شاهد.. صلوات عيد القيامة ببورسعيد في افتتاح كنيسة السيدة العذراء    تاجر يستعرض مأكولات الفسيخ في شم النسيم.. وأحمد موسى يعلق: شامم الريحة من على بعد    حزب الله يعلن استهداف مستوطنة مرجليوت بالأسلحة الصاروخية    وكالات الاستخبارات الأوروبية: روسيا تخطط لأعمال تخريبية في أنحاء القارة    الفيضان الأكثر دمارا بالبرازيل .. شاهد    "هزم نفسه بنفسه".. فاروق جعفر يكشف سبب خسارة الزمالك أمام سموحة    تحرير 119 مخالفة مخابز وضبط كميات من الرنجة والفسيخ منتهية الصلاحية بالقليوبية    إصابة 3 أشخاص في تصادم 4 سيارات أعلى محور 30 يونيو    يسعى لجذب الانتباه.. محمد فاروق: كريم فهمي ممثل باهت واقف بمنتصف السلم    ما هي قصة شم النسيم؟.. 7 أسرار عن الاحتفال بهذا اليوم    أول تعليق من محمد عبده بعد إصابته بمرض السرطان    مركز السموم بالقصر العيني: الفسيخ أسماك مسممة ولا ننصح بتناوله.. فيديو    الكشف الطبي على 482 حالة في أول أيام القافلة المجانية بالوادي الجديد    أعراضه تصل للوفاة.. الصحة تحذر المواطنين من الأسماك المملحة خاصة الفسيخ| شاهد    وزير السياحة والآثار يُشارك في المؤتمر الحادي والعشرين للشرق الأوسط بلندن    نائب سيناء: مدينة السيسي «ستكون صاعدة وواعدة» وستشهد مشاريع ضخمة    فيديو.. محمد عبده يبكي خلال حديثه عن إصابته بالسرطان: هذا من محبة الله    «جالانت» يحث «نتنياهو» بقبول صفقة التبادل ويصفها ب«الجيدة» (تفاصيل)    نجل الطبلاوي: والدي كان مدرسة فريدة في تلاوة القرآن الكريم    نتنياهو:‫ الحرب في غزة ستنتهي بانتصار واضح.. ومصممون على إعادة المحتجزين    الوزير الفضلي يتفقّد مشاريع منظومة "البيئة" في الشرقية ويلتقي عددًا من المواطنين بالمنطقة    «ظلم سموحة».. أحمد الشناوي يقيّم حكم مباراة الزمالك اليوم (خاص)    .تنسيق الأدوار القذرة .. قوات عباس تقتل المقاوم المطارد أحمد أبو الفول والصهاينة يقتحمون طولكرم وييغتالون 4 مقاومين    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب    الإسكان: إصدار 4 آلاف قرار وزاري لتخصيص قطع أراضي في المدن الجديدة    لوائح صارمة.. عقوبة الغش لطلاب الجامعات    ظهر على سطح المياه.. انتشال جثمان غريق قرية جاردن بسيدي كرير بعد يومين من البحث    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    روسيا تسيطر على قرية جديدة في شرق أوكرانيا    لجميع المواد.. أسئلة امتحانات الثانوية العامة 2024    الهلال يطلب التتويج بالدوري السعودي في ملعب المملكة أرينا    طريقة عمل الميني بيتزا في المنزل بعجينة هشة وطرية    نقل مصابين اثنين من ضحايا حريق سوهاج إلى المستشفى الجامعي ببني سويف    تامر حبيب يعلن عن تعاون جديد مع منة شلبي    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    يوسف زيدان يرد على اتهامه بالتقليل من قيمة عميد الأدب العربي    انطلاق مباراة ليفربول وتوتنهام.. محمد صلاح يقود الريدز    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    لاعب فاركو يجري جراحة الرباط الصليبي    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    موعد استطلاع هلال ذي القعدة و إجازة عيد الأضحى 2024    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى رحلته من الشك الى الايمان .. د. مصطفى محمود يكتب : الروح
نشر في صباح الخير يوم 09 - 11 - 2010

خطر لي ذات مساء أن أقوم ببحث في سراديب ذاكرتي.. فأرصد في ورقة كل ما أحفظه من أرقام.. رقم الباسبور ورقم العربة ورقم الشقة ورقم البطاقة العائلية وتليفونات من أعرف من الأصدقاء والزملاء وتليفونات المصالح والجرائد وأرقام جدول الضرب التي أحفظها غيبا وعمليات الجمع والطرح والقسمة الأولية التي أعملها بالبداهة وتواريخ ميلادي وميلاد أولادي وثوابت الرياضة والطبيعة مثل النسبة التقريبية وسرعة الضوء وسرعة الصوت ومجموع زوايا المثلث ودرجة غليان الماء وما تعلمته في كلية الطب عن نسبة سكر الدم وعدد الكريات الحمراء وعدد الكريات البيضاء وحجم الدم وسرعة النبض وسرعة التنفس وجرعات العقاقير.. وفي لحظات تجمعت تحت يدي عدة صفحات من مئات الأرقام.. تداعت في ذهني ولمعت كالبرق وكأني حاسب إليكتروني.
