فى حلقة الأسبوع الماضى أكد السفير بسيونى أن الرئيس عبدالناصر استعاد زمام الأمور بعد النكسة، وقضى على شعار المشير عامر «برقبتى يا ريس» واستعاد شعاره القديم «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، كما أمر - ناصر - بتجنيد المؤهلات العليا لاستيعاب الحرب الإلكترونية، وسافر إلى موسكو لعقد صفقات أسلحة هجومية استعداداً لمعركة التحرير، وأشرف بنفسه على حائط الصواريخ الذى وصفته جولدا مائير بالغابة ووصفه موشيه ديان ببذرة الشر، فيما رفض السفير بسيونى تسمية أهالى سيناء بالبدو، وأكد أنهم حائط الصد لحماية الأمن القومى وبوابة مصر الشرقية. وفى حلقة اليوم يتابع السفير بسيونى قائلاً: بعد استقرار الجبهة الداخلية والقضاء على مراكز القوى فى 15 مايو سنة 71 بدأ الرئيس السادات الاستعداد لمعركة التحرير، فقام بعمليات تغيير محدودة منها استبعاد الفريق فوزى عام 71 والاستعانة بالفريق صادق ليتولى مسئولية وزارة الحربية، وفى يوم 16 مايو من نفس العام استعان بالفريق سعد الدين الشاذلى ليتولى مسئولية رئاسة الأركان، كما قام بتعيين الفريق أحمد إسماعيل مديراً للمخابرات العامة. وفى الوقت الذى سافر فيه السادات إلى روسيا بغرض الحصول على أسلحة وصواريخ وطائرات هجومية، كان يسير فى خطة الخداع عندما أطلق على عام 71 عام الحسم وابتكر عام 72 حكاية الضباب وقال إنه كان عقبة طبيعية أمام الطائرات المصرية لأنه منعها من ضرب المواقع الإسرائيلية. ومن ضمن خطة الخداع أيضاً طرد الرئيس السادات الخبراء السوفييت حتى لا يكون لهم أى فضل فى الحرب القادمة، وكان القرار بمثابة لطمة قوية من الرئيس السادات بعد مماطلة الاتحاد السوفيتى، فى توريد الأسلحة والصواريخ اللازمة لمعركة التحرير. سوريا والسادات/U/ وقد كان السادات بارعاً فى عمليات الخداع والتمويه، ففى أثناء زيارته لدولة قطر سرّب معلومات مفادها أن مصر تمر بأزمة مالية طاحنة وأنها عاجزة عن شراء السلاح اللازم للمعركة القادمة لوجود نقص حاد فى العملة الصعبة، وإمعاناً فى الخداع فقد سافر الرئيس السادات إلى سوريا لطلب وساطة الأسد فى تحسين العلاقات المصرية الروسية، فى حين كانت عجلة الحرب مستمرة فى الدوران. وبالإضافة إلى ما سبق فقد أعلن الرئيس السادات أكثر من مرة التعبئة العامة، وأن الحرب على الأبواب حتى أن ديفيد بن إليعازر رئيس الأركان الإسرائيلى كان يقوم فى المقابل باستدعاء الاحتياط وتكليف خزانة الدولة أكثر من 61 مليون شيكل فى كل مرة تتم فيها التعبئة العامة بلا داع. وفى سياق خطة الخداع أيضاً سرّب الرئيس السادات معلومات إلى مجلس السوفييت الأعلى برئاسة برجوتى بأنه لن يحارب إلا إذا حصلت مصر على طائرة قاذفة مقاتلة يمكن أن تصل إلى عمق إسرائيل وصواريخ أرض - أرض لتهديد عمق إسرائيل أيضاً لأن مدى الصواريخ المصرية لم يتجاوز ال 75 كيلومتراً آنذاك.. وقد تعمد الرئيس السادات توصيل هذه الرسالة إلى مجلس السوفييت الأعلى لأنه يعلم أن الخبر سيصل إلى إسرائيل