مجلس جامعة كولومبيا يصوت على قرار للتحقيق مع الإدارة بعد استدعاء الشرطة لطلبة متضامنين مع غزة    قوات الاحتلال تطلق النار على سيارة خلال اقتحام مدينة طولكرم    الجيش الأمريكي: الحوثيون ألقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر الأحمر وأصابوا إحداهما    أحمد فهمي يحتفي بصعود الأهلي لنهائي إفريقيا    الأرصاد تحذر المصريين من طقس اليوم: الأمطار الرعدية والسيول تضرب هذه المناطق    4 أيام متواصلة.. تعرف على عطلة شم النسيم وعيد العمال والإجازات الرسمية حتى نهاية 2024    اليوم.. جلسة محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف عمرو أديب    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    كولر: مازيمبي لم يشكل أي خطورة علينا.. وسنحتفل اليوم بالتأهل    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    واشنطن تعلن عن مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 6 مليارات دولار    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    حقيقة انفصال أحمد السقا ومها الصغير.. بوست على الفيسبوك أثار الجدل    رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 27 إبريل بعد الانخفاض الآخير بالبنوك    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    دوري أبطال إفريقيا| الأهلي يعزز رقمه الإفريقي.. ويعادل رقمًا قياسيًّا لريال مدريد    محمد هلب: السيارات الكهربائية بمثابة مشروع قومى لمصر    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    رسالة هامة من الداخلية لأصحاب السيارات المتروكة في الشوارع    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    بشرى في العرض الخاص لفيلم "أنف وثلاث عيون" بمهرجان مالمو للسينما العربية    يسرا اللوزي تكشف سبب بكائها في آخر حلقة بمسلسل صلة رحم.. فيديو    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أوراق السادات

المذكرات الشهيرة التى سجلها الكاتب الكبير : أنيس منصور للرئيس الراحل
السادات : هيكل كان يقود تيار دعاة الهزيمة قبل النصر !
كلفت وزير الحربية الجديد أحمد إسماعيل أن يستعد، أى أن يوقف الجبهة. وأن يتهيأ لتحضيرات الهجوم، وأنا أترك الجبهة الداخلية الآن، فالذى سمعته عن القوات المسلحة ومن القوات المسلحة أذهلنى، ووجدت أن هذه هى المعركة، معركة إعداد الجيش ليدافع عن مصر وعن القومية العربية كلها.
وأحسست أمام الردة التى اجتاحت بعض الناس، أنه لابد من عمل شىء بسرعة.
وأحسست أن أحمد إسماعيل فى اللحظة التى كان يرفع فيها الساتر الترابى كان يرفع من معنويات الجيش أيضا.. فالسواتر الترابية كانت شيئا أهم من التراب، وكانت أخطر من مجرد ساتر عندنا يقف أمام ساتر عند اليهود.. أو يعلو على ساتر اليهود.. ولم أشعر أن هذا التراب الذى اشتركت فى رفعه كل شركات المقاولات فى مصر، كان تبرا وليس ترابا.. ففى استطاعة قواتنا أن تعلو وأن تقف فوق هذا التراب بأسلحتها وتكشف العدو كما كان يفعل فى قواتنا. لقد أقام أحمد إسماعيل ساترا ترابيا عاليا على شكل حدوة الحصان، وقال اليهود: إن المصريين قد اعتادوا على بناء الأهرامات.. حتى فى العصر الحديث أقاموا هرما.. ولم يكن بناء الأهرامات الترابية هذه إلا لحكمة يعرفها اليهود وإن كانوا يتظاهرون بأنهم لا يعرفون حكمتها.. وجاءت على شكل حدوة الحصان، لا باعتبار أن هذه الحدوة هى رمز للتفاؤل، ولكن لأسباب عسكرية.
وبعد ذلك جاءنى أحمد إسماعيل يقول لى: تمام يا أفندم!
وكان صادقا فيما يقول، فهو رجل جاد، وعلى درجة عالية من الثقافة العسكرية والثقافة العامة.
وفى نهاية ديسمبر واجهت الشعب كله بما حدث وفضحت اليمين واليسار وطلعت الصحيفة اليومية ورئيس تحريرها تقول: إن القرارات التى أصدرتها غير مدروسة.. وكانت تقصد قرار طرد الخبراء السوفييت وقرار عزل وزير الحربية الذى راح يدعو لزعامته فى الجيش.. وكان يبنى هذه الزعامة على هدم معنويات القوات المسلحة.. وقد عزلته واثنين آخرين حاول أحدهما الانتحار فى السجن.. وأرسل لى ورقة ملتهبة حماسا عندما انتصرت قواتنا فى أكتوبر. وأمام مجلس الشعب أكدت للشعب وللأمة أنه من الضرورى أن نكون على حذر، وأن نتنبه إلى مزالق لا يحق لنا أن ننجرف إليها، سواء بالنسبة لتحرير الأرض أو الممارسة الديمقراطية. اشرح وأعرض وأقنع.
فقضية تحرير الأرض العربية هى التزامنا الأساسى، وإليه وفى سبيله يجب أن تتجه كل أعمالنا ونياتنا، فلا طريق إلى استرداد الحق إلا بالقوة.. إلا بقواتنا المسلحة، ولا يمكن لقواتنا المسلحة أن تؤدى دورها إلا إذا كانت هناك جبهة داخلية متماسكة وصلبة تؤمن بهدفها وتعرف طريقها إلى تحقيقه مهما كانت التكاليف.. ثم إن الوحدة الوطنية هى الدعامة الوحيدة للجبهة الداخلية المتماسكة الصلبة.
وأعلنت أيضا أنه بدءا من الآن لن أسمح ولن تسمحوا ولن يسمح شعبنا بنغمة طائفية من أى شخص ومن أى مصدر ولأى سبب، ثم إننى أيضا لن أسمح ولن تسمحوا ولن يسمح شعبنا باستقطاب يمزق قوى الوطن خصوصا بين الشباب بدعاوى اليسار المغامر أو اليمين الرجعى!
وفى مارس من سنة 1973 اجتمعت مع المشير أحمد إسماعيل فى بيت صغير فى كنج مريوط.. وكان اجتماعا تاريخيا لأننى أعطيت فيه قرار الحرب، ولم أحدد متى يكون ذلك من هذه السنة.. وفى ذلك الوقت كانت قواتنا تتدرب على القتال وعلى مواقع تشابه تماما المواقع التى سوف تحارب فيها.. وفى منطقة قريبة من القناطر الخيرية.. حيث الرمال والحاجز المائى والعبور وسواتر الرمل.
وكان هذا الكوخ هادئا متواضعا.. أقامته وزارة الزراعة منذ ستين عاما.. وقد جاء الرئيس حافظ الأسد إلى هذا الكوخ فى زيارة سرية، واتخذنا معا فى شهر أبريل قرار المعركة. وقد قدم لنا الفريق عبدالغنى الجمسى دراسة وافية عن أنسب الأوقات للقتال.. وكانت هذه الدراسة خلاصة أبحاث فى علوم كثيرة أبسطها علم الفلك، ففى هذه الدراسة وصف لنا الظواهر الطبيعية على مدار السنة، حالة الجو والمد والجزر وحركة الرمال والشروق والغروب.. وقد كتب الجمسى هذه الدراسة بخط يده.
ومن يقرأ هذه الدراسة يستشعر صعوبة العلم العسكرى، وأنه ليس سهلا كما يتصور بعض المحللين أصحاب نظرية المنخل والغربال فى الحرب والقتال.
كل شىء يسير حسب الخطة الموضوعة، والمتفق عليها مع الرئيس حافظ الأسد، وكل يوم يمضى نشعر باقتراب اللحظات الحاسمة.. وهى ولاشك كذلك: إنه ليس مصير مصر وسوريا وحدهما.. وإنما هو مصير الأمة العربية لمئات السنين.. فهذه المرة إذا لم ننتصر فإن كل ما قاله العدو والحبيب سوف يصدق علينا.. وإننا شعوب كلام، وإنه لا قومة لنا بعد ذلك.. ولن يثق أحد فينا ولا فى قواتنا العسكرية.
وقد جربت بصورة أليمة معنى أن يكون الإنسان صادقا فيما يقول، ثم لا يجد أحدا يصدقه.. أو إذا صدقه فمن باب الإشفاق عليه.. أعرف ذلك جيدا، وقد جربته وتعذبت به، وهانت نفسى على نفسى.. ولكن من أجل مصر كل شىء يهون.
وقد أمرت بتجهيز قصر الطاهرة لإدارة الحرب، فقد كان مجهزا تماما للاتصال بكل مكان فى مصر، بل بكل تشكيل عسكرى فى أى موقع وبالقرب من قصر الطاهرة يوجد قصر الأمير محمد عبدالمنعم، وفى هذا القصر كان يعمل حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى ومعه مجلس وزراء مصر والمسافة بين القصرين مائة متر.
وقصر الطاهرة كان قد اختاره جمال عبدالناصر للإقامة فيه فى صيف 1956 عندما كانت بعض الإصلاحات تجرى فى بيته فى منشية البكرى، فقد كان بيته صغيرا ضيقا وفى أكتوبر 1956 وقع العدوان الثلاثى على مصر وارتبط هذا القصر فى ذهن جمال عبدالناصر بالعدوان ومضاعفات العدوان، ولذلك كان لا يحب هذا القصر بل يتشاءم جدا من الإقامة فيه.
