لا أعتقد أن أحدا في عالم الفنون البصرية يختلف علي أن للخامة دورا محوريا في صياغة الصورة النهائية داخل مثلث الخلق الشهير, والذي تتكون أضلاعه من الفكرة والمادة والفعل الابداعي. وفي هذا السياق يتحدد المسار الشكلي والضمني أحيانا لأبعاد العمل الفني بتأثير من المواد الطبيعية والصناعية المختلفة, وهنا نستطيع أن نعتبر الألوان المائية من أكثر الخامات خصوصية وتأثيرا في النسيج التشكيلي منذ عصر ما قبل الأسرات المصرية القديمة, مرورا بالفنين القبطي والاسلامي بانتماءاتهما الجغرافية المتباينة, حتي تطورها في العصر الحديث, بداية من القرن الخامس عشر علي يد بعض أعلامها, مثل الألماني دورر, والانجليزيين تيرنر, ورسكن, والفرنسي فراجونار, والايطاليين موريللي, وميكيتي وغيرهم, أما في مصر فقد انطلق تاريخ هذه الخامة عند مطالع القرن العشرين عن طريق التركي هدايت, ثم جماعة الدعاية الفنية التي أسسها حبيب جورجي عام1928, ليلتف حولها مجموعة من تلاميذه, جانحين صوب استخدام الألوان المائية, مثل نجيب أسعد, محمد الغرابلي, لبيب أيوب, يوسف العفيفي, علاوة علي ألمعهم فيما بعد شفيق رزق(1905 1989), والذي يعد من بواكير حبات مسبحة الموهوبين المخلصين للخامة, مثل كوكب العسال وبخيت فراج ومحمد طراوي وشاكر المعداوي وعدلي رزق الله(1939 2010) الذي رحل عن عالمنا مؤخرا عن عمر يناهز واحد وسبعين عاما, قضي معظمها وفيا لخامة الألوان المائية فقط دون غيرها, بما جعله أحد أساطينها علي الصعيدين المحلي والعالمي. وقد ظل طوال حياته يسعي عبر هذا الوسيط المائي لتأكيد منهجه التصويري المألوف الذي يتكيء فيه علي مفرداته المرئية الطبيعية لبناء تكوين يتمحور حول العلاقات الانسانية الكونية المحسوسة, من نخيل وبيوت وجبال وعصافير وفراشات وزهور وبشر, وكلها تصب في وعاء للنماء والتوالد, ربما استحضره عدلي من نشأته الأولي في أبنوب الحمام إحدي بلدات محافظة أسيوط, والتي أثرت في تركيبة الذاكرة البصرية والوجدانية لديه, بمشاركة فاعلة من أب وأم ريفيين يدركان مدي قيمة الأرض كمصدر للرزق الرباني, لنجد رزق الله يلملم تلك التوليفة المخزونة في جرابه الشعوري, دافعا إياها إلي آفاق مغايرة تتجاوز حدود المشهد البصري المحدود نحو رؤي رحبة يغلفها نسيم النفس, حتي إن مائياته كانت تبدو وكأنها تشدو بتراتيل الخصوبة عبر ارتواء الروح. وأعتقد هنا أن الفنان كان نقطة تحول في تاريخ الفكرين الشكلي والموضوعي للخامة, بعد وقوع معظم فنانيها في أسر المنظر الطبيعي باستثناء شاكر المعداوي, فإذا دققنا في العروض الأخيرة لعدلي, سنلحظ أنها تصلح كعينة نقدية تطبيقية نسلط الضوء من خلالها علي الملمح العام لشخصية الفنان, لا سيما في العقدين الأخيرين من حياته, كحصاد منطقي لمشوار إبداعي تراكمي كبير, فنجده مع نهاية الثمانينيات ومطالع التسعينيات مولعا بالعنصر البشري كرمز للإخصاب وديمومة الحياة علي المستويين الجسدي والروحي, حيث يدفع به غالبا إلي بؤرة التعبير في العمل, مجردا من التفاصيل مغمورا بفيض من النور المنبعث من الداخل. وتزامنا مع هذا الحرث النوراني يتسلل عدلي بمفرداته من زهور يانعة ونبات غض ونخيل سامق بين ثنايا المشهد المنير, وكأنه يستنطق بداخله تراتيل الخصوبة عبر ارتواء الروح, ليتحول في لحظات صوفية مدهشة إلي أجساد تطير وأشلاء تتخلق ونساء بأجنحة الفراشات, وهو ما يعني في أعمال الفنان ذلك الصراط الواصل بين غواية الجسد ونداء الأرض.. بين بهجة الميلاد وفرحة الإثمار.. وعند هذه النقطة الحدية علي منحني غزل الصورة تختزل المسافة إلي الصفر بين الوليد والبرعم, بما يملأ الحيز الإيهامي للملتقي بمزيج حيوي من التلاقح والازهار.. من التزاوج والانجاب, حتي يصل رزق الله مع نهاية التسعينيات الي الجمع بين آليتي التصوير والنحت في مسطح واحد, حيث يظل يحاصر مساحاته البيضاء بلمسات لونية رهيفة, ليحيلها إلي كتل جسدية جرانيتية مضيئة تعج بالرغبة في الإنبات والولادة, وكأنها تبوح رويدا بتراتيل الخصوبة عبر ارتواء الروح, إلي أن يدخل عدلي الألفية الثالثة متوحدا مع تلك الكتل الآدمية المتوهجة, فيبدو وكأنه ينشطر روحيا علي الورق إلي تكوينات بللورية متنوعة الحجوم والألوان, وإن كان الأبيض البهي يسودها بسيطرة علي جوهري التعبير والتلقي في آن, عند قمة التحقق والتطهر الذاتي للفنان, والذي يتم تحريضه من خلالهما نفسيا ووجدانيا, وتقنيا للدفع بعصافيره وفراشاته كي تعبر أسوار المشهد, سابحة في فضائه من الجزئي إلي الكلي والعكس, فتظهر داخل كل وحدة من شطائره كومضة روحية تفض بكارتها النورانية كتسابيح في جوف أحد قناديل العرش, وقد يكون هذا السيل من البراءة ناتجا من ممارسة الفنان لرسوم وحكايات الأطفال, وهنا قد نستطيع استجلاء تفسير لتلك المساحات اللونية المعتمة التي غالبا ما يحيط بها عدلي رزق الله تكويناته كقفطان راهب مبدع ظل صاحبه منذ بكارة طفولته يشيد تحته جنته الخاصة, حتي أدرك ملامحها بحكمة الشيوخ عندما اقترب وقت الرحيل, فاندفع يبلل فرشاته في أنهارها ليطبع وشمه علي نمارقه المصفوفة, ويؤنس أجساده المنيرة بتراتيل الخصوبة بعد ما ارتوت الروح.