فى أقل من 5 دقائق بعد الاجتماع، لعلمه المسبق أن المجلس يضم يهوداً يتعاونون مع الموساد مباشرة، وقد بلعت المخابرات الإسرائيلية الطُعم بفضل الدور البارز الذى لعبه السادات فى عمليات الخداع والتمويه، بالإضافة إلى هذا فقد أعلنت القيادة السياسية يوم 5 أكتوبر زيارة قائد الطيران اللواء محمد حسنى مبارك إلى ليبيا أى قبل الحرب بيوم واحد. ولتحقيق المفاجأة والخداع قامت القوات المسلحة المصرية فى النصف الأول من 73 بتدريبات عسكرية واسعة النطاق ضمت جميع القطاعات والأسلحة اضطرت إسرائيل أثناءها إلى إعلان التعبئة العامة وتكليفها ملايين الدولارات، وهى التدريبات التى تمت فى خريف 1973. وطُعم المخابرات/U/ وبعد أن استمرأت إسرائيل حكاية التدريبات والمشاريع أعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة عن مشروع تدريبى جديد يبدأ من أول أكتوبر حتى يوم 7، عندها بلعت المخابرات الإسرائيلية الطعم للمرة الثالثة فلم تحرك ساكنا مع أن المشروع التدريبى كان عبارة عن خطة هجومية أعدها المشير الجمسى لتحرير الأرض، خاصة أنه تمت إحالة آلاف الجنود إلى الاحتياط ممن شهدوا 5 يونية من غير حملة المؤهلات والذين تم استبدالهم بخريجى الجامعة للتعامل مع الأسلحة الحديثة. كما أعلنت وزارة الحربية عن فتح باب عمرة رمضان للعسكريين بنفس شروط العام السابق وهو الخبر الذى تلقاه الموساد بفرحة غامرة معتقداً أن القوات المسلحة المصرية لن تحارب، ولن تشن حرباً هجومية، مادامت قد سرحت جنودها، وفتحت باب العمرة للراغبين منهم، ومن هنا أيضاً بلعت المخابرات الإسرائيلية الطُعم للمرة الثالثة، ولم تدرك أن كل ما يحدث على الساحة ما هو إلا تخطيط محكم بغرض التمويه والخداع. ويتذكر السفير بسيونى أن القدر تدخل فى خطة الخداع الاستراتيجية عندما طلب وزير دفاع رومانيا زيارة مصر فى 8 أكتوبر، فتم الإعلان عن هذه الزيارة.. وتم تحديد البرنامج، ويعترف بأن الزيارة لم تكن فى الحسبان، وأنها جاءت بدون ترتيب مسبق ومع ذلك فقد استفادت منها المخابرات المصرية فى خطة الخداع الاستراتيجية، مما يؤكد أن القدر كان معنا. ولم تقتصر خطة الخداع على ما سبق بل أمرت المخابرات الحربية بعض الجنود بالجلوس على المقاهى الرئيسية بوسط البلد، وأمام الفنادق والمزارات السياحية لترويج حالة الاسترخاء العسكرى، كما قامت المخابرات بتجهيز فرق مص القصب الذى كان يأتى عن طريق بعض الزملاء من «الصعيد الجوانى»، كما تم إعداد فرق أخرى للعب الكرة والفولى بول والسباحة، وفى صبيحة يوم 6 أكتوبر تم توجيه أوامر للجنود والضباط بخلع الخوذة لأن موشيه ديان كان يقول فى جلساته الخاصة:«إننى أعرف درجة استعداد المصريين للحرب بلبس الخوذة»، وبالتالى فقد تم تضليل وخداع موشيه ديان أكبر رأس عسكرية فى إسرائيل لكونه وزير الدفاع آنذاك. ساعة الصفر/U/ كما كان اختيار ساعة ويوم الهجوم من أهم المفاجآت الاستراتيجية لأن اليوم هو يوم كيبور، وهو يوم عيد فى إسرائيل بل من أهم الأعياد هناك حيث