ولكن وجدت هذا القصر مناسبا تماما لما أريد، فقد جهز تجهيزا جيدا ثم إنه وسط القاهرة وبين الناس وعن طريق الأجهزة الكثيرة فيه أستطيع أن أكون على صلة بكل الناس وفى قصر الطاهرة كنت أتلقى تفاصيل الموقف من كل جهة وأنا لا أطمع فى أحسن ولا أدق من ذلك، ثم إننا فى حالة حرب وكل شىء يجب أن يكون من أجل الحرب ومواجهتها وإدارتها والتفوق فيها بإذن الله.
وكانت غرفة المكتب بقصر الطاهرة هى غرفة عمليات أثناء الحرب. ولم يخطر على بالى قبل الحرب أو أثناءها أن الصدمة سوف تذهل إسرائيل إلى هذه الدرجة، فقد أذهلتها وردعتها وأفقدتها توازنها، ولذلك لم أستبعد أن يصيبها الجنون لدرجة ضرب أعماق مصر بقصد تحطيم معنويات شعبنا العظيم، فتضرب العمق وتحطم المواصلات وتهدم الجسور والمصانع والمدارس والمستشفيات إلى آخر نوبات الجنون التى سوف تصيبها بالغرور والغطرسة لأنها هى أيضا قد آمنت بأنها قد قامت لكى تنتصر دائما وتوهمت أن العرب قد ولدوا لكى يعيشوا منهزمين.. ربما كان للغرور الإسرائيلى بعض العذر إذا تلفت اليهود إلى الوراء ورأوا ما حدث فى 48 أو فى 56 أو فى سنة 1967 وحتى حروب الاستنزاف أيضا، إن الصورة بهذا الشكل تعطيهم الكثير من الحق فى أنهم انتصروا علينا.
ولكنى أرى، وللحق والإنصاف والتاريخ، أننا أهملنا فى حق أنفسنا فلم نعط لكفاح الجيش المصرى ما يستحقه من الاهتمام فلم تكن معاركنا هزائم كلها، إنما كانت هناك مواقف مجيدة وبطولات عظيمة، فلم تكن الصورة سوداء، ولا كانت نتائجها عارا علينا.
ولذلك كانت القوات المصرية معذورة فى أن تنكس رأسها كلما جاءت ذكريات الحرب الأليمة.. وكانت القوات اليهودية تطيل أعناقها وترفعها وتجعلها غليظة كما وصفتها التوراة، بأن اليهود غلاظ الرقاب، أى فيهم غرور وصلف حتى مع الله.. والتوراة تؤكد هذا المعنى.. وهو حقيقة.
ولذلك، وأرى أن نقول هذا لأنفسنا كثيرا ولأجيالنا الشابة أيضا: إن الاستعداد لحرب أكتوبر كان عسيرا.. ورفع الروح المعنوية بين كل الناس كان صعبا، وغرس الإيمان فى كل القلوب كان شاقا، وأنا أعرف الكثير من المتاعب التى ذكرت بعضها، ولم يحن الوقت بعد لذكر أشياء كثيرة منها، وهذه هى مهمة المؤرخين المنصفين.. وكان فضل الله عليك عظيما.. صدق الله العظيم.. فقد أعاننا الله ونصرنا، وسوف ينصرنا إنه على كل شىء قدير، فقد احتطت لكل شىء، وجعلت غرفة للعمليات فى قصر الطاهرة، وغرفة مماثلة فى الاتحاد الاشتراكى فى البدروم على النيل، وكانت هذه الغرفة بديلا عن غرفة قصر الطاهرة إذا ما ضربتها الغارات اليهودية، فقد كان ذلك احتمالا قائما، من يدرى؟ وجعلت غرفة ثالثة للعمليات لممدوح سالم الذى كان يتولى الدفاع المدنى والمقاومة الشعبية، لقد كانت هناك ثلاث غرف تبادلية، وهى جميعا على اتصال ببعضها البعض وبكل مكان فى مصر.
ووسط هذا الجو الجاد الذى يأخذنا من كل ناحية، والحسابات الطويلة المعقدة والاحتمالات التى تطل برءوسها مخيفة لنا، حدث شىء يبعث على الضحك، تماما كما نجد السحاب الأسود يمزقه البرق فيضىء كل شىء لحظة ثم يعود كل شىء إلى ما كان عليه.. وهذا ما حدث.. فنحن عندما كنا نجهز قصر الطاهرة عثرنا على ثمانين ميكروفونا صغيرا للتجسس، ولم تخل حجرة وحدة من هذه الميكروفونات التى تعمل لصالح إدارة المخابرات العامة، كان ذلك فى سنة ,.1973 أى بعد أن صفيت مراكز القوى فى ,1971 ولم تعد هناك أجهزة للتنصت ولا تسجيلات ولا تقارير.. فقد انقطعت كل الاتصالات بين هذه الميكروفونات وبين أجهزة التنصت هذه، ولكن بقيت الميكروفونات فى أماكنها بلا عمل.
شىء مضحك أن نتجسس على كل ما يقوله زوار القصر ونزلاؤه من رجال وزوجاتهم فى غرف نومهم؟!
وتساءلت وأنا أضحك: ولماذا نسوا دورات المياه؟!
فى ذلك الوقت جاءنى القذافى فى قصر الطاهرة، وطلب أن نطلعه على غرفة العمليات، ولم تكن هناك عمليات، فنحن فى أيام الثغرة، ولكنه غضب عندما لم ير شيئا من ذلك وراح يقول: إنه لم يكن يتوقع شيئا من ذلك، خصوصا أنه جاء إلى مصر طائرا ومخاطرا بحياته لأن اليهود كانوا على مدى مائة كيلومتر من القاهرة، فكيف لا يرى غرفة العمليات وكيف لا نطلعه على أدق أسرار القتال، لأنه ضحى بحياته عندما هبط أرض مصر، ولم يلاحظ أننا جميعا فى مصر وفى قلب القاهرة وأن أولادى يقيمون فى الجيزة، وأننا جميعا يجب أن نشارك شعبنا فى كل شىء، لأن التضحية واجبة على الجميع، والحرب قد سوت بين الجميع.. وما يجرى على أولاد الناس يجرى على أولادى أنا أيضا ومع ذلك شرحت له الموقف. وكانت المعلومات التى لدى القذافى تؤكد له أن الثغرة هذه سوف تتسع وتتسع حتى تبتلع مصر وجيش مصر والنظام المصرى، وأن الثغرة هى بداية النهاية، وكانت الثغرة بداية النهاية لليهود ونهاية البداية لصالح مصر.. أى أن الثغرة هى إنهاء لوضع قوات الاحتلال اليهودية على الضفة الغربية.. هذا ما حدث فعلا! وهذه الثغرة قد أتعست اليهود أنفسهم واعترفوا بأنها مصيدة وقعوا فيها.. وأن الثغرة قد صنعتها أمريكا لهم.. وهى التى صورت لهم من الجو مواقع القوات المصرية، وهى التى أعطتهم المفتاح للدخول بين القوات والانتشار وراءها.
وقد جاءنى الجنرال الفرنسى بوفر - الله يرحمه - رئيس معهد الدراسات الاستراتيجية، فى القناطر الخيرية وقال لى وكان حاضرا رئيس تحرير الأهرام فى ذلك الوقت: هذه الثغرة يجب ألا تهمك مطلقا، إنها ليست إلا معركة تليفزيونية! إنها مقضى عليها بالفشل تماما! وكتب رئيس تحرير الأهرام مقالا يعير فيه مصر وقواتها المسلحة، ويقول: إنه على أيام جمال عبدالناصر احتل اليهود الضفة الشرقية للقناة فقط، أما فى عهدى أنا فقد احتل اليهود الضفة الغربية أيضا، وجعل لها شعارا: الاحتلال من سعسع للأدبية.. وسعسع هذه قريبة من دمشق والأدبية قريبة من السويس.. ومعنى ذلك أن جيشنا لم يلق هزيمة أفدح من هذه الهزيمة.. وأن حرب أكتوبر أسوأ من حرب يونيو .1967
وعاتبت رئيس تحرير الأهرام على هذا الكلام الانهزامى وعلى هذا الموقف اللا أخلاقى من الجيش ومن الشعب.. ثم إنه لم يكن يعرف ما حققته هذه العمليات العسكرية الضخمة المعقدة. وقد اعترف اليهود أنفسهم بفداحة الثغرة، ووصفوها كما قلت بأنها وادى الموت، ومن يقرأ مجلتى التايم والنيوزويك الأمريكيتين فى ذلك الوقت يجد أن الجنود اليهود كانوا يصرخون من هذه المصيدة، وكانوا يرفعون لافتات موجهة إلى المصريين يقولون فيها: دعونا نرجع إلى بلادنا.. لا تضغطوا علينا نحن نريد أن نعود إلى مدارسنا وكلياتنا.
فقد جند اليهود حتى الطلبة فى هذه الحرب فلم يكونوا سعداء بهذه المصيدة، بل كانت معنوياتهم عند الصفر، كل ذلك معروف ومنشور فى كل الدنيا.
وجاءت كتبهم عن الحرب تؤكد أن الثغرة مقلب صنعه اليهود وشربوه حتى آخره، وأن تقدير المصريين للموقف كان سليما عندما أعلنت أنا فى مناسبات كثيرة أننا نحيط باليهود من كل جانب، وأنهم ضحايانا لاشك فى ذلك.
وفى اللقاء التليفزيونى أخيرا مع الرئيس نيكسون اعترف بما أسعدنى حقا، فقد قال: إنه لولا تدخل أمريكا فى حرب أكتوبر لانفتح الطريق من أوله إلى آخره عند تل أبيب أمام القوات المصرية.
