هو رجل من نوع خاص.. رجل لا يعرف المستحيل، عركته الحياة، فعاش حلوها ومرها.. عاشها منتصرا ومنكسرا، عاشها طائراً يحلق بجناح واحد أوطائراً بجناحين.. إنه السفير محمد بسيونى أول وزير مفوض لمصر فى إسرائيل، وثانى سفير لها بعد الدبلوماسى القدير سعد مرتضى، وصفوه فى تل أبيب بالثعلب المكار، وقال عنه بيجين: إن قلبه ميت، وقال عنه شارون: إنه رجل بلا قلب، تراه من بعيد مثل أسد يترقب الفريسة أو كأنه على موعد معها، وتقترب منه فكأنه حمل وديع.. يكشر عن أنيابة أحياناً، ويضحك حتى تظهر نواجذه أحيانا أخرى. وصفه أبوه فى بدايات العمر بالولد الشقى، وقالت عنه أمه: إنه قدم الخير، وكان بسيونى الصغير آخر العنقود بين إخوته التسعة، وكان أول مدرسته بعد موت والده، تربى فى كنف شقيقه سعد زغلول ، وكان زميل «دكة» مع فاروق الباز فى مدرسة الحدائق. قلت له: أطمع فى عدة لقاءات، فامتد الحوار إلى ساعات وساعات، وعندما تمنيت أن تكون الحلقات مذكرات، فقال: يكفينى أن تكون ذكريات. أردت أخذ النصيحة فقال: هى الأيام والعبر.. وأمر الله ينتظر.. فقلت له ماذا تقول لأصحاب المناصب؟، فقال على الفور: ما طار طير وارتفع.. إلا كما طار وقع. سألته عن أصعب لحظات حياته، فقال عندما سافرت إلى إسرائيل على طائرة وزير الدفاع كمال حسن على، ونزلت فى مطار بن جوريون فوجدت وزير الدفاع الإسرائيلى عايزرا وايزمان فى انتظارى، وبعدها تمت لقاءات مع رئيس الوزراء مناحم بيجين، ورئيس الدولة إسحاق نافون، تذكرت فى لقاءاتى معهم شهداء 67 ودماء شهداء بحر البقر، وجرى الدم فى عروقى، وتمنيت أن أعود إلى الميدان وأستعيد أيام شبابى ولكن تحليت بالصبر عندما طاف بخيالى شريط العبور وحائط الصواريخ، واقتحام خط بارليف، ورفع علم مصر على أرض سيناء، واسترداد طابا.. تذكرت على الفور نصائح الرئيس السادات وهو ضرورة كسر الحاجز النفسى فاعتبرت عملى فى تل أبيب مهمة قتال للانتصار فى المعركة الخامسة من أجل انسحاب إسرائيل من كل الأراضى العربية.. والحق يقال كما يقول السفير بسيونى أن هذا الموقف كان صعباً على واحد من أمثالى خاض أربع حروب ضد إسرائيل ودرس 7 سنوات لمادة العدو وقضى 14 عاما من عمره فى المخابرات الحربية، حتى أن إسرائيل أصبحت كتاباً مفتوحاً له فى كل مراحل حياته. وقبل عرض أوراق ثعلب المخابرات المصرية يقول السفير بسيونى: مجلة أكتوبر عزيزة على قلبى، فهى الرمز والمعنى، والحرب والنصر والتاريخ، والصبر والإيمان والعقيدة.. هى حرب المخابرات وتواصل المعلومات، وأصوات المدافع، ودانات الدبابات.. وغارات الطائرات، وهى تحرير الأرض والعرض والكرامة، هى الجهد والعرق والتخطيط.. أكتوبر هى مصر التى انكسرت وانتصرت، وتراجعت، وقادت وثارت وعلمت، هى أم البطل والشهيد، واللواء والفريق، مصر الثورة والتطهير، والشباب والتضحية والفداء، هى جنة الله فى أرضه من أرادها بسوء قصمه الله. إنها أوراق السفير محمد بسيونى رئيس عمليات الكتيبة 32 مشاة، الذى خطط لقتل شارون فى القسيمة، فنجا من الموت بأُعجوبة بعد أن ولى هاربا إلى الحسنة، هاجم سرية استطلاع شارون فدمر 3 دبابات.. وبرأ أشرف مروان من تهمة العمالة، فماذا قال السفير بسيونى فى أوراقه عن النشأة والأسرة، والبداية والنهاية، وديان وشارون، والجمسى وأبو غزالة؟ ماذا قال عن الرئيس والمشير؟ صفحات مجهولة من تاريخ مصر يكشف عنها النقاب السفير بسيونى بعد ثورة 25 يناير. فى البداية يقول السفير بسيونى عن جذور الأسرة: ترجع أصول والدى لقرية كفر الباجور محافظة المنوفية، وهى قرية صغيرة مترابطة، متحابة.. الكنيسة بجوار المسجد، والشيخ يتعانق مع القسيس، حياة لا تعرف الحقد أو الضغينة أو الطبقية.. الكل يستيقظ مبكراً ليصلى الفجر، ثم يذهب إلى حقله، ويعود فى نهاية اليوم ليجلس قليلاً مع أولاده، أو يتزاور مع أهله وأحبائه، ثم ينام ليستيقظ مبكراً أيضاً، ومازالت عائلة بسيونى فى كفر الباجور ملء السمع والبصر. ويتذكر السفير بسيونى أن أهل قريته – كما كانت تحكى له أمه – كانوا يعشقون أولياء الله الصالحين، ويذهبون لزيارة أضرحتهم وعلى رأسهم الإمام الحسين والسيدة زينب، كعادة أهل الريف كما كان أبناء تلك القرية الجميلة - قرية كفر الباجور - يقيمون الموالد ويتزاورون فى الأفراح والأعياد، وكانوا بمثابة رجل واحد أو مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. وبعد فترة اشترى والدى – الذى كان يعمل قاضيا فى إحدى المحاكم - منزلاً مكوناً من ثلاثة طوابق فى حدائق القبة طابق للضيوف، والثانى للمذاكرة، والثالث للنوم، وكان هذا البيت بمثابة دوار العمدة لأهلى وأقاربى من قرية كفر الباجور، وقد ظل مفتوحا بعد والدى الذى توفى فى سن مبكرة، وقامت أمى وشقيقى الأكبر سعد زغلول والذى كان قاضيا أيضاً فى مصلحة الخبراء باستقبال كل أقاربنا، ومازال الحبل موصولاً حتى أيامنا تلك رغم مشاغل الحياة المتراكمة. حضرة القاضى ومن هنا – كما يقول السفير بسيونى – نشأت فى أسرة متوسطة الحال تعرف ما لها، وما عليها، وكان أبى الذى توفى وهو ابن 45 ربيعاً دائم الصلاة فى المسجد، حيث عودنا منذ نعومة أظفارنا على الاستقامة والطهارة ونزاهة اليد، والإخلاص فى العمل، والوفاء بالعهد، والالتزام بالوقت وهو ما أثر بالإيجاب فى كل مراحل حياتى، بداية من الابتدائية وحتى المرحلة الجامعية والعسكرية والدبلوماسية فيما بعد، وهذا الالتزام قد غرسته فى أولادى د.حاتم وأ.حنان، حتى إن د.حاتم تأخر علىّ ذات مرة عندها رفضت استقباله، وطلبت منه عدم الحضور فى حين رفضت أيضاً مقابلة حنان لأنها جاءت مبكراً عن موعدها، وهذا لروح الالتزام التى تربيت عليها فى سنوات عمرى الأولى أولاً: من أبى الذى توفى وأنا عندى 6 سنوات ثم من أمى والتى كانت أمة بكاملها ثم شقيقى الأكبر سعد زغلول الذى كان بمثابة الأخ والصديق والأب، فرحمه الله رحمة واسعة. يقول السفير بسيونى كنت آخر أشقائى التسعة فى الترتيب يعنى آخر العنقود وقد لاحظت أنهم جميعاً – من عشاق قراءة القرآن فى رمضان وفى غير رمضان، وكانوا يرفضون تناول أى مكيفات، لدرجة أن السجائر لم تعرف طريق أفواهم، كما كان شقيقى الأكبر يأخذنا لنزور الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة، وأهرامات الجيزة والكنيسة المعلقة، كما كان يأخذنا فى الصيف لزيارة شواطئ المعمورة والسينما لمشاهدة أفلام إسماعيل ياسين القديمة. تسليم القيادة والطريف - كما يتذكر السفير بسيونى- أن الأسرة التزمت بعد وفاة الوالد بمبدأ تسليم القيادة الذى عرفناه فيما بعد فى القوات المسلحة، فأخى الأكبر سعد زغلول لم يتزوج، ولم يترك البيت إلا بعد أن تزوجت شقيقتى الوحيدة وحصل