كلنا نعلم حقيقة رقمية نتجاهلها وهي أن اليوم مكون من 1440 دقيقة هي حاصل ضرب ساعات اليوم في عدد الدقائق بكل ساعة منها، ليكون المجموع هو هذا الرقم. ولكن ما يخفيه هذا الرقم هو وجود عدد من لحظات التقاء السماء بالأرض علي مدار الكرة الأرضية كلها قد يفوق هذا الرقم بكثير، ولحظة اللقاء تلك نطلق عليها نحن كلمة "الأفق" . وأنت إن دققت النظر في الأفق سواء كنت علي البحر أو في الريف، فلابد أنك تري كيف تعانق السماء الأرض لتهديها شمس الغروب، أو تري كيف تري الارض وهي تستقبل الشمس من السماء لحظة الفجر وإن أردت أن ترحل مع الخيال أكثر فأكثر ،فأنت تري في كل لحظة من اللحظات "افقا" ما. أما ان كنت مثلي تنظر إلي الخارج قليلا، وتنظر في الأعماق كثيرا فهناك مالا يحصي من الأفق لأن "الأفق" علي الرغم من أنه وهم إلا أنه صانع معجزات، فعلي معراج الأفق تولد أحلامنا، ونعالج بالنظر إليه بعضا من أحزاننا. ولكن هل تلتفت إلي ألوان الأفق ؟ الفنان وحده هو القادر علي تأمل ألوان الأفق الظاهرة ليكسوها بألوان آفاق أعماقه ليعطينا لوحات غير عادية. وهكذا فعل القديم الذي يبدو أنه قرر أن يهدينا رؤية ما بعد النهاية، وأعني به الراحل الكبير حبيب جورجي. وها هو قد جاء لنا من يري ما قبل النهاية وما بعدها، وهو الفنان محمد طراوي. ولما كنت أنا كاتب هذه السطور متتبعا للنشأة الفنية لمحمد طراوي. فقد حلمت في بدايته أننا نملك فنانا تشكيليا يمكن ان يعوض الصحافة المصرية والعربية والعالمية عن فناني "الوجوه" الذين نفتقدهم، حيث صار رسامو البورتريه في أيامنا مجرد "مزورين" يعتمدون علي الكاميرا، لينقلوا منها فيفقدون الروح المبدعة التي لا تمنع عطاءها إلا للمشتبك مع الوجه والروح التي أمامه. ولعل من يرقب أغلفة مجلة صباح الخير، وهي المجلة التي خدم غلافها فن البورتريه يعلم قدر الخسارة الفادحة عندما فقدنا المصور الرائع جمال كامل، فهو واحد من قلة أتقنت نقل الروح من الوجه مباشرة ولم يتنازل عن ذلك أبدا. وجاء كثيرون من بعده، لكنهم لم يصلوا إلي درجة "الصلاة" التي نرغبها، ولكن طراوي كان واحدا ممن يملكون هذا الوعد . ولكن شغفه بالطليعة التي يشربها بعيون ليعيد خلقها من جديد بألوانه جعله مسلوب الارادة وخالقا في آن واحد لما يراه من موسيقي في كل "افق" يراه ولن أنسي أبدا كيف توقفت منذ أربع أو خمس سنوات أمام لوحة لقارب تتقاذفه أمواج بحر هائج وغزل محمد طراوي من رحلة التقاذف هذه درجة من الموسيقي اللونية الهائلة، وها هو في معرضه الحالي بقاعة "ابداع" بالمهندسين يقوم بتأليف موسيقي عشرات الافاق منها ما يرتقي إلي درجة عالية من التجريد علي الرغم من أنه يحمل كل الواقع، ومنها ما يحمل كل الواقع ليرتفع به إلي افاق لونية تخص طراوي وحده. ولن ننسي بطبيعة الحال، رحلة الابداع الهائلة في تنسيق هذا المعرض والتي قام بها فنان يعرف كيف يجعل اللوحة تقودك إلي الأخري ثم يصحبك من مجال إلي مجال آخر، وهو الفنان محمد طلعت . أحسست أني دخلت جلسة علاج نفسي عميقة برؤية هذا المعرض الخلاب، فالمعرض المتميز هو طبيب نفسي مجاني يعيد ترتيب الروح بأناقة شديدة داخل الجسد