والتدخل الأمريكى معروف تماما، فقد نزلوا بدباباتهم فى العريش.. وكانت الدبابات مزودة بالوقود والذخيرة.. وهذا هو التدخل الذى اعترف به نيكسون أخيرا، والذى وقف تقدم قواتنا إلى تل أبيب.
وقد تحدث نيكسون عن تهديد اليهود للجيش الثالث، وأعتقد أن ما قاله نيكسون يحتاج إلى تصحيح وتوضيح، وسوف أفعل ذلك بمجرد أن أقرأ النص الكامل لما قاله الرئيس السابق نيكسون.
وكانت هناك التفافات وتداخلات، وهذا موقف صعب وقد تولت وتوالت الندوات العسكرية فى القاهرة وفى تل أبيب لشرح هذا الذى حدث، ونشرت هذه الندوات فى العالم كله، ولم يعد هناك سر، واعترف اليهود بكل أخطائهم، واعترفنا نحن أيضا، وفى نفس الوقت شهد لنا العالم بالاقتدار والبراعة وحسن الأداء ومنتهى اللياقة العسكرية، وكل ذلك أصبح تاريخا ثابتا معروفا، لا يمكن لأحد أن ينكره أو ينال منه.. انتهى ذلك.
ومن يرجع إلى ما كتبه اليهود أنفسهم عن هذه الحرب وعن الثغرة بالذات لا يجد أنه فى حاجة كبيرة إلى الدفاع عنها، فقد فعل اليهود ذلك، واعترفوا بأنها حركة قصدوا بها رفع معنويات الشعب فى إسرائيل، أو رد اعتبار القادة الإسرائيليين، وقد رأينا بعد الحرب ما الذى فعله الشعب اليهودى فى إسرائيل وفى العالم، ورأينا حرب الجنرالات فى إسرائيل.
إننى لم أكن مبالغا عندما قلت إننا صدرنا الهزيمة وويلات الهزيمة والندم والعار والهوان إلى إسرائيل بعد حرب أكتوبر، ولم أكن شاعرا متغنيا متباهيا بانتصارنا، ولكن يكفى الدارسين للأدب اليهودى بعد حرب أكتوبر وأثناءها أن يقرأوا قصائد الشبان اليهود وبكائياتهم على الذى أصاب اليتامى والأرامل.. إن قصائد هؤلاء الشبان اليهود هى دموع مكثفة وآهات موجعة وصور الأمهات وهن يتعلقن بثوب جولدا مائير، وصور الأمهات والآباء وهم يتمسحون بجدران حائط المبكى.. كل ذلك منشور فى الصحف الإسرائيلية وفى كل صحف العالم.. ولم يكن ذلك كله من فرط السرور والسعادة، وإنما كان بسبب الثمن الفادح الذى دفعته إسرائيل فى حرب أكتوبر وفى وادى الموت بصفة خاصة.. يقابل ذلك سعادتنا بانتصاراتنا واستعادة كرامتنا.. وكل ذلك يمكن أن نعود إليه.. فليست انتصارات أكتوبر بعيدة عنا.. ولن تكون، بل سوف تبقى آثارها النفسية والعسكرية والتاريخية لمئات السنين. وهذه حقيقة ليست من عندى أنا أيضا، وإنما من عند النقاد العسكريين والمحللين الاستراتيجيين والمؤرخين.
وعلى رغم هذه السعادة التى غمرت مصر وشعبنا وأمتنا العربية ذهب محمد حسنين هيكل إلى بيروت، يتحدث عن انتصارات أكتوبر بلغة الفوازير والشماتة والسفالة اللا أخلاقية دون وازع من ضمير فيقول: إن الحرب كانت 15 يوما خمسة أيام لنا وخمسة أيام تائهة وخمسة أيام لهم!
شىء مضحك أو على الأصح شىء يبعث على الخزى والاحتقار، وهو يعلم أننى يوم 16 أكتوبر ألقيت خطبة فى مجلس الشعب أى ونحن فى أوج انتصارنا، هذه الخطبة بعد عشرة أيام بالضبط من الحرب، وهذه الخطبة قد شارك هو وآخرون فى إعدادها!
ولكن هذا الموقف يكشف نوعية هذا الطراز من الناس.. إنها الانهزامية القبيحة. وهى الشماتة العارية.. الشماتة فى مصر وجيش مصر وشعب مصر - مع أن مصر كانت منتصرة وهذه السطور القليلة يمكن رواية تفاصيلها فى كتب عن الأعمال البطولية العظيمة التى قامت بها قواتنا، وقام بها المواطنون البسطاء من أبناء شعبنا، فقد كان أهل السويس قد هجروها، وكذلك أهل الإسماعيلية، ولكن بعض المواطنين عز عليهم أن يتركوا بيوتهم المهدمة.. وقاوموا وضربوا العدو، وحطموا له على مشارف السويس 12 دبابة ولما تسللت دبابتان وعربة لورى إلى داخل السويس حطمها المواطنون، ولاتزال إلى يومنا هذا فى مكانها الذى أحرقت فيه.. كما أنهم قضوا على ثلاثين جنديا.
وعندما زرت الإسماعيلية طلبت تكريم قرية اسمها أبوخطوة والقرية تقع على مشارف الإسماعيلية، وصلت إليها ثلاث دبابات إسرائيلية، ولم يستطع اليهود أن يسحبوا هذه الدبابات فبقيت فى مكانها. ونحن نعرف أن اليهود يسحبون خسائرهم وقتلاهم، يسحبون خسائرهم، حتى لا يعرف أحد كم هو عدد الإصابات التى تكبدوها، ويسحبون قتلاهم لأسباب دينية لأنهم يعتقدون أن الذى لا يدفن فى أرض يهودية يظل يزحف تحت الأرض حتى يصل إلى الأرض اليهودية.
وإن كل يهودى لا يدفن فى أرض يهودية يظل لعنة على أهله وشعبه إلى يوم القيامة.. ثم إن عندهم مشاكل تتعلق بالوراثة والطلاق، وهذه المشاكل لا تحل إلا إذا عرف أن الجندى قد مات وإلا إذا دفن.. ولذلك فقد كانت مشاكل اليهود كثيرة ومعقدة بسبب الجثث المفقودة والتى عثروا عليها فى سيناء وفى قناة السويس.
ولذلك فإن حاخامات اليهود راحوا فى وادى الموت ينبشون الأرض مستعينين بالكلاب البوليسية للعثور على بقايا قتلاهم.. على ساق أو ذراع أو إصبع أو حذاء أو خوذة أو خصلة من شعر لحية أى جندى.. ومع ذلك لم يفلحوا فى سحب كل الدبابات، فلما رأيت ثلاثا منها فى قرية أبوخطوة قررت أن ترفع هذه الدبابات على منصات ثم يقام نصب تذكارى تكتب عليه أسماء شهداء أبوخطوة، وأسماء تشكيلات الصاعقة التى حققت هذا العمل البطولى.
إن كثيرا من الدول الأوروبية فعلت ذلك بعد الحرب العالمية الثانية.. ففى كثير من العواصم نجد آثار دخول قوات وآثار اندحار قوات أخرى، وعلى الشعوب أن تسجل ذلك اعتزازا بما قامت به فى أيام المحن، وأن مواطنا بسيطا يمسك قنبلة يدوية ويلقى بها على عدوه أو حتى يرميه بقطعة حجر، لعمل من أعمال الشجاعة والبطولة.. صحيح إن هذا المواطن يقف وحده فى مواجهة أحدث الأسلحة، ولكنه بإيمانه بوطنه وتفانيه من أجله، هو مواطن بطل.. لأنه يعرى صدره لعدوه، ويعطى حياته لله، وليس هذا بالقليل.. بل إنه شىء كثير جدا فى ساعات المحن والأزمات، ومن هذه الساعات ومن هذه البطولات، قد سجل شعبنا أعظم وأشرف معاركه.
ولم يكن فى استطاعة اليهود أن يتوسعوا فى الثغرة أكثر وأبعد مما فعلوا.. وإلا اصطدموا بكثافة السكان فى مصر.. وفى ذلك قضاء عليهم، ولكن اليهود اعتمدوا على الحرب النفسية، واعتمدوا أيضا على الذين ارتعدوا وراحوا يؤكدون الروح الانهزامية فى مصر.. ودعاة الهزيمة، ونحمد الله أنهم لم يكونوا كثرة تخيف، وإنما هم قلة تستحق منا أن نقف لحظة لنؤكد لهم عظيم احتقارنا. فمصر بخير، وسوف تنتصر بإذن الله.. وإذا كان من أبنائنا قلة، رجفت قلوبهم، فإن الأغلبية الساحقة من شعبنا لهم قلوب من حديد.. وإلا فما انتصرنا على أنفسنا قبل أن ننتصر على عدونا. وهذا تاريخ يجب أن نسجله وأن نقوله وأن نعيده، فذلك شرف لنا وواجب علينا.
وقد حدث قبل ذلك فى يوم 19 أكتوبر مساء أن عاد اللواء سعد الشاذلى رئيس الأركان خائفا مذعورا. وقال لى: إن اليهود فى الثغرة وأنهم وراء الجيش الثانى والثالث وأنه لابد أن نسحب قواتنا من سيناء!
