منذ طفولته تعودت عيناه عشق الطبيعة .. أحبها.. أصبح هدفه تهذيبها, لم يختر ألوانه بل هي التي أختارته من البداية وحتى معرضه الأخير لوحة لمحمد الطراوي الذي أقامه بقاعة بورتريه تحت عنوان "أمكنة الروح" هو الفنان المصري محمد الطراوي الذي عبرعن أعماله بأصعب خامة وهي الألوان المائية. محيط رهام محمود br: ما يربو من ستة وعشرين لوحة تمثل لدى الفنان أماكن اختارها بعناية .. قريبة من وجدانه .. سماها أمكنة الروح .. رسمها بصدق واحساس مرهف بتلك الخامة الرقيقة الشفافة التي استخدمها الفنان بمهارة فائقة كأنه يهمس بفرشاه على اللوحة. جاء هذا المعرض "رسالة حب" إلى الفنان العالمي "تيرنر" أحد أساطير الفن في أوروبا, وهو يعد مغامرة إبداعية للإشتباك بين معطيات الفنان للمشهد المصري وأحد معطيات تيرنر, على إعتبار أن هذه الحوارية هي استيعاد لروح تيرنر, للإشتراك في نفس المشهد الذي تعامل معه الفنان. اتسمت اللوحات بالمنظر التخيلي المعادل للواقعي والتكريس للمساحات المجردة, والبعد عن الحالات المباشرة, وانقسم المعرض إلى ثلاثة قاعات, تنوعت اللوحات في ثلاثة مقاسات أبتداء من الحجم الصغير في القاعة الأولى حتى الأعمال الكبيرة الحجم في القاعة الأخيرة, عند تجولنا في المعرض التقت شبكة الأخبار العربية محيط بالفنان محمد الطراوي وكان هذا الحوار...... محيط : المعرض يدور في فلك الكلمة المصرية تحت مسمى "أمكنة الروح" فما المقصود بهذا المسمى؟. طراوي: المقصود أن الأمكنة تتسم بالروحانية والمشاعر الفنية التي تعكس رؤيتي على اعتبار أن الروح ليست كيانا مباشراً أو مرئيا, إنما جزء من المشاعر والاحاسيس الفياضة التي تثير قضية الفن. من أعمال محمد الطراوي محيط: قليل من الفنانين الذين يستخدمون الألوان المائية في أعمالهم نظرا لصعوبتها, واعتمادها على اللمسة الواحدة في الأداء .. لماذا تصر على استخدامها ؟ طراوي: اختياري لها لأن الخامة هي التي تختار الفنان, ولذلك كل خامة لها طقوسها الخاصة واسرارها, ولن يستطيع الفنان أن يفك شفراتها إلا إذا نشأت علاقة موازية بينه وبينها تتسم بالحب, ولن تبوح له بأسرارها إلا من خلال هذا العشق الحميم. محيط: معارضك السابقة اتسمت بالواقعية, وفي هذا المعرض لم يأخذ المنظر الطبيعي شكله المباشر فهل هذا بداية لإتجاة جديد في معارضك القادمة؟ طراوى: اعمالي ليس بها افراط للواقع ولكن بها تجميل له, وهذا المعرض بداية في التجريد, ولابد أن يقدم المعرض القادم لي رؤية جديدة للمنظر الطبيعي. محيط: هل تستوحي أعمالك من أماكن معينة؟ أم أنك تستلهمها من خيالك ومخزونك القديم؟ ولماذا تختار المنظر الطبيعي لتصويره؟ طراوي: أستوحى أعمالي من أماكن معينة, فالفن تجربة إنسانية تتحول قرب ذاتية الفنان, والفنان عموما تشغله فكرة, أنا أحاول أن أصنع الواقع جميلا, فلماذا لا يترجم الفنان ما يدور من أحداث حوله؟, الفن ساهم في حالات متعددة مثل الحروب, وفكرة تجميل الوطن هدف قومي يجب أن يلتف حوله مجموعة من الفنانين, فكيف نجعل المتلقي يرى الوطن بعيون جميلة. محيط: ألوانك رقيقة ومتنوعة, وكل لوحة تعبر عن حالة مختلفة, ومجموعة لونية مختلفة, فما الألوان المفضلة لديك؟ طراوي: كل لوحة لها شخصيتها, لوحة لمحمد الطراوي وحالتها, ومجموعتها اللونية الخاصة بها, لأن كل لوحة تفرض نفسها وكيفية تعاملي معها. أما عن الالوان المفضلة لي فهي اللون النيلي انديجو - الكوبلت بلو - والسليريام بلو - والأصفر نابيلز ييلو. يقول الفنان محمد رزق مدير مركز الجزيرة للفنون: المنظر الطبيعي عند "الطراوي" ليس بتجربة رومانسية, بل هو يتعدى ذلك عندما يزعن للعلاقات المدركة فيها, ولكن هذا الإزعان لا يقلل من رؤيته.. بل يزيد من مشاركته وإدراكه لإمكانات المنظر في الطبيعة. وأضاف: تتغلغل فرشاته الواثقة.. في ثنايا أمكنته المسحورة, في البنية السخرية والنباتية, حيث تتضافر الوديان وكومان الغيطان المزروعة بالأعشاب, بكثبان الرمل وأمواج الصحراء, تلهو على راحتها الينابيع وتمنحها رقة الذوبان.. فيغمر العمل مساحات ضبابية وخابية من ألوان قاتمة من درجات الأزرق "الكوبالتي , والنيلي, والبحري" ودرجات الأزرق الزيتوني والبنيات. الناقد محمد كمال قال : إذا دققنا في أعمال الفنان محمد طراوي كأحد علامات فن الألوان المائية في مصر عبر تاريخه الذي يتجاوز الثمانية عقود, سنجد أنه منذ بداياته في حقبة الثمانينيات وهو مخلص للخامة وتيار المنظر الطبيعي, وفي هذا الإطار تراوح أداؤه بين الخضوع لحتميات الواقع الفيزيقي ومحاوله الفرار منه بالجنوح رويدا نحو اختزال التفاصيل واقتناص ملامح المشهد بأقل لمسات بالفرشاة, محافظا على البعدين الزمني والمكان للصورة. الطراوي حين تدخل معرضه وتقع عيناك على لوحاته سرعان ما تشعر بجمال البيئة المصرية, فهو يبرز جمالها بسحر خاص نتلمسه في ألوانه الشفافة الرقيقة, فالألوان المائية التي يستخدمها يتعامل معها باللمسة الواحدة لأنها لا تقبل التراجع في أي خطوة أو حدوث أي خطأ باللوحة, بخلاف باقي الألوان الأخرى مثل "الزيت والأكليرك وغيرهم" التي تسمح بإصلاح بعض الأخطاء اللونية وإضافة أي لون فوق الآخر, فهذا الاختيار الصعب شهادة للفنان على خبرته الكبيرة وإحساسه الفياض عند أداء لوحاته فهو يبدع أعماله دون إحتمال ورود أي خطأ باللوحة طول عملية الإبداع. ظهر التجريد في لوحاته على إستيحاء, فمازال المشهد محتفظ بصورته الواقعية, دون الافراط في أي تفاصيل, نرى المنازل من بعد بجانب الأشجار المجردة .. بعيدة .. مع مساحات السماء العريضة الهادئة اللون, تتقابل مع مياه البحر الناعمة, والصخور متناثرة على الشواطيء باحجامها المختلفة, ولم يغفل الفنان تصوير النباتات في لوحاته حيث نراها بسيطة مجردة في بعض اللوحات. تترامى ظلال المراكب على اسطح المياه لتصنع شفافية متناغمة مع ماء النيل, وقد صور الفنان مشاهدة في أوقات مختلفة من النهار, من أعمال الطراوي ففي لوحة يظهر المنظر في وقت العصاري بألوانه الصفراء تشعرنا بسخونة الجو الحار, وفي أخرى نرى ضوء الصباح الساطع وكأننا نسمع زقزقة العصافير, ونسمع آذان الظهر في لوحة أخرى, بينما يعترم الجو الضبابي إحدى لوحات الطراوي لينقلنا إلى عالم من الخيال داخل أمكنته المسحورة لنذوب بها ونتفاعل معها. وفي النهاية فقد نجح الفنان محمد الطراوي في تجميل وجه الوطن, وجعلنا بالفعل نرى الوطن بعيون جميلة بسيطة بعيدة عن التفاصيل المتكلفة.