وكان المشهد مذهلا.
كيف أحفظ هذا الكم الهائل من الأعداد.. كل عدد يبلغ طوله ستة وسبعة أرقام؟
وأين تختفي هذه الأرقام في تلافيف المخ؟
وكيف يتم استدعاؤها فتلمع في الوعي كالبرق الخاطف؟
وبأي أسلوب تصطف هذه الأرقام في أعداد متمايزة.. كل عدد له مذكرة تفسيرية ملحقة به وتشرح دلالته ومعناه؟ وكيف تتراكم المئات والمئات من هذه الأرقام في ذاكرتنا تختلط ولايطمس بعضها بعضا؟
وغير الأرقام.. هناك الأسماء.. والاصطلاحات والكلمات.. والأشكال.. والوجوه.. تزدحم بها رأسنا.. وهناك معالم الطبيعة التي طفنا بها والأماكن التي زرناها.. وهناك الروائح.. ومع كل رائحة صورة لامرأة عرفناها أو مشهد نذكره ولواعج وأشواق وقصص وسيناريو من آلاف اللقطات.. وهناك الطعوم.. والنكهات يأتي الطعم في الفم فيسيل اللعاب شوقا أو يتحرك الغثيان اشمئزازا.. ومع كل طعم.. يجري شريط يحكي عن وليمة دسمة ذات يوم أو جرعة دواء مريرة ومرض طويل ممض وأوجاع أليمة.. حتي لمسة النسيم الحريرية ورائحة أصداف الشاطئ تحفظها لنا الذاكرة فتهب علينا لفحات الهواء الرطيب مع ذكراها وكأننا نعيشها من جديد.
حتي الأصوات والهمسات والوشوشات والصخب والصراخ والضجيج والعويل والنشيج.
وفاصل من موسيقي..
ومقطع من أغنية..
ولطمة علي وجه..
وقرقعة عصا علي الظهر..
وحشرجة ألم..
كل هذا تحفظه الذاكرة وتسجله في دقة شديدة وأمانة ومعه بطاقة بالتاريخ والمناسبة وأسماء الأشخاص وظروف الواقعة ومحضر بالأقوال.. معجزة.. اسمها الذاكرة.
إن معنا رقيبا حقيقيا يكتب بالورقة والقلم كل دبة نمل في قلوبنا.
وما نتخيل أحيانا أننا نسيناه نكتشف أننا لم ننسه وأنه موجود يظهر لنا فجأة في لحظة استرخاء أو حلم أو بعد كأس أو في عيادة طبيب نفسي وأحيانا، يظهر في زلة لسان أو خطأ إملائي.
لا شيء ينسي أبدا.. ولا شيء يضيع.. والماضي مكتوب بالفعل لحظة بلحظة ودقة قلب بدقة قلب. والسؤال الكبير بل اللغز المحير هو.. أين توجد هذه الصور.. أين هذا الأرشيف السري؟
وهو سؤال حاول أن يجيب عنه أكثر من عالم وأكثر من فيلسوف.