وكان ذلك تصورا مروعا، وقمة الانهزامية.. إذ كيف نسحب قواتنا لأى سبب، وكيف نسحبها بعد هذا الذى تحقق وبهذه الصورة الرائعة؟! كيف نعود إلى الوراء بعد الصدمة التى أذهلت اليهود؟! كيف نعيد الفرح إلى عيون شعبنا، ونطلب إليهم أن يبكوا علينا وعلى ما أصابهم على أيدى قواتهم وقادتهم؟! وكيف نعيد أكتوبر 73 إلى يونيو 67 ؟ لقد رأيت فيما يقوله سعد الشاذلى حالة من الجنون.
ودعوت إلى اجتماع للقيادة عند منتصف الليل، وصارحته بأن الذى يقوله كلام جنونى.. فى هذا اليوم عزلت سعد الشاذلى وعينت اللواء عبدالغنى الجمسى رئيسا للأركان.. ولم أعلن هذا القرار إلا بعد شهرين.. لأنه لم يكن من الضرورى إعلان ذلك خوفا على الروح المعنوية لقواتنا المسلحة.
فعزل القادة وضرب بعضهم ببعض أسلوب إسرائيلى وليس أسلوبا مصريا!
فاللواء عبدالغنى الجمسى كان رئيسا للأركان منذ يوم 19 أكتوبر عند منتصف الليل.. وأنا أرى أنه من الضرورى أن أعود من حين إلى آخر إلى اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 28 أكتوبر 1972 وكان ذلك فى رمضان، ففى هذا الاجتماع رأيت أشياء كثيرة كانت خافية على تماما.
ومن هذا الاجتماع تفجرت قرارات وحدثت تحولات بعضها أرويها مرة أخرى الآن.. وبعضها سوف أعود إليها فيما بعد عندما أتحدث عن أول محاولة للقيام بانقلاب فى عهدى، وكان ذلك شيئا غريبا وغير مألوف.. فقد كان من المألوف على أيام جمال عبدالناصر أن يقع انقلاب أو محاولة كل ستة شهور.
وقد دعوت المجلس الأعلى للانعقاد فى الدور الثانى من بيت المليونير محمد محمود خليل، وبيته مجاور لبيتى الذى أقيم فيه منذ أيام جمال عبدالناصر، وهو بيت ضيق وجوه ليس هادئا، فأصوات الشوارع والمناطق المجاورة يمكن سماعها فى كل وقت بوضوح، وهذا هو الذى يدفعنى إلى أن أتركه وأقيم بعيدا عنه فى القناطر أو حتى فى الإسكندرية، وقد أشار البعض بأن أختار بيت محمد محمود خليل سكنا لى، ولكنى رفضت، لأن الرجل قد أوصى بأن يكون متحفا، وعندما رأيت هذا البيت كان منهارا وفى أسوأ حال، فأمرت بإصلاحه على النحو الذى كان يتمناه صاحبه.
وكان الهدف من هذا الاجتماع كما ذكرت كثيرا، أن أعرف مدى استعدادنا.. أو أين نحن من المعركة.. وهذا المجلس هو أعلى هيئة عسكرية، وفى هذا المجلس يجب أن يتقرر ويتحدد كل شىء، وكل كلمة تقال هى مصير. وكل قرار هو قدر، وكل شىء قيل فى هذا الاجتماع مسجل بالكلمة الواحدة، ومعروف، وفى متناول أى أحد، إذا أراد أن يعرف ماذا جرى فى ذلك اليوم الحاسم، أو الحاسم الأليم.
ومن الضرورى أيضا أن أعود خطوة إلى الوراء وأتصور ماذا حدث مرة أخرى يوم استدعيت إلى استراحة المعمورة، أربعة من الشخصيات المهمة بهذا الترتيب: حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى ومحمد صادق وزير الحربية وسيد مرعى وممدوح سالم نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية والمسئول عن المقاومة الشعبية، وأخطرتهم بأن قرار طرد الخبراء السوفييت الذى أصدرته لا قيمة له إذا وصلنا إلى شهر نوفمبر سنة 1972 ولم نكن جاهزين للمعركة، وعلى ذلك فالمطلوب من كل واحد منهم أن يكون مستعدا تماما.
وقلت لمحمد صادق، كما ذكرت قبل ذلك، أن يجمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة وأن يخطرهم بقرارى بأن تكون القوات المسلحة جاهزة تماما يوم 15 نوفمبر لأداء ما طلبته إليهم من مهام، وهذا ما نسميه فى العلم العسكرى ب الأمر الإنذارى، أى إخطار القوات العسكرية بأن تكون جاهزة فى 15 نوفمبر، لتتلقى أى أمر، ولكن ليس معنى ذلك أن تبدأ القوات القتال.
ثم هناك الأمر الاستراتيجى من رئيس الجمهورية إلى القائد العام، وفى هذا الأمر نعرض كل الاستراتيجية العامة.
وبعد ذلك أمر القتال فى هذا الأمر تتحدد الساعة والدقيقة للمعركة. وهذا هو المتبع عادة فى الحروب، ومن يقرأ التاريخ يجد أن الذين كتبوا عن معركة الحلفاء فى نورمانديا قد تناقشوا طويلا فى هذه الأوامر وترتيبها.
وكان لتشرشل رأى، ودارت حوله اجتهادات كثيرة، وفى مذكرات أيزنهاور رد على ما كتبه تشرشل وأثاره فى مجلس العموم البريطانى، ولكن لا خلاف بين الكتب العسكرية أو القانون العسكرى فى ترتيب وأهمية هذه الأوامر، ففى معركة نورمانديا ضد هتلر، صدر الأمر الاستراتيجى للقائد العام للقوات المتحالفة، وكان أيزنهاور فى ذلك الوقت، ثم بعد ذلك صدر أمر القتال الذى وقعه تشرشل وروزفلت.
وهذا عرف عسكرى معروف، وهذا بالضبط ما سرت أنا عليه، وحريص على تطبيقه. والذين يدرسون حرب 67 وحرب 73 ومن قبلهما حرب 48 سوف يجدون ألوانا وأشكالا من التخبط فى إصدار الأوامر وتضاربها وتطبيقها.. ولم يكن هذا الذى شاهدناه قبل حرب أكتوبر تضاربا، بل ضربا موجعا للقادة.. وكان على مصر أن تدفع الثمن وهذه قصة أخرى سوف أعود إليها فيما بعد إن شاء الله.
وأذكر أننى عندما أعطيت أحمد إسماعيل أمر القتال ووقعته يوم 7 أكتوبر ,1973 تحركت أمام عينى وفى نفسى صورة رائعة ومروعة أيضا.
والله يعلم أننى كنت أكتب كل حرف وأعلم أننى أخط قدرى وقدر مصر، وكان ذلك شيئا هائلا رهيبا، ولا أقول: إننى استرحت عندما أصدرت هذا الأمر، وإنما أحسست أن جبلا ثقيلا كان أمامى، وأننى حملته على كتفى وطلبت من الله أن يساعدنى على أن أنهض واقفا وأن أقتحم به استحكامات العدو، وأعبر الحاجز المائى، وأعبر صحراء العار، والهوان.
وأن هذا المعنى الذى قلته يوم 16 أكتوبر 1973 فى افتتاح الدورة الاستثنائية لمجلس الشعب. قلت، والله على ما أقول شهيد.
عاهدت الله، وعاهدتكم على ألا أتأخر عن لحظة أجدها ملائمة، ولا أتقدم عنها، لا أغامر، ولا أتلكأ، وكانت الحسابات مضنية والمسئولية فادحة، لكننى أدركت كما قلت لكم وللأمة مرارا وتكرارا إن ذلك قدرى وأنا حملته على كتفى، عاهدت الله وعاهدتكم وحاولت مخلصا أن أفى بالوعد ملتمسا عون الله، وطالبا ثقتكم وثقة الأمة، دائما لأحمد الله على كل شىء... يومها، بل لحظتها نظرت إلى أحمد إسماعيل وأنا أقول له: يا إسماعيل.
قال: نعم.
قلت: نحن الآن يوم الثلاثاء 2 أكتوبر وسوف نحارب بمشيئة الله يوم السبت 6 أكتوبر يا ترى يا أحمد أين ستكون يوم الثلاثاء القادم 9 أكتوبر..؟ ولم يرد أحمد إسماعيل.
فقلت له: اسمع يا أحمد.
قال لى: نعم.
قلت له: أشرف لنا ألف مرة أن نموت مع جنودنا وأن ندفن فى أرض سيناء، على أن نعيش فى هذه المهانة التى اسمها: اللاسلم واللاحرب، أشرف لنا أن نغرق فى قناة السويس وهى ماؤنا وأرضنا من أن نعود للحياة على ضفاف النيل مع الذل والعار والتمزق والنظر إلى الماضى على أنه مقبرة لنا.
ففى الماضى دفنا كل آمالنا وكل أحلامنا وكل تاريخنا.. وبذلك نكون حقا شعبا له ماض وليس له مستقبل.. وأن تصدق علينا العبارة اليهودية الآثمة التى تقول: إنهم ولدوا لينتصروا وإننا ولدنا لننهزم.. وإننا شعب يعيش ويموت بالكلام.. وإن معاركنا خطب، وإن حروبنا هلوسة.. وإن جنودنا منهزمون لأنهم انهزموا.. وإنهم عاجزون عن أن يخوضوا حربا أخرى.. يا أحمد ليس عندى ما أقوله لك ولنفسى فلنتوكل على الله، وليبارك خطانا ولينصرنا على أعدائنا إنه سميع مجيب. لقد صدقنا النية وأخلصنا العمل والله فى عون العبد مادام العبد فى عون نفسه.. وقد عاونا أنفسنا، فليعاونا الله، مع السلامة. وخرج أحمد إسماعيل يحمل أخطر قرار، قرارا بالقتال.
