة الإسرائيلية أكثر فأكثر عندما أعلن بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل فى 67 أن آخر حدود إسرائيل هى مستوطنات اليهود فى أراضى الغير لأنها تجبر العرب على التسليم والاستسلام، وبعد 67 اعترف ديان أيضاً بأن السلام الذى يبحث عنه العرب قد تحقق بعد احتلال أراضى 3 دول عربية مؤكداً أن العجلة لا تدور للوراء. وبكل ثقة أكد السفير بسيونى مراراً وتكراراً أن حرب أكتوبر المجيدة أسقطت تلك العقيدة المشبوهة التى اعتمدت على القوة العسكرية، واحتلال أراضى الغير، حيث اضطرت إسرائيل لأول مرة فى تاريخها إلى الانسحاب تحت ضغط القوة العسكرية المصرية. وعلى الجانب الآخر كشف السفير بسيونى أيضاً أن جنرالات حرب أكتوبر وعلى رأسهم المشير أحمد إسماعيل والفريق الشاذلى واللواء الجمسى نجحوا فى تعرية جنرالات إسرائيل، وكشفوا زيف الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر.. ولا يخفى على أحد أنه بعد هزيمة 67 تحول جنرالات إسرائيل إلى آلهة، وجهاز المخابرات إلى أسطورة فتحطمت الأصنام واحدا تلو الآخر، وتحولت جولدا مائير إلى قط عاجز عن الحركة بعد أن كانت أسداً هصوراً يصول ويجول فى ردهات الكونجرس والكنيست والبيت الأبيض، أما الرجل الذهبى موشيه ديان فقد تحول إلى معدن صدئ لا حول له ولا قوة، بعد أن خارت قواه، وتخلى عنه الصديق قبل العدو. وبعد تعرية العقيدة الإسرائيلية ووسط هذا الجو المشحون بالشد والجذب كان لابد من فعل شىء.. لابد من إنقاذ قوات شارون فى الثغرة.. تدخلت أمريكا بكل ثقلها.. وتحرك المكوك كيسنجر على كل الجهات من أوروبا لواشنطن، لتل أبيب لأسوان.. إسرائيل تستغيث.. تحاول تجميل وجهها بأى طريقة، فالجيش المصرى شرق القناة لم يتحرك قيد أنملة، رابض فى تحصيناته بكل تشكيلاته وأسلحته، استعد القادة للقتال والجنود للشهادة، وفى محاولات قاتلة يسعى الجيش الإسرائيلى لحصار الجيش الثالث.. ويحاول دخول مدينة السويس، فيفشل فى هذا ويعجز عن ذاك، إلا أنه نجح فى قطع طريق السويس الصحراوى بعد قرار وقف إطلاق النار.. عندها قررت القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية فتح الطريق بالقوة، وليكن ما يكون.. ارتعدت فرائص جولدا وديان وبدأ تشغيل الخط الساخن من جديد، فقرر كيسنجر زيارة مصر فى أقرب فرصة.. لوضع خريطة للحل السلمى، وبحث محاولات فض الاشتباك بعد أن فشلت إسرائيل فى الضغط على الرئيس السادات بانسحاب القوات المصرية لغرب القناة، ومن جانبه أوفد الرئيس السادات وزير الخارجية إسماعيل فهمى للتفاوض من أجل السلام. وكما قال السفير بسيونى كان الرئيس السادات جريئاً فى اتخاذ قراراته، كان جريئاً فى اتخاذ قرار الحرب، وكان جريئا فى اتخاذ قرار السلام، كان يقول دائما إن أمريكا حليف استراتيجى لإسرائيل، أما روسيا فهى شوكة فى ظهر العرب، خاصة مصر.. ولهذا فقد ارتضى الرئيس السادات -رحمه الله- أن تبدأ المفاوضات العسكرية والسياسية، بغرض الاحتفاظ بالنصر العسكرى الذى أحرزته القوات المسلحة المصرية فى 73. .. تبدأ المفاوضات العسكرية بمباحثات مباشرة بين القادة العسكريين المصريين والإسرائيليين مع الوضع فى الاعتبار انسحاب إسرائيل إلى خطوط 22 أكتوبر وهو تاريخ وقف إطلاق النار، وتمركز قوات إسرائيل شرق الممرات داخل صحراء سيناء، على أن تفصل بين القوات المصرية وقوات العدو قوات من الأممالمتحدة، ثم الاتفاق على تبادل الأسرى والجرحى ورفع الحصار عن مضيق باب المندب، وتطهير قناة السويس لتكون ممرا مائيا مصريا خالصا، وأن تعبر منه جميع سفن العالم كغيره من الممرات الدولية. اختار الرئيس السادات - كما قال السفير بسيونى- الجنرال النحيف محمد عبد الغنى الجمسى رئيس هيئة العمليات، والرجل الذى يشار له بالبنان فى المعاهد العسكرية العالمية، ولكن الجديد الذى لا يعرفه الكثير أن اللواء الجمسى - المشير فيما بعد - لم يكن موافقا على أى مباحثات مع إسرائيل، لم يقبل الجلوس على مائدة المفاوضات مع جنرالات إسرائيل.. كيف يتفاوض مع قتله الأطفال فى دير ياسين، ولصوص الأراضى والمقدسات، وقتلة الشيوخ والنساء. عرض عليه المشير أحمد إسماعيل أن