تعطل فيه المدارس والمصالح والإذاعة والتليفزيون، كما أن القمر فى 10 رمضان يظل مضيئاً من ساعة الغروب وحتى منتصف الليل، كما كان تحديد ساعة الهجوم مفاجأة للجميع أيضاً لأن نظريات القتال تقول إن الحرب غالباً ما تكون فى أول ضوء للنهار أو آخر ضوء، ولهذا فإن مصر كانت تود أن يبدأ الهجوم صباحاً لصعوبة التحرك على هضبة الجولان مساءً لوجود صخور بركانية تمنع تحرك الدبابات خارج المحاور، ولذلك كان الحل الوسط هو الساعة الثانية ظهراً. ويضيف السفير محمد بسيونى أن التعاون والتنسيق العسكرى بين مصر وسوريا أيام حرب أكتوبر كان أفضل بكثير من أيام الوحدة، وقد أدى هذا التنسيق إلى تنفيذ خطة الخداع الاستراتيجى التى رسمها السادات وسار على دربه الرئيس حافظ الأسد، ففى 13 سبتمبر 1973 حدثت معركة جوية بين الطيران الإسرائيلى والطيران السورى، ورفض الأسد الأخذ بالثأر، لحين ساعة الصفر، وبعد تساقط الفانتوم على هضبة الجولان فى 73 تعالت صيحات الله أكبر، أما إسرائيل فكان لسان حالها يقول: على الباغى تدور الدوائر، أو على نفسها جنت براقش. ومع أن التنسيق كان أفضل بين البلدين عن أيام الوحدة، إلا أن السفير بسيونى أقر بوجود بعض الصعوبات التى لازمت القيادتين المصرية والسورية فى حرب أكتوبر لعدم وجود امتداد جغرافى بين البلدين، كما أن هضبة الجولان كانت أقرب لقلب إسرائيل من سيناء حيث لا تبعد عنها أكثر من 25 كيلومترا، فى حين يصل عمق سيناء إلى 300 كيلومتر مما ضاعف من الأعباء اللوجستية على القيادة السورية. ويؤكد السفير بسيونى أن حرب أكتوبر أثبتت عن جدارة قدرة المقاتل المصرى على التخطيط والتنفيذ وبالتحديد عبقرية اللواء محمد عبد الغنى الجمسى رئيس هيئة العمليات - المشير ووزير الحربية فيما بعد - حيث وضع هذا الجنرال النحيف - كما وصفته إسرائيل - خطة هجومية اعتمد فى تنفيذها على عنصر المفاجأة متفوقاً فيها على أحدث النظريات العلمية فى القتال فراعى فيها حركة المد والجذر فى القناة، وسرعة التيار وساعات الإظلام والضوء، والأحوال الجوية وحالة البحرين المتوسط والأحمر، بالإضافة إلى دراسة الموقف الداخلى فى إسرائيل، وانشغالها آنذاك بانتخابات اتحاد العمال، ولضمان السرية كتب اللواء الجمسى الخطة بخط يده، وسلمها للفريق أحمد إسماعيل الذى عرضها بدوره على الرئيس السادات، وهى الخطة المعروفة «بكشكول الجمسى». عبقرية وعزيمة/U/ ومع دقة التخطيط والتنفيذ فقد قابلت المقاتل المصرى تحديات حقيقية كان أخطرها قناة السويس - والتى تعد أصعب مانع مائى بعد قناة بنما - لانحدار شاطئيها مما يعوق صعود ونزول المركبات البرمائية إلا فى ظل تجهيزات هندسية خاصة، والمفاجأة أن هذا المانع أصبح عند العبور كأن لم يكن بفضل عزيمة المقاتل المصرى، وسلاح المهندسين الذى صنع أكثر من 60% من الكبارى محلياً و75% من قوارب الاقتحام. وقبل العبور بيوم عبر ضباط المخابرات والاستطلاع والمهندسين وسدوا فتحات النابالم المتصلة بمستودعات الوقود لتحويل القناة إلى