ولذلك قام محمد صادق قبل ذلك بإلقاء خطب فى القوات المسلحة يؤكد فيها، كالخبراء السوفييت تماما، أنه لا حرب، ولا فائدة منها، ولا قدرة لمصر عليها، وأنه أفضل لمصر ولقواتها المسلحة أن تظل هكذا فى محلها تسير، أو فى نومها تسير، أى أن تكون فى حالة اللايقظة واللانوم.. وأن تنظر إلى القوات اليهودية على أرضها فى سيناء وتبتلع رمال الأرض وتحترق من داخلها وتموت كمدا على ما أصابها.. وسوف تعتاد على ذلك وينتهى كل شىء - هذه العبارة الأخيرة هى التى قالها موشى ديان.
فهو الذى أعلن أن المصريين لن يحاربوا لأسباب عديدة من بينها:
أولا: أنهم انهزموا أكثر من مرة، فقد اعتادوا على أن ينهزموا كما اعتدنا نحن على أن ننتصر.
وثانيا: لأن المصريين يعتادون على وجودنا فى الضفة الشرقية للقناة، وهذا شأنه أن يخلق لديهم نوعا من الاستسلام الطويل للأمر الواقع.
وهذا ما كان يريده أبواق الانهزامية ودعاتها الخونة فى مصر، أو الخونة لمصر.. وإذا كان وزير الحربية هو الذى يحطم معنويات الجيش المصرى، فمن الذى يرفعها؟ وما هو الفرق بينه وبين وزير الدفاع الإسرائيلى.. إن وزير دفاع العدو يبنى قوته على ضعفنا.. ولكنه لا يبث روح الهزيمة بين قواته، إنه يبثها بين قواتنا إن استطاع.
فى هذا الاجتماع شرحت الموقف السياسى بجميع أبعاده - وهذا مسجل - وشرحت موقفى من الاتحاد السوفيتى، والأسباب التى دعت إلى إخراج الخبراء السوفييت، وأنه إذا كانت هناك فجوة فى التكنولوجيا بيننا وبين إسرائيل، فليس معنى ذلك أن نستكين، ولكن معناه أن نملأ ذلك بتدريبنا وإيماننا بقضيتنا، وأننا يجب أن نتفوق رغم كل الظروف بالأداء القتالى، وأن هذا قدر، وأن الموت خير من الهزيمة أو الاستسلام لها، وأن الحرب لا ريب فيها، وأن القتال مكتوب علينا، وعندما سألت عن مدى استعداد الجميع للقتال، رأيت وجوما، وكان هذا الوجوم الصامت، صارخا فى أذنى، فلم أتصور أى شىء آخر غير أن الاستعداد للحرب مستمر، وأن كل شىء جاهز، ولذلك جاء هذا الوجوم شيئا مفزعا، إن هذا هو الصمت الرهيب حقا.. وجوم؟ ما معنى ذلك؟
وسألت القادة: وسمعت العجب.
وأعجب ما سمعته ما قاله واحد اسمه اللواء نوال سعيد قائد الشئون الإدارية للمعركة، أى الرجل الذى يتكفل بنقل الطعام والذخيرة للجيش كله، أى الرجل الذى فى يده حياة كل الناس. فوجئت به يرفع يده ويطلب الكلمة. قلت له: ماذا تريد أن تقول يا نوال؟! قال: يا أفندم أريد أن أسأل.. سيادتك قلت إن هناك تعليمات أصدرتها لوزير الحربية لتبليغها للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ما هذه التعليمات. فأنا لا أعلم عنها أى شىء.
لا يمكن للعقل أن يتصور ما الذى أصابنى فى تلك اللحظة، لأن الذى أمامى الآن شىء يعجز العقل عن تصوره أو تصويره، فالرجل الذى بيده إطعام الجيش وإدارة محركات طائراته ودباباته لا يعرف أن هناك معركة وأن هناك أمرا بالاستعداد! وتلفت إلى محمد صادق، يقترب منى ويهمس فى أذنى قائلا: والله يا أفندم أنا لم أشأ أن أفشى لهم أسرار الحرب. لأن هذه المسألة يجب أن تكون طى الكتمان.
طى الكتمان؟ سرية؟ لا يعلمها قادة الجيوش.. لا يعلمها الذين سيديرون الحرب.. والذين يتولون إطعام الجيش وأسلحته.. وإذا كان القادة لا يعلمون، فمن الذى يجب أن يعلم.. شىء عجيب جدا!
هنا فقط أدركت أن الأمر أخطر بكثير جدا من هذه البلاهة أو التظاهر بالسذاجة. ولم يعد شيئا مهما أن أستمع لأحد بعد ذلك، ولكن كعادتى، ابتلعت غضبى وكظمت غيظى، وراح عقلى يعمل بسرعة ولما طلب الكلمة واحد اسمه على عبدالخبير، وهو ضابط بالمعاش استدعوه وأعطوه مائة جنيه وسيارة، وكان قبل ذلك مديرا لمكتب المشير عبدالحكيم عامر أيام النكسة وأعطاه محمد صادق وزير الحربية قسم القاهرة أى جميع القوات المسلحة التى فى قلب وحول القاهرة، منتهى الخطورة! ففى استطاعته أن يقوم بأى شىء فى أى وقت إذا طلبوا منه ذلك.. وهو ضابط من منازلهم فقال: إنه ليس لدينا سلاح وغير مستعدين للحرب.
وقال على عبدالخبير هذا أيضا: إن البلد إذا أرادت أن تدخل الحرب فعلى الشعب أن يحرم نفسه من أشياء كثيرة، أى أن الحرمان سوف يضاعف متاعب الشعب، ومعنى ذلك أن الجيش غير قادر عسكريا والشعب غير قادر معنويا، والخلاصة: أنه لا ضرورة ولا مبرر لهذه الحرب! وقلت له بالحرف الواحد وهذا مسجل أيضا: والله إذا نحن ابتدأنا الحرب فإن الشعب المصرى سوف يعطينا اللقمة التى فى فمه.. سوف يعطينا الجلباب الذى يرتديه إذا طلبناه منه، والمهم أن نحرك الموقف. وأن نؤكد للعالم أننا قادرون، والعالم لا يحترم إلا القادرين الأقوياء.. وأنا لن أفرض على الشعب أية إجراءات، يكفى الشعب المصرى ما يعانيه من عناء وعذاب.. ولكن إذا نحن حاربنا، فإن الشعب سوف يضحى من أجلنا ومن أجل انتصارنا بأكثر مما نريد ومما نتصور.
وكان على عبدالخبير وعبدالقادر حسن مساعدا وزير الحربية هما الشخصيتان اللتان دفعهما محمد صادق لإشاعة هذه الانهزامية فى المجلس.. وطلب عبدالقادر حسن الكلمة وقال متسائلا: إن كنا سنطلب معونة السوفييت ففى أية مرحلة من مراحل القتال؟
وأدهشنى ذلك، وغضبت وثرت قائلا: ما هذا الذى تقول؟ إننى طردت الخبراء السوفييت. ولن يعودوا لأى سبب، فكيف أطالب بعودتهم، أو كيف تتصور أنت ذلك.. ثم إنك قد خرجت عن حدودك، لأن طرد السوفييت، أو دعوتهم هذا قرار سياسى، وليس قرارا عسكريا، وأنت هنا تحاول أن تشيع جوا من التعجيز، وأنا لا أسمح بمثل هذا الكلام، وأرفض مثل هذا الجو الكريه.
ثم قلت له: هذه هى المرة الثانية التى أخطأت فيها أمامى.. وكانت المرة الأولى ونحن فى الطائرة قادمون من ليبيا!
فقد حدث وأنا عائد من ليبيا فى صيف 1972 وبعد طرد الخبراء السوفييت أن استدعيت عبدالقادر حسن وكان معى فى الطائرة وقلت له: الآن لم يعد لديكم أى عذر، طردت الخبراء السوفييت، وعليكم الآن أن تتولوا المسئولية وأن ترتفعوا إلى مستواها.
وفوجئت به يقول: والله يا أفندم الناس يتكلمون على ضرورة وجود السوفييت فى أسوان. فقلت له: أسوان؟ ماذا تقول؟ إن هذا قرار سياسى. وقد صدر وانتهى، وشمل كل مصر من أولها إلى آخرها بما فيها أسوان.
وفى هذا الاجتماع قلت لعبدالقادر حسن: هل تذكر ما قلته لك فى الطائرة ونحن قادمون من ليبيا.
قال: نعم.
قلت: لا أسمح لك بأن تتكلم فى موضوعات سياسية، فقرار طرد الخبراء السوفييت قرار سياسى.. ونحن هنا نبحث القرارات العسكرية، هل أنت جاهز للمعركة، أو غير جاهز وليس من المعقول أن أكون قد طردت السوفييت، ثم أستدعيهم مرة أخرى لأى سبب.
لقد اتضحت الصورة أمامى، وكانت صورة بشعة، ولكن أحمد الله أنى عرفت أبعادها، وعرفت بسرعة ما الذى يمكن عمله ورفعت الجلسة.
ونزلت إلى مكتبى فى الدور الأول من بيت محمد محمود خليل، وجاءنى محمد صادق وزير الحربية يقول لى: سيادتك انفعلت وتضايقت جدا، أنا آسف لما حدث. قلت له: ألم تسمع ما جرى، ألم تسمع ما قيل، هذا شىء خطير جدا.
قال: يا أفندم، نحن سوف ننفذ كل ما تريد.. وأنا أعلم تماما أنه اجتمع بهذين الاثنين وملأهما بما قالا وقال لهما بالحرف الواحد: إذا دخلت مصر حربا فسوف تذهب فى ستين داهية!