يجلس مع أهارون ياريف مدير المخابرات الإسرائيلية فى الكيلو 101 بطريق القاهرةالسويس لفصل القوات وفض الاشتباك.. رفض الجنرال النحيف، وطلب من المشير أحمد إسماعيل أن يبلغ رفضه للرئيس السادات على أن يختار قائداً آخر.. وعندما أصر الرئيس السادات انتحى الجنرال النحيف جانبا وبكى فى حضرة المشير أحمد إسماعيل.. بكى من شدة الصدمة، فاقنعه أحمد إسماعيل أن دوره فى المباحثات لن يقل عن دوره فى الحرب. وفى سر ربما يذاع لأول مرة فإن القيادة العامة للقوات المسلحة كما يقول السفير بسيونى اتفقت مع الرئيس السادات بأنه إذا لم يحدث تقدم ملموس على الأرض، وراوغت إسرائيل كعادتها على مائدة المفاوضات ستقوم القوات المسلحة بشن هجوم كاسح على قوات شارون غرب القناة، وسيتم فتح طريق السويس الصحراوى بالقوة، وتحويل منطقة القناة إلى جحيم، وذلك بعد أن قرر الرئيس السادات استخدام الأسلحة الخاصة التى لم يستخدمها من قبل.. قررت القيادة أن ترى إسرائيل مالم تره بعد توافد المساعدات العسكرية من الجزائر وليبيا وتونس وتنظيم صفوف المقاومة الشعبية فى السويس وباقى مدن القناة، ولا أكون مبالغاً - كما قال بسيونى - إننا كنا نعرف أن المشير الجمسى كان يتمنى فشل المفاوضات حتى يقضى على أوهام إسرائيل كان يتمنى حرق جيشها فى الضفة الغربية للقناة بعد أن أصبح محاصرا بالموانع الطبيعية والكثافة السكانية والمعدات العسكرية، بالإضافة إلى عجز إسرائيل عن تزويده بأسلحة جديدة لطول خط الإمداد الذى امتد من سعسع قرب دمشق وحتى السويس غرب القناة. وفى إشارة تدل على سوء نية إسرائيل فى كل شىء تفعله فإنه بعد عملية الثغرة، كما قال السفير بسيونى- كانت إسرائيل تتوقع أن يأمر السادات بسحب قوات الجيشين الثانى والثالث، وفى أثناء الانسحاب تقوم بالانقضاض عليه كما حدث فى 67، ولتحقيق هذا الغرض الخبيث قامت بحشد الألوية والمدرعات التى حصلت عليها من الجسر الجوى الأمريكى على رؤوس الكبارى، وضرب المناطق الآهلة بالسكان والوحدات الإدارية غرب القناة، كما قامت بانتهاك قرارات مجلس الأمن إلا عندما لوح السادات بحرق القوات الإسرائيلية فى الثغرة، ولهذا فقد أعلن الرئيس السادات على الملأ أن 67 لن تتكرر، وأن القوات المصرية التى عبرت وتمركزت شرق القناة ستظل رابضة فى مواقعها إلى مالا نهاية. وقال الرئيس السادات فى تصريحات لن تنسى - كما قال السفير بسيونى - إن قوات شارون غرب القناة دخلت فى فم الأسد، ومن يدخل فى فم الأسد لن يخرج سالماً.. واتضح لقادة إسرائيل أن قوات شارون فى الثغرة أصبحت عامل ضغط على إسرائيل بعد أن توقعت أنها ستكون عامل ضغط وإرهاب على القيادة المصرية. وتأكيداً لسوء النية أيضاً يؤكد السفير بسيونى إن الطريق إلى مباحثات الكيلو 101 لم يكن مفروشاً بالورود.. فقد مارست إسرائيل حرب الأعصاب على الجنرال الجمسى والوفد المرافق له، فمع أن القيادة السياسية المصرية قامت بتحديد الزمان والمكان وتحديد الموضوعات التى ستتم مناقشتها مع جنرالات جيش الدفاع الإسرائيلى والبيت الأبيض، إلا أنهم تخلفوا عن المكان والميعاد، وقاموا بتحديد مكان آخر يكون بعيداً عن مرمى النيران المصرية، واختاروا الكيلو 101 على طريق السويس الصحراوى، وفى عمق الصحراء، وفى حماية القوات الإسرائيلية، وأن تكون الاجتماعات ليلية على ضوء الشعاع الفسفورى. وتبين من خلال المباحثات كما أشار بسيونى إلى أن إسرائيل لا تعرف السلام إلا إذا أحست بوقوع خسائر بشرية وسقوط قتلى وجرحى وأسرى فى صفوفها، وظهر هذا فى أول جلسة عندما طلب الجنرال أهارون ياريف رئيس الوفد الإسرائيلى فى مباحثات الكيلو 101 من اللواء الجمسى سرعة تبادل الأسرى والجرحى، وتسليم الجثث، وتثبيت وقف إطلاق النار، وفك الحصار البحرى عن باب المندب، وعندما طلب منه اللواء الجمسى ضرورة انسحاب إسرائيل فوراً إلى خطوط 22 أكتوبر، واحترام قرار وقف إطلاق النار، فقال هذا الموضوع ليس بيدى فأدرك المشير الجمسى أو الجنرال النحيف أن طريق السلام محفوف بالمخاطر، وأن إسرائيل لا أمان لها.. فأبلغ المشير أحمد إسماعيل بما حدث، وبدأ الاستعداد لمواصلة القتال مرة أخرى، وهذا حديث آخر.