شقيقى الثانى فؤاد على بكالوريوس العلوم قسم جيولوجيا، وعمل فى إحدى شركات البترول، ثم عميداً لكلية البترول والتعدين، كما أن شقيقى فؤاد لم يتزوج ولم يخرج من البيت إلا بعد حصول شقيقى الثالث على المرحلة الجامعية أيضاً، وهكذا حتى جاء الدور على الأخير.. وهو العبد لله الذى يجلس أمامك الآن،وقد أدينا الرسالة على أكمل وجه، والحمد لله أولاً وآخراً. سعد زغلول وجاءت مرحلة دخولى المدرسة فأخذنى شقيقى سعد زغلول وقدم أوراقى فى مدرسة حدائق القبة الابتدائية حيث مولدى ورغم السن المبكرة فإننى أتذكر أن أعضاء هيئة تدريس المدرسة كانوا يهتمون جداً بالتلاميذ وكانوا حريصين على أن تكون نسبة النجاح 100% لدرجة أنهم كانوا يعطوننا دروسا إضافية وبالمجان فى الفترة المسائية حتى يتساوى طلبة المدارس الحكومية بالمدارس الأجنبية، وكان هذا قمة الوفاء لهذا الجيل الذى لن يتكرر من المعلمين، فمع أنهم كانوا متوسطى الحال إلا أنهم كانوا راضين قانعين مخلصين لوطنهم وعملهم، مؤكدا أن الدروس الخصوصية لم يكن لها وجود فلم نعرف المدارس أو مافيا المدرسين أو حيتان اللغة العربية وعباقرة الرياضيات الذين نقرأ إعلاناتهم على جدران الحوائط أو لافتات الميادين فقد انقلب حال المعلمين 180 درجة لمتغيرات كثيرة أهمها غياب الضمير، وافتقاد الوازع الدينى عند فئات كثيرة من المواطنين. ويتابع السفير بسيونى أن مدرس اللغة الانجليزية فى مدرسة القبة الثانوية استعان بشقيقه الذى كان يعمل فى السفارة البريطانية بالقاهرة ليعطينا محاضرات فى اللغة الانجليزية ودروسا فى فن الترجمة والمحادثة والحوار وكان هذا يتم مجانا كما قلت حرصا من هذه الأجيال العظيمة على مصلحة الأبناء والوطن، مما يؤكد أنه لا يوجد وجه مقارنة بين التعليم فى الأربعينيات والتعليم فى 2011. ولأنه لم توجد مرحلة إعدادية آنذاك فقد التحقت بمدرسة القبة الثانوية التى كان يطلق عليها البكالوريا، وفى هذه المرحلة المهمة كنت صديقا للتلميذ النجيب فاروق الباز، حيث كنا – ونحن تلاميذ – «زمايل» دكة، وكان الباز - كما يقول السفير بسيونى- طالبا مجتهدا منضبطا يقضى كل وقته فى معمل المدرسة، كما أنه كان يتطلع إلى الأفضل دائما ولا يصاحب إلا الطلبة المجتهدين، وأتذكر أن موجه العلوم تنبأ له بمستقبل مشرق، وهو ما حدث بالفعل، حيث أصبح د. الباز الآن ملء السمع والبصر لكونه مديرا لوكالة ناسا الفضائية فى أمريكا. وبعد البكالوريا – كما يقول السفير بسيونى – التحقت بكلية الحقوق، وقد اخترت هذه الكلية العريقة لسببين، أولهما أنها كانت آنذاك كلية العظماء والزعماء أمثال خالد الذكر سعد زغلول والسنهورى باشا ومصطفى النحاس باشا وثانيا: أن أعدادا كبيرة من العائلة كانت تعمل فى سلك القضاء وعلى رأسهم والدى الذى كان كما قلت يعمل قاضيا، وشقيقى الأكبر وصل إلى منصب وكيل وزارة العدل فى مصلحة الخبراء كما كان خالى عبد الحميد باشا رشدى كان رئيس محكمة الاستئناف سابقا، ورغم تفوقى فى كل مراحل التعليم، وحصولى على تقدير ممتاز فى كلية الحقوق التى قضيت فيها عامين إلا أننى نقلت أوراقى إلى الكلية الحربية، وهذه قصة أخرى. * فى الحلقة القادمة.. لماذا ترك السفير بسيونى الحقوق والتحق بالحربية وحكاية الحب الأول فى حياة ابن القاضى، وكيف تعرف الضابط بسيونى على شريكة حياته.