وبعد ذلك بيومين قررت عزل محمد صادق. لأنه جندى خائف من القتال ولأنه كذب وهو وزير وهى كذبة قاتلة. لو كانت قاتلة له هو لهانت. ولكنها قاتلة لمصر كلها! - ولكن الله سلم! وأرسلت سكرتيرى إلى محمد صادق ليقول له: بدلا من أن تخرج بإقالة مثل شعراوى جمعة، سوف أعلن اليوم أنك استقلت.
وكان ذلك فى الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر.. وإذا عزلت قائد القوات المسلحة، فيجب ألا يكون هناك فراغ. لأنه من الممكن أن يحدث أى شىء، فمن الذى يعطى الأوامر لقواتنا. ولذلك فى اللحظة التى أعزله. يجب أن أعين قائدا فى مكانه فورا. ولذلك فقد استدعيت اللواء سعد الشاذلى رئيس الأركان وقلت له: يا سعد.
قال: نعم.
قلت له: أنا أصدرت قرارا. وسوف أبعث بهذا إلى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة محمد صادق بأنه معزول. وعلى ذلك فمن هذه اللحظة وحتى يتم تعيين وزير آخر للحربية، فأنت تتولى القيادة العامة للقوات المسلحة. حتى لا يكون هناك فراغ. وسوف يأتيك الوزير والقائد العام الجديد وربما كان ذلك فى الساعة الثامنة مساء، وعلى ذلك فمنذ هذه اللحظة، أى الثالثة والنصف فأنت القائد العام بالنيابة. ومسئول أمامى. وإذا احتجت لأى قرار اتصل بى فورا.
وكان لابد من ملء هذا الفراغ بمنتهى السرعة، فالعدو على أرضنا وأمامنا. ومن الممكن أن يقوم بأى شىء.
واليوم أؤكد أن محمد صادق قد ارتكب جريمة لا يمكن اغتفارها. وأتمنى لو ذهب محمد صادق إلى المحكمة. هنا فقط يعرف الناس أبعاد الجرم الحقيقى الذى ارتكبه هذا الرجل، والكارثة التى كان من الممكن أن تقع فى مصر. فقد كان فى استطاعة موشى ديان أن يتقدم إلى الضفة الغربية وأن يفعل بها ما فعله فى جنوب لبنان.. فى الوقت الذى نتحدث عن قوة مصر ووزنها العربى وثقلها العالمى.. كل هذا ظللنا نبنيه من عذابنا وعرقنا ودمنا وحرماننا وهواننا وتضحياتنا. كل ذلك كان من الممكن أن يتبدد فى لحظات بسبب ما ارتكبه هذا الرجل فى حق مصر وشعب مصر.
قلت لسعد الشاذلى: اذهب الآن وانتظر الوزير الجديد..
قال: حاضر يا أفندم..
وقبل أن يتجه خارجا استوقفته وقلت له: يا سعد.
نعم يا أفندم.
أنت بينك وبين أحمد إسماعيل مشكلة.. وأنا أعرفها من وقت طويل..
تمام يا افندم.
من أيام الكونغو؟
تمام يا افندم.
قلت له: الذى سيجىء إليك فى الساعة الثامنة وزيرا للحربية هو أحمد إسماعيل.. قال: حاضر يا أفندم.
قلت: تعليماتى لك أن تعمل رئيسا للأركان تحت قيادة القائد العام أحمد إسماعيل. حاضر يا أفندم.
هل تريد أن تسأل عن شىء يا سعد؟
لا يا أفندم.
مع السلامة يا سعد..
وخرج سعد الشاذلى وقد اطمأنت نفسى إلى أنه لايوجد فراغ ولو لمدة ثانية واحدة.. أما الخلاف بين سعد الشاذلى وأحمد إسماعيل فيرجع إلى أيام الكونغو. يوم أرسلت قوات طوارئ على أيام لومومبا. وكان هناك سعد الشاذلى وأحمد إسماعيل. ودارت بينهما خلافات ومشادات. وطبيعى أن يحدث بين الضباط مثل ذلك. وتركت هذه الخلافات آثارا عميقة عند الاثنين ولم يتح لهما وقت كاف لتصفيتها. أو أنهما رأيا أنها من الشدة والحدة بحيث لا يمكن إزالتها. وهذا من الممكن أن يحدث اليوم وغدا، لأى اثنين من الضباط أو من الناس.
وأذكر أن الرئيس الأمريكى نيكسون عندما كان فى زيارتنا فى مصر، كان على صلة بالولايات المتحدة. فقد كان فى سيارته تليفون يربطه بالبيت الأبيض.. أى فى استطاعته أن يتصل وأن يصدر أى قرار بالحرب.. فالحرب الذرية لاتحتاج إلا لثوان.. والذى يسبق هو الذى يستطيع أن ينتصر، أو يحدث بالطرف الآخر أفدح الخسائر.. وكذلك كانت الطائرة الهليكوبتر التى كان ينتقل بها من استراحة المعمورة إلى قصر رأس التين كان بها اتصال مباشر بواشنطن. لأنه يجب ألا تكون هناك لحظة فراغ.. أى لحظة واحدة لا يمكن فيها الاتصال برئيس الدولة.
واستدعيت أحمد إسماعيل وهو الرجل المؤهل الوحيد لقيادة القوات المسلحة فى غياب عبدالمنعم رياض. وعبدالمنعم رياض من دفعتى أنا. بينما أحمد إسماعيل من الدفعة التى بعدى وهى دفعة جمال عبدالناصر. وأحمد إسماعيل هذا رجل أمين ونزيه وصادق وعسكرى 100٪ وكان الأول على كلية ناصر العسكرية.
وقبل أن أستدعى أحمد إسماعيل ليكون وزيرا للحربية تذكرت ما الذى أصاب هذا الرجل. فأحمد إسماعيل رجل عسكرى فقط. حياته عسكرية، وثقافته عسكرية، ولا شأن له بالسياسة.
فعندما كنا معا فى منقباد سنة 1938 وما بعدها لم نقترب منه سياسيا. واقتربنا من كثيرين معه وحوله.. إلا هو. فقد عرفنا بالتجربة أنه مشغول بالعلم العسكرى فقط. هذا الرجل قد ضربته مراكز القوى ضربا لا هوادة فيه ولا رحمة. فبعد مقتل عبدالمنعم رياض اختاره جمال عبدالناصر رئيسا للأركان لأنه أكفأ من يتولى هذا المنصب. وكان ذلك سببا كافيا لأن تتجمع حوله مراكز القوى حتى طرده جمال عبدالناصر. وأقعده فى البيت بمعاش شهرى ستين جنيها. وكان عليه فى ذلك الوقت أن يجهز بناته للزواج. ولكن الرجل احتمل هذه الإهانة البالغة، ولم يفتح فمه بكلمة أو شكوى، وإنما طوى نفسه على جرحه وألمه.
وقد زارنى فى ذلك الوقت فى بيتى بالهرم وقال لى، وكان مصيبا فى ذلك: أنا أعلم علم اليقين أنهم لم يرتاحوا إلى - فقد كانوا يريدون محمد صادق لا واحدا مثلى، وبالفعل كان ذلك ما يريدونه وتكاثروا عليه وأطاحوا به وأتوا بمحمد صادق، واستدعيت أحمد إسماعيل وكنا فى شهر رمضان وللصيام عندى طعم خاص، ففيه صفاء وشفافية وقرب من الله سبحانه وتعالى والصيام عندنا فى مصر علاقة بين الإنسان وربه، فالصائم يقول أنه صائم وهو بالفعل كذلك، ولكن فى بلاد إسلامية أخرى يتظاهرون بالصوم ويحاسبون بشدة كل من يجاهر بالإفطار، ولكننا فى مصر صادقون فى أداء هذه الفريضة التى بها عظيم الاحترام ولا أزال حريصا على متعة الصوم. فأنا أصوم كل يوم خميس وأرى فى ذلك راحة نفسية وجسمية وصفاء عقليا، ولما استدعيت أحمد إسماعيل وكان ذلك فى أكتوبر سنة 1972 طلبت إليه أن يرافقنى بعض الوقت فى رياضتى اليومية، وهى المشى، وأنا لابد أن أمشى ساعة كل يوم أى ما يعادل أربعة كيلومترات. قلت له: يا إسماعيل.
قال: نعم.
قلت: أريد أن أذكرك بشىء. قال: تفضل.
قلت: هل تذكر بعدما عينتك مديرا للمخابرات فى الساعة الأولى من صباح 13 مايو 1971 أنك قلت لى شيئا ما: غريبا هل تذكره؟
قال: أذكر يا أفندم.
قلت: ألا تذكر أنك جئت وقلت لى شيئا عن محمد صادق.
قال: أذكر يا أفندم.
قلت: أنت قلت لى أن محمد صادق لايستطيع أن يعمل معركة.. هذا بالضبط ما قلته لى فى ذلك اليوم.
قال: تمام يا أفندم.
قلت: يا إسماعيل أريد أن أعرف منك الآن على أى أساس بنيت هذا الحكم. أو ما هى حيثيات مثل هذا الحكم الخطير؟
قال: أريد أن أقول لسيادتك شيئا يا أفندم.. أنت عينتنى مديرا للمخابرات.. وأنا سعيد جدا بهذا المنصب. ووجدت فيه ردا لاعتبارى.. وأحمد الله على ذلك وأنت صديق عزيز علىّ. ولذلك لن أكذب عليك فى حرف واحد، لقد بنيت هذا القرار على أن محمد صادق ليس مؤهلا عسكريا لذلك.. وليست لديه مواصفات قائد المعركة التى تريدها.