جحيم إذا ما حاول المصريون العبور، وكانت جولدا مائير تطلق على هذه المواسير الكلاب المسعورة، فى حين أطلق عليها موشيه ديان السلاح السرى الذى سيحل مشكلة الإسكان والمواصلات فى مصر لاحتواء كل خزان على ما يزيد على 200 طن من المواد الملتهبة. أما التحدى الثانى فكان الساتر الترابى الذى تراوح ارتفاعه ما بين 12 و24 متراً وبزاوية انحدار تصل إلى 80 درجة تجعل من المستحيل صعود أى مركبة برمائية فوقه، وتم التغلب عليه بفتح أكثر من 85 ممراً على طول القناة وبمضخات المياه التى ابتكرها الضابط باقى زكى الذى استلهم الفكرة أثناء عمله بالسد العالى. أما خط بارليف والذى يعد التحدى الثالث والأخطر فى أرض المعركة فكان يضم 35 نقطة حصينة ما بين النقطة والأخرى من 1 كيلو إلى 5 كيلو مترات.. ولم تكن نقاط خط بارليف على سطح الأرض كما يتوقع البعض، ولكنها كانت عبارة عن خنادق مسقوفة بخرسانات قادرة على تحمل المدفعية والقنبلة الذرية، بالإضافة إلى إحاطتها بحقول ألغام وأسلاك شائكة مزودة بمزاغل وقناصة بإمكانهم اصطياد أى أفراد عابرة وتحويل القناة إلى قطعة من جهنم. تحديات/U/ هذا بالإضافة إلى التحديات الفرعية الأخرى كالاعتماد على أفراد المشاة فى الأفواج الأولى للعبور، وتكليفه بمواجهة الدبابة وتدميرها بآر بى جى محمول على الكتف فى سابقة لم تحدث فى تاريخ الحروب العسكرية، فى ظل وجود مرابض للدبابات المعادية لا يظهر منها سوى مواسيرها، بالإضافة إلى دبابات الاحتياط الأخرى المتمركزة على أبعاد 3 و5 و8 و15 كيلو مترا فى صحراء سيناء، ومع ذلك فقد تفوقت الإرادة المصرية وتفوق الفرد المقاتل على نفسه فعبر قناة السويس، واقتحم حصون خط بارليف المنيع، وانقض على جنود الجيش الذى لا يقهر كالأسد الجائع بعد صبر استمر 6 سنوات. ويعترف السفير بسيونى بأن القيادة السياسية والعسكرية المصرية دخلت الحرب وهى تعلم بتلك التحديات جيداً، تعلم أنها تجدف ضد التيار أو ضد نظريات القتال التى تقول إنه يجب أن تكون القوات المهاجمة ثلاثة أضعاف القوة الأخرى، خاصة فى الذخيرة والسلاح، وقد كنا متفوقين فى بعض الجوانب، ولكن العدو كان متفوقاً فى سلاح الجو بفضل الدعم الأمريكى الذى لا ينقطع، وقد استطعنا التغلب على هذه النقطة بحائط الصواريخ الذى قطع ذراع إسرائيل الطويلة، كما نجحت القيادة العسكرية فى إعداد الفرد المقاتل ليواجه الدبابة فى سابقة لم تحدث من قبل. ولم يمتلك العدو تفوقاً نوعياً فى التسليح فحسب ولكنه امتلك جهاز مخابرات يعمل بتنسيق كامل مع أجهزة المخابرات الغربية، وخاصة المخابرات الأمريكية. ومع هذا فكنا نعلم - والكلام للسفير بسيونى- أن إسرائيل لن تحارب بمفردها دون الارتكاز على قوة عظمى مثل أمريكا وأنها لن تقدر على حرب طويلة لأن شعبها عبارة عن قوات من الاحتياط. فى الحلقة القادمة سر الطيار المصرى الذى أسقط الفانتوم على هضبة الجولان.. وحقيقة سفر المشير أحمد إسماعيل إلى سوريا أول أكتوبر، وسر خلاف سعد الدين الشاذلى مع الرئيس السادات.