عندما نتحدث عن الألوان المائية فهناك قلائل يكادون يعدون علي أصابع اليد يمكننا ذكرهم، الفنان محمد الطراوي واحد من هؤلاء الذين عايشوا هذه الخامة وسبروا أغوارها، في معرضه الأخير تطل علينا إحدي وثلاثون لوحة مائية، هي نتاج ما يقدمه لنا الفنان في رؤية مغايرة لما عودنا عليه، رؤية مختلفة ومتميزة، يقدم فيها مجموعة من الحلول لشخوص لم نرها من قبل في أعمال الطراوي، فضلا عن سبع لوحات زيتية هي مفاجأة المعرض، فماذا يقول الفنان محمد الطراوي عن هذه التجربة؟ الفكرة تبدأ من مرحلة التوغل في التجريد، الذي يعطي رحابة للتعبير عن الفكرة المطروحة بأداء مختزل من حيث الخط واللون، ففي مجموعة البورتريهات المعروضة تري انفلاتًا من أثر الواقع لنسوة من دهشور والواحات والعريش، تكاد تومئ ولا تفصح، تمثل وجوههن حالة من حالات الغموض كنوع من التحرر والانفلات من الواقعية المفرطة. الانشغال بالمسطح مسألة حل وشغل الفراغ أهم عندي من فكرة الموضوع التي تبدو بالنسبة لي ثانوية، أحاول بقدر الإمكان استرجاع الذاكرة أكثر من الاشتباك مع الواقع، المادة الأساسية التي أعمل عليها -سواء في المكان أو البشر- هي الجينات الأصلية التي تقوم العواطف بترجمتها مرة أخري، فالمسألة هنا أني أتعامل مع واقع ولا واقع "منطقة الحلم"، فتشعر للوهلة الأولي بأنك تتعرف علي النص، ولكنه نص خاص بالفنان، هذا بالإضافة إلي التوقيت الزمني للعمل وهو يكاد يكون معدومًا، ففكرة الزمن عندي فكرة آنية وليس الزمن المتعارف عليه. المشاعر التي تسجل المخزون البصري وذاكرة الفنان هي إحدي دعائم العمل الفني في التجربة المطروحة، بالنسبة للشخوص الإنسانية Figures أعتبر أني للمرة الأولي أعرض بورتريهات تشخيصية، لأن التجريد هو اختزال لكل ما هو مشخص، أنا هنا قمت بمعادلة ما بين ما هو مشخص وبين فكرة الاختزال أو التجريد، مزاوجة بين التجريد والمشخص بضربات سريعة عنيفة مقتضبة، فعندما تقرب المسافة بينك وبين العمل كرؤية ستجد صورة غير واضحة، مجرد حضور طاغ لهذه اللمسات، ولكن عندما تبعد عن اللوحة مسافة ما سوف تجد ضالتك البصرية في مشهد حقيقي. التكنيك هنا أقرب إلي التأثيرية، أما طغيان اللون الأزرق فهو مسألة ذاتية جدا خاصة بالفنان ويعبر عن سيطرة كاملة للاوعي علي الوعي، هذه السيطرة هي التفسير الوحيد لطغيان الأزرق، فرغم أنني لست من مواليد الإسكندرية، لكن علاقتي بالبحر علاقة وثيقة، فكان البحر ملازما لي أعيشه آناء الليل وأطراف النهار، فالبحر يمثل لي قيمة جمالية وقيمة معنوية، وأعتقد أن سيولة البحر تفصل بيني وبين الواقع، فهو بمثابة إسفنجة تمتص كل الاختناقات التي نعيشها في المدينة والتلوث البصري والسمعي، ودائما ما تكون سيولة البحر حائل بيني وبين كل ما هو منغص حياتيا، فبديهي أن يكون هذا اللون مترسخًا في اللاوعي عندي لذلك هو له هذا الحضور. أما مجموعة النسوة الحاضرة في اللوحات فهي نتاج مخزون بصري من مجموعة رحلات إلي العريش ودهشور والواحات، الوجه الإنساني كان دائما له دور في الحركة العالمية؛ لأنه مليء بالمشاعر والعواطف والانفعالات، وحتي مسطحات الوجه الإنساني غنية، والمكان ممكن أن يكون قويا وله حضور لكن أن تتعامل مع البشر فهذا يمثل القيمة الأعلي، المكان أو المشهد مدرك يمثل جغرافيا محدودة لكن الإنسان مطلق. أما عن تجربتي في الزيت فهي ربما أكون قد استنفدت أقصي طاقة في الألوان المائية، ربما شعوري بأن أطرق باب تجربة جديدة بالإضافة للتغلب علي مارد القولبة داخلي كفنان، ومن الوهلة الأولي يشعر المتلقي بأن زيتي ينطق بالماء، فأنا أتعامل مع خامة الزيت بنفس اللمسة الواحدة في اللوحات المائية رغم اختلاف الخامة، لكن إحساسي بكثافة اللون في الزيت مختلف لأني لم أعتد عليها لذلك أستخدم تكنيك الألوان الزيت كما لو كانت مائية والعكس أيضا صحيح، في الألوان الزيتية تستطيع قياس سخونة وبرودة الألوان من الباليتة لكن الأهم عندما ترسم هو كيفية توظيف اللون سواء كان ساخنًا أو باردًا، فمن الممكن أن تُفقد اللون هويته علي اللوحة وهذا ما حدث في معظم اللوحات. سخونة الألوان عندي تلعب دورا غير مألوف، وفق السياق اللوني المطروح، فالأصفر وهو لون ساخن يمكن أن يكون باردا من منظور معين، المجموعة اللونية المستخدمة في الألوان المائية عبارة عن وحش كاسر إذا لم تمتلك القدرة والمهارة لترويضه سيلتهمك. وتتميز الألوان المائية بأنها ألوان شفافة، وعندما تلمس المسطح إذا لم تكن تمتلك الخبرة والقدرة علي السيطرة عليها لن تصل إلي نتيجة مرضية، ولذلك لا تجد فنانين كثيرين يستخدمونها لصعوبتها، وهي تحتاج إلي دأب شديد جدا وسرعة، لأن الحسابات الذهنية التي يكون خاضعا لها الفنان، ربما تتغير فجأة وتتكون مشكلة علي سطح الورق، فتخلق لك سيناريو آخر إلي أن ينتهي العمل، فالصدفة هنا تلعب دورا أساسيا، وإن لم يكن الفنان يقظا ويمتلك الحلول السريعة لتوظيف هذه الصدفة لصالح العمل، فلا أعتقد أن الفنان سيكون راضيا عن عمله، والأهم في هذه الألوان أن الدرجة اللونية الموجودة علي "الباليتة" مخالفة بنسبة ما لما نراه علي الورق علي عكس كل الخامات الدرجات اللونية لا تتغير، لكن هناك مسافة يجب أن يراعيها فنان الألوان المائية ليحصل علي اللون المقصود.