قلت: أريد أن أعرف منك أساس هذا الحكم يا إسماعيل.
قال: يا أفندم اطلب من محمد صادق أن يقدم لك خطة. إذا قدمها. فهو إذن قادر على أن ينفذ المعركة التى تريدها. وفى هذه الحالة أكون أسأت التقدير. أو حكمت عليه من خلال غضبى وانفعالى وسخطى على مراكز القوة.. ولكنى أؤكد لك أنه لن يفعل.. لأنه لايستطيع أن يقدم شيئا من ذلك.
ونحن العسكريين يعرف بعضنا البعض.. معرفة تامة. ونعرف أن فلانا هذا عسكرى وهذا لا علاقة له بالعسكرية.. وخصوصا إذا كان هؤلاء العسكريون من دفعة واحدة. والدفعة عندنا كالأسرة، بل أكثر من العائلة. لأننا جميعا نعيش معا حياة كاملة. ولذلك فنحن نعرف كل شىء عن أى شىء يتعلق بنا جميعا.
وكان وضع الخطة وتنفيذها عملا عسكريا علميا شاقا. وقد تحدثت عن ذلك فى مناسبات كثيرة. وما توقعه أحمد إسماعيل قد حدث: فلم يقدم لى محمد صادق أية خطة، إذن فالرجل لايستطيع أن يحارب!
وسوف يكتب التاريخ عن هذه العملية العملاقة التى حققناها فى أكتوبر أن أكثر الناس على رغم ما قيل فى كل لغة ينسون حجم ووزن ومساحة وقيمة العملية الجبارة التى تحققت على قناة السويس وعبرها.. على 170 كيلو مترا من بورسعيد إلى السويس، ودخلنا فيها بفرق ورءوس كبارى كما حدث تماما فى معركة نورماندى الشهيرة فى الحرب العالمية الثانية.. فهم أشعلوا معركة نورماندى بخمسة جيوش ونحن اشتركنا بخمس فرق، وبمنتهى التنسيق بين البر والبحر والجو.. وهذا مالا تقدر عليه إلا الدول العظمى، وليس هذا مبالغة فيما أقول فقد قال المعلقون العسكريون المحايدون ماهو أكثر من ذلك.
وقد شاركت إسرائيل بضباطها الكبار فى الحرب العالمية الثانية.. ولذلك فقد اكتسبوا خبرات واسعة أفادتهم فى معاركهم ضدنا، ومثل هؤلاء الضباط يقال عنهم عادة إنه تم تطعيمهم عسكريا وهذا التطعيم معناه أنهم جربوا وتذوقوا واستفادوا وعادوا بخبراتهم إلى جيوشهم.. ومع ذلك واجهنا إسرائيل بأربعة آلاف مدفع بصورة مكثفة من ضفتنا الغربية تصب نارنا عليهم فى ضفتنا الشرقية للقناة، وكانت عندنا 222 طائرة تدكهم دكا.. وخمس فرق بطولية مفخرة لمصر وللأمة العربية ولتاريخ النضال القومى.
ولولا التنسيق العلمى الدقيق بين كل هذه القوى لما تحقق لنا النصر بل لأصابتنا مدافعنا، ولأسقطنا نحن طائراتنا، وقتلنا جنودنا.. ولكن العلم قد حمى إيماننا بالنصر كما أن إيماننا بالنصر قد سدد علمنا ضد عدونا فالحمد لله على ذلك.. وعلى أن اسمنا أصبح محترما عند الصديق وعند العدو أيضا.
ولو استعرضنا ضباط إسرائيل المطعمين بالقتال لوجدنا إيجال يادين الذى هو رئيس الحركة الشعبية للتغيير وموشى ديان الذى كان وزيرا للدفاع وهو الآن وزير الخارجية.. وكذلك إسحاق رابين الذى عمل فى الجيش الأمريكى وهو أضعفهم جميعا.
ومضيت مع أحمد إسماعيل نتكلم فى موضوعات كثيرة ولكنى كنت أحاول أن أقترب من شىء ما فى نفسى وفى نفسه أيضا، وقد أدرك أحمد اسماعيل ذلك وهو رجل ذكى وفى نفس الوقت شديد الحيطة، وأعتقد أنه أدرك ما أريد، ولكنه تظاهر بأنه لايعرف فسألنى: سيادتك تقصد ماذا يا أفندم. أنا لم أفهم شيئا حتى الآن.
قلت: يا إسماعيل أنت ابتداء من الليلة قائد عام للقوات المسلحة ووزير الحربية لأننى قد أقلت محمد صادق.
فقال لى أحمد إسماعيل: يا أفندم أنا سعيد بعملى ولا أطمع فيما هو أكثر من ذلك.. وهذه المسئولية التى تضعها على كتفى كبيرة وخطيرة، وتدل على مدى ثقتك فى قدراتى.. وباسم الصداقة وتقديرك العظيم وثقتك التامة، فإنى أقبل هذه المهمة الوطنية الجليلة. وكان ذلك قبل مدفع الإفطار بقليل.
ولاحظت أن أحمد إسماعيل أصبح مهموما وأنا أحب الرجل الذى يأخذ الأمور مأخذ الجد، وأكره الرجل الذى يستخف بالأشياء أو ينظر لكل شىء على أنه سهل، ولكن الرجل الذى يقدر المسئولية ويرى أنها عبء، ولأنها عبء يجب أن يتفرغ لها والتفكير فيها ليلا ونهارا، فلا يصرفه عنها أى شىء. هذا هو الطراز من الرجال الذى يعجبنى.. ولما رأيت أحمد إسماعيل مهموماً أدركت أن الرجل قد حمل المسئولية منذ تلك اللحظة، وأشهد أنه رحمه الله كان رجلا جادا وصادقا.
والتفت إلى اللواء أحمد إسماعيل لأقول له: أنت الآن رجل مدنى. فليست عندك بدلة عسكرية اذهب وأحضر بدلة عسكرية وعليها رتبة الفريق أول وتعال فى الساعة الثامنة لتحلف اليمين، وخرج الرجل مذهولا أو مشغولا لدرجة الذهول، وفى الساعة المحددة أقسم اليمين، وذهب إلى مكتبه ووجد سعد الشاذلى فى انتظاره.
قال له سعد الشاذلى: تمام يا أفندم.. أنا رئيس أركان حرب القوات المسلحة، وعندى أوامر من الرئيس بذلك.. وبأنك سوف تكون قائدا عاما للقوات المسلحة ووزيرا للحربية. وتسلم أحمد إسماعيل مهام عمله دون أن تكون هناك لحظة فراغ فى قيادة القوات المسلحة وهذا عرف عسكرى وضرورة حربية حيوية كما ذكرت - والتقى الرجلان على ما بينهما من خلافات شديدة سوف تشتد وتحتد حتى تنقطع.. ولكنى على رغم ذلك قدرت فى سعد الشاذلى إحساسه بالمصلحة الوطنية فجعلته سفيراً فيما بعد!
ومن الضرورى أن أعود قليلا إلى مركز القيادة بعد أن حدثت الثغرة. والثغرة فى التعبير العسكرى: بالضبط هى أن نبحث فى خط دفاعى عن فجوة.. عن ثغرة تدفع إلى داخلها بقوات، ففى سيناء كانت لنا خمس فرق لم تتعرض واحدة للإبادة.. علما بأنه فى الخطة الأساسية كنا نتوقع حتى لو حدثت خسائر فادحة فى فرقتين من الفرق التى هى رءوس كبارى على الضفة الشرقية، فإننا نكون قد كسبنا المعركة بدرجة 90٪.. ولكن الذى حدث هو أن هذه الفرق لم تمس أثناء الثغرة. ودخلت الفرق الخمس وأخذت أماكنها. وفى مركز القيادة رقم 10 الذى سنحوله إلى أحد المعالم السياحية. لأنه أصبح معروفا. ومن الطبيعى أن نكون قد بنينا مراكز أخرى فى أماكن أخرى كان القائد على يمينى وعلى شمالى كان رئيس الأركان سعد الشاذلى فملت إليه قائلا: يا شاذلى.
قال: نعم.
قلت: تذهب فورا الآن إلى القناة وتتولى القيادة هناك لتغطية الثغرة بالشكل الآتى: تقوم بحصار على البحيرات المرة التى تبدأ عند الدفرسوار وتنتهى عند كبريت.. تحاصرها وتترك اليهود ينزلون.. فإذا نزلوا حاصرهم تماما.. لأن كل قوة يهودية تتسرب هى غنيمة لنا. ولكن الشاذلى ارتكب شيئا خطيرا. فقد أضاع 16 ساعة.. هذا الرقم ليس شيئا قليلا، وإضاعة هذه الساعات ليست شيئا هينا.
فالدقيقة لها ثمن والثمن حياة وخطوة إلى الأمام، وقد أضاعها سعد الشاذلى فى أن يبنى له مركز قيادة.. بينما أنا أرسلته إلى الميدان ليوقف تقدم اليهود ويحاصر البحيرات ويحصرهم ويخنقهم ويتصيدهم.
صحيح وأكرر ذلك أن الثغرة كانت مقتلا لليهود، ولكن كان فى الإمكان تفاديها. وأذكر أننى عندما كنت فى عمان لأول مرة بعد المعركة كنت أرى أنوار القدس.. وانتهزت هذه الفرصة وأعلنت فى الإذاعة الأردنية: أننى أتحدى اسرائيل أن تعلن عن خسائرها فى الثغرة.. ولم تذع إسرائيل شيئا من ذلك.