الفلاسفة الماديون قالوا إن الذاكرة في المخ.. وإنها ليست أكثر من تغيرات كيميائية كهربائية تحدث لمادة المخ نتيجة الفعل العصبي للحوادث تماما كما يحدث لشريط ريكوردر عند التسجيل وأن هذه اللفائف المسجلة تحفظ بالمخ وإنها تدور تلقائيا لحظة محاولة التذكر فتعيد ما كان في أمانة ودقة.
الذاكرة مجرد نقش وحفر علي مادة الخلايا.
ومصيرها أن تبلي وتتآكل كما تبلي النقوش وتتآكل وينتهي شأنها حينما ينتهي الإنسان الموت وتتآكل خلاياه.
رأي مريح وسهل ولكنه أوقع أصحابه في مطب لم يستطيعوا الخروج منه.
فإذا كانت الذاكرة هي مجرد طارئ مادي يطرأ علي مادة الخلايا فينبغي أن تتلف الذاكرة لأي تلف مادي مناظر في مادة الخلايا المخية.. وينبغي أن يكون هناك تواز بين الحادثين.. كل نقص في ذاكرة معينة لابد أن يقابله تلف في الخلايا المختصة المقابلة.. وهو أمر لا يشاهد في إصابات المخ وأمراضه.. بل ما يشاهد هو العكس.
يصاب مركز الكلمات فلا تصاب ذاكرة الكلمات بأي تلف وإنما الذي يحدث هو عاهة في النطق.. في الأداء الحركي للعضلات التي تنطق الكلمات.
إن الموتور هو الذي يتلف بتلف الخلايا.. أما الذاكرة.. أما صورة الكلمات في الذهن فتظل سليمة.
وهذا دليل علي أن وظيفة المخ ليست الذاكرة ولا التذكر.
وإنما المخ هو مجرد سنترال يعطي التوصيلة.
هو مجرد أداة تعبر به الكلمة عن نفسها في وسط مادي فتصبح صوتاً مسموعاً.. كما يفعل الراديو حينما يحول الموجة اللاسلكية إلي نبض كهربائي مسموع.. فإذا أصيب الراديو بعطل فلا يكون معني هذا العطل أن تتعطل الموجة في الأثير..
وإنما فقط يحدث شلل في جهاز النطق في الراديو.
أما الموجة فتظل سليمة علي حالها يمكن أن يلتقطها راديو آخر سليم.
وهذه حال الذاكرة.. فهي صور وأفكار ورؤي مستقلة مسكنها ومستقرها الروح وليس المخ ولا الجسد بحال. وما المخ إلا وسيلة لنقل هذه الصور لتصبح كلمات منطوقة مسموعة في عالم مادي. فإذا أصيب المخ بتلف.. يصاب النطق بالتلف ولا تصاب الذاكرة لأن الذاكرة حكمها حكم الروح ولا يجري عليها ما يجري علي الجسد.
التوازي مفقود بين الاثنين مما يدل علي أننا أمام مستويين «جسد وروح» لا مستوي واحد اسمه المادة.
وفي حوادث النسيان المرحلي.. الذي تنسي فيه مرحلة زمنية بعينها «هو الموضوع المحبب عند مؤلفي السينما المصريين».. ينسي المصاب فترة زمنية بعينها فتمحي تماما من وعيه وتكشط من ذاكرته.
وكان يتحتم تبعا للنظرية المادية أن نعثر علي تلف مخي جزئي مقابل ومناظر للفترة المنسية.
لكن الملاحظ أن أغلب تلك الحالات هي حالات صدمة نفسية عامة وليست تلفا جزئيا محددا. مرة أخري نجد أن التوازي مفقود بين حجم الحادث وبين حجم التلف المادي.
وفي حالات التلف المادي الشديد للمخ نتيجة الكسور أو الالتهابات أو النمو السرطاني، حينما يبدأ النسيان الكامل يلاحظ دائما أن هذا النسيان يتخذ نظاما خاصا فتنسي في البداية أسماء الأعلام وآخر ما ينسي هي الكلمات الدالة علي أفعال.