وفيما بعد أعلنوا أن الثغرة كانت وادى الموت لقواتهم.. وحتى بعد رفض اليهود فك الاشتباك الثانى وبعد أن أعلنوا أنهم استرجعوا كل جثث قتلاهم. أعددت لهم مفاجأة وكان عليهم وحدهم أن يفسروها ويبرروها ويدافعوا عنها طلبت إليهم أن يستلموا جثثا مجهولة.. 39 جثة أخرى، وكانت صدمة لليهود لأنهم يعلنون دائماً أنهم يعرفون كل شىء.. وأنهم الدولة الوحيدة فى العالم التى ليس فيها قبر للجندى المجهول لأنهم يعرفون قتلاهم.
وقد أدى ذلك إلى فضيحة فى إسرائيل وثورة على الحكومة، وكان من بين الجثث ضابطان أقيمت لهما جنازة عسكرية ضخمة.
وبعدها بدأ اليهود يراجعون حساباتهم.. ولكنهم لم يعلنوا عن خسائرهم فى هذه الثغرة التى كان محكوما عليهم عسكريا بالفشل والإبادة لو طال بقاؤهم فيها وتمسكهم بها.. ولكنهم لم يفعلوا وهذا من الناحية العسكرية معروف مقدما!
وقد وصف لنا أحد الأسرى من الطيارين اليهود فداحة الخسائر فى هذه الثغرة.
وفى يوم 19 أكتوبر فى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل فوجئت بالقائد العام أحمد إسماعيل يطلبنى لأمر هام، وفهمت منه أن الأمر سياسى وعسكرى معا، وأنه لابد من الحضور فورا. وكان ذلك شيئا خطيرا، وراحت الأفكار تدور فى رأسى وتدور به.. وفى مثل هذه الأزمات التى اعتدت عليها، فإننى أستدعى احتياطى الصبر والهدوء.. فقد رأيت فى حياتى الكثير من المواقف الصعبة والمشاكل المعقدة والأزمات الحادة، وقد أورثنى ذلك أن أكون فى مواجهتها هادئا حتى لايزداد الخطأ فداحة، وحتى لاتهتز الصورة أمامى أو حتى لا أهتز أنا أمام هذه المحن. وفى هذه القيادة التى شيدت تحت الأرض ولا تصيبها القنابل النووية لو سقطت عليها مباشرة وجدت جوا من الوجوم.
وقبل أن أحضر إلى القيادة كان المرحوم أحمد إسماعيل مريضا اشتد عليه مرض السرطان ثم إن الموقف خطير، ولايستطيع أن يبدى فيه رأيا لأن القرار الذى يجب أن يتخذ ليس عسكريا فقط، وإنما هو قرار سياسى، وتقلب الرجل المريض فى فراشه وامتدت يده وارتدت عن التليفون يريد أن يطلبنى وهو فى نفس الوقت يخشى من وقع هذه المكالمة على نفسى.
ولكن حسنى مبارك أصر على ضرورة الاتصال بى ليقف كل إنسان عند حده، فسعد الشاذلى قد جاء من الجبهة يطلب الانسحاب الكامل من سيناء، ولكن حسنى مبارك يرى أننا منتصرون ومحمد على فهمى قائد الصواريخ يرى كذلك.. ولكن سعد الشاذلى هو أول من بشرهم بالهزيمة والتسليم بها.
وخشى أحمد إسماعيل أن يطلبنى، ولكن حسنى مبارك طلبنى ثم أعطى التليفون لأحمد إسماعيل. وعندما دخلت مركز القيادة وجدت هذا الصمت الرهيب!
وكان الأطباء قد أخبرونى أن حالة أحمد إسماعيل لاتؤهله لأن يتحمل هذه الأعباء فآلام السرطان مروعة، ثم إن كمية الكورتيزون التى يتعاطاها لوقف استشراء السرطان تجعله غير قادر على التفكير السليم واتخاذ القرار.
ولو جعلت أحمد إسماعيل نائبا لرئيس الجمهورية تكريما له، وفى نفس الوقت إبعادا له عن مركز القيادة واتخاذ القرار، فسوف يدرك أننى أبعدته .. أو أننى أقصيته عن موقعه.. مع أن الذى قصدته شىء آخر يعرفه الأطباء وصارحونى به ولم يصارحوا به أحمد إسماعيل. ونهض أحمد إسماعيل من فراشه.
وسألته : خير إن شاء الله.
قال: والله يا أفندم لقد عاد رئيس الأركان سعد الشاذلى من الجبهة يقول: إن الرئيس يجب أن يبحث له عن حل سياسى . وأنه من الضرورى أن نسحب الجيشين الثانى والثالث من سيناء لأن اليهود قد دخلوا الثغرة وأنهم سيطوقون هذين الجيشين .. وأن شيئا مروعا من الممكن أن يحدث فى أى وقت.. ولابد من الانسحاب حفاظا على مدينة القاهرة. قلت لأحمد إسماعيل '' هات القادة جميعا.
وجاء القادة كلهم.
وقلت لمدير العمليات : ياجمسى.
قال: نعم.
قلت هات الخريطة واشرح لى الوضع.
وحكى لى الجمسى صورة كاملة..
وقلت لحسنى مبارك: ياحسنى.. اشرح لى الوضع وطلبت من محمد على فهمى قائد الصواريخ أن يقدم لى صورة قواتنا.
لقد كان الوضع كله مطمئنا. والصورة مشرفة ومشرقة . وأدركت سر الوجوم فى مركز القيادة فالانسحاب معناه أن نترك كل ما كسبناه فى لحظة.. إنها لحظة عار.. لحظة طولها مئات السنين من الهوان لمصر وللأمة العربية.
سألت أحمد إسماعيل: ما رأيك ياأحمد؟
قال: ياأفندم الوضع كله أمامك.
قلت لكل القادة : الآن أحب أقول لكم جميعا:
أولا : لا انسحاب لعسكرى أو بندقية أو دبابة من الضفة الشرقية . ويبقى كل شىء وكل الناس فى مواقعهم.
ثانيا: تخطر جميع وحدات القوات المسلحة بأننا سوف نتعامل مع الثغرة على مستوى القيادة العامة، وعليهم أن يستمروا فى خططهم
ثالثا : يعزل سعد الشاذلى رئيس الأركان .. ويعين عبد الغنى الجمسى ابتداء من الساعة الواحدة من صباح 20 أكتوبر رئيسا للأركان.
رابعا : الشاذلى يجب ألا يشعر بهذا القرار ولا القوات المسلحة. وحتى لا يكون له أى رد فعل.. وسوف يعمل الجمسى رئيسا للأركان بدون إعلان.
وقلت لأحمد إسماعيل أن يجنب سعد الشاذلى أية مسئوليات .. ثم قلت لجميع القادة الجالسين أمامى : لعلمكم جميعا، سأحارب فى طنطا وفى القاهرة وفى المنيا وفى أسوان ولن أستسلم. سأحارب فى كل مكان. وحسنى مبارك هو أول من تنبه إلى أن اليهود يريدون أن يكرروا نفس الحيل التى أوقعونا فيها فى 1956 و 1967 .. وهى أنهم يقومون بإرباك القيادة العسكرية. فإذا ارتبكت القيادة نفسيا، فإنهم يستدرجونهم إلى معارك أخرى وبذلك تنسى القيادة خطتها الأساسية وتعمل على الخطة التى وضعها اليهود.
ولذلك فإن حسنى مبارك هو الذى قال لأحمد إسماعيل:
إننا فى وضع ممتاز . يريدون أن يستدرجونا إلى نفس المصيدة التى وقعنا فيها فى حرب 56 وحرب 67 .. ولذلك يجب أن نطلب الرئيس للحضور ليضع كل إنسان عند حده وفى مكانه..
وحسنى مبارك كقائد أعصابه هادئة وقادر على أن يتحرك وينفذ بهدوء شديد.. وعندما كلفته بالدفاع عن مصر من القاهرة إلى أسوان وألا يسمح لليهود بأن يضربونا فقد حقق ذلك تماما على رغم التفوق التكنولوجى لليهود، ولو استطاع اليهود أن يتفوقوا علينا جويا هذه المرة لكان لهم النصر المطلق علينا إلى الأبد!
وفى صباح 20 أكتوبر جاءنى حسنى مبارك ومحمد على فهمى فى قصر الطاهرة. وأكد لى الاثنان: إن الوضع سليم . وإننا فى غاية القوة، وإنه لا خوف علينا. وإن مجيئى للقيادة قد أنهى وضعا رهيبا.
ولم يعلم سعد الشاذلى أنه عزل فى ذلك اليوم، وإنما شعر فقط أن أحدا لا يرجع إليه فى شىء . وذلك لأننى عينت الفريق الجمسى بدلا منه وهو رجل منضبط تماما.
وبعد فك الاشتباك الأول طلبت من أحمد إسماعيل أن يخبر سعد الشاذلى بأنه تقرر تعيينه سفيرا فى وزارة الخارجية. واعتبرها سعد الشاذلى إهانة بالغة أن يستدعيه أحمد إسماعيل زميله وخصمه ويخطره بهذا القرار. فرد عليه بأنه مستقيل.
وحدث قبل ذلك تكريم للقوات المسلحة فى مجلس الشعب.
وبعد هذه الحفلة بيومين كان لابد أن نسافر إلى المؤتمر الإسلامى فى لاهور.؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.