وهذا التسلسل المنتظم في النسيان في مقابل إصابة غير منتظمة وفي مقابل تلف مشوش أصاب المخ كيفما اتفق، هو مرة أخري عدم تواز له معني.. فهنا إصابة في الذاكرة لا علاقة لها من حيث المدي والكم والنظام بالإصابة المادية للمخ.
وهكذا تتحطم النظرية المادية للذاكرة علي حائط مسدود.
ونجد أنفسنا أمام ظاهرة متعالية علي الجسد وعلي خلايا المخ.
وسوف تموت وتتعفن الخلايا المخية وتظل الذاكرة شاخصة حية بتفصيلاتها ودقائقها تذكرنا في حياتنا الروحية الثانية بكل فعل فعلناه.
ولم يكن الجسد إلا جهازا تنفيذيا للفعل وللإفصاح عن النوايا في عالم الدنيا المادي.. كان مجرد أداة للروح ومطية لها.
ولم يكن المخ إلا سنترالا.. وكابلات توصيل.
وكل دوره هو أن يعطي التوصيلة من عالم الروح إلي عالم المادة أو كما يقول برجسون DONNER LA COMMUNICATION
كابلات الأعصاب تنقل مكنون الروح وتحوله إلي نبض إليكتروني لتنطق به عضلات اللسان علي الطرف الآخر.. كما يفعل الراديو بالموجة اللاسلكية وهكذا نتبادل الكلام كأجساد في عالم مادي.. فإذا ماتت أجسادنا عدنا أرواحا.. لنتذاكر ما فعلناه في دنيانا لحظة بلحظة حيث كل حرف وكل فعل مسجل.
بل إن هناك نظريات علمية تمضي لأكثر من هذه.. فتري أن التحصيل هو في ذاته عملية تذكر لعلم قديم مكنوز ومسطور في الروح.. وليس تعلما من السبورة.. فنحن لا نكتشف أن 2*2 = 4 من عدم، وإنما نحن نولد بها.. وكل ما نفعله أننا نتذكرها.. وكذلك بداهات الرياضة والهندسة والمنطق.. كلها أوليات نولد بها مكنوزة فينا.. وكل ما يحدث أننا نتذكرها.. تذكرنا بها الخبرة الدنيوية كل لحظة.
وبالمثل شخصيتنا.. نولد بها مسطورة في روحنا.. وكل ما يحدث أن الواقع الدنيوي يقدم المناسبات والملابسات والقالب المادي لتفصح هذه الشخصية عن خيرها وشرها.. فيسجل عليها فعلها..
والتسجيل هو الأمر الجديد الذي يتم في الدنيا.
الانتقال من حالة النية إلي حالة التلبس.
وهذا ما تعبر عنه الأديان بأن يحق القول علي المذنب بعد الابتلاء والاختبار في الدنيا.. فتحق عليه الضلالة وتلزمه رتبته.
وهو أمر قد سبق إليه علم الله.. علم الحصر لا علم الإلزام.. فالله لا يلزم أحدا بخطيئة ولا يقهره علي شر.. وإنما كل واحد يتصرف علي وفاق طبيعته الداخلية فيكون فعله هو ذاته.. وليس في ذلك أي معني من معاني الجبر.. لأن هذه الطبيعة الداخلية هي التي نسميها أحيانا الضمير وأحيانا السريرة وأحيانا الفؤاد ويسميها الله «السر».
«يعلم السر وأخفي».
ونقول عنها في تعبيراتنا الشعبية عند الموت «طلع سر الإله» أي صعدت الروح إلي بارئها.. هذا السر المطلسم هو ابتداء حر ومبادرة أعتقها الله من كل القيود ليكون فعلها هو ذاتها وليكون هواها دالا عليها.
ومن هنا لا يصح القول بالحتميات في المجال الإنساني أمثال حتمية الصراع الطبقي والجبرية التاريخية لأن الإنسان مجال حر وليس مسمارا أو ترسا في ماكينة.
كما لا يمكن التنبؤ بما يأتي به الغد في حياة فرد فإنه يستحيل القول بالحتم أو الجبر في مجال المجتمعات والتاريخ.. وكل ما يمكن القول به هو الترجيح والاحتمال بناء علي مقدمات إحصائية.. وهو ترجيح يخطئ ويصيب ويحدث فيه التفاوت في طرفيه.. فمعدل عمر الإنسان في إنجلترا مثلا هو ستون سنة.. وهذا المعدل معدل إحصائي مأخوذ من متوسطات أرقام.. وهو غير ملزم بالنسبة للفرد، فقد يعيش فرد مثل برناردشو في إنجلترا أكثر من تسعين سنة ويتجاوز المعدل.. وقد يموت في سن العشرين في حادثة، وقد يموت وهو طفل بمرض معد.. ثم إن المعدل ذاته قابل للتذبذب من طرفيه صعودا وهبوطا من سنة لأخري.. فلا يصح القول بالحتمية والجبرية في هذا الموضوع.. ولا يجوز إخضاع المجال الإنساني سواء كان فردا أو مجتمعا أو تاريخا لقالب نظري أو معادلة أو حسبة إحصائية أو فرض فلسفي.
إنما تأتي فكرة الحتمية الخاطئة من التطور الخاطئ للإنسان علي أنه جسد بلا نفس وبلا روح وبلا عقل.. واعتبار النفس والعقل مجرد مجموعة الوظائف العليا للجهاز العصبي.
ومن الواقع المشاهد من خضوع الجسم للقوانين الفسيولوجية يستنتج المفكر المادي أن الإنسان والإنسانية بأسرها مغلونة في القوانين المادية.
وهكذا يجعل من الإنسان كتلة مادية أشبه بكتلة القمر محكومة في دورانها حول الأرض والشمس بالحتميات الفلكية.
وينسي أن الإنسان يعيش في مستويين: مستوي الزمن الخارجي الموضوعي المادي.. زمن الساعة.. وفي هذا الزمن يرتبط بالمواعيد والضرورات الاجتماعية ويعيش في أسر القوانين والحتميات. ومستوي زمنه الخاص الداخلي.. زمن الشعور وزمن الحلم.. وفي هذا المستوي يعيش حياة حرة بالفعل.. فيفكر ويحلم ويبتكر ويخترع ويقف من كل المجتمع والتاريخ موقف الثورة.. بل يستطيع أن ينقل هذه الثورة الداخلية إلي فعل خارجي فيقلب المجتمع ويغير التاريخ من أساسه كما حدث في كل الثورات التقدمية.
هذه الثنائية هي صفة ينفرد بها الإنسان، وهذه الحياة الداخلية الحرة يختص بها الإنسان دون الجماد.
وهذه النفس التي يملكها تتصف بصفات مختلفة مغايرة لصفات الجماد.. فهنا نحن أمام وحدة لا امتداد لها في المكان.. هي ال«أنا» تتصف بالحضور والديمومة والشخوص والكينونة والامتثال الدائم في الوعي.. ثم هي تفرض نفسها علي الواقع الخارجي وتغيره.. وتفرض نفسها علي الجسد وتحكمه وتقوده وتعلو علي ضروراته.. فتفرض عليه الصوم والحرمان اختيارا، بل قد تقوده إلي الموت فداء وتضحية.. مثل هذه النفس لا يمكن أن تكون مجرد ناتج ثانوي من نواتج الجسد وذيلا تابعا له ومادة تطورت عنه، مثل هذه النظريات المادية لا تفسر لنا شيئاً.. وإنما لابد لنا أن نسلم بأن هذه النفس عالية علي الجسد متعالية عليه وأنها من جوهر مفارق لجوهر الجسد وحاكم عليه.. فهي في واقع الأمر تستخدم الجسد كأداة لأغراضها ومطية لأهدافها كما يستخدم العقل المخ مجرد توصيلة أو سنترال.
ولابد أن يتداعي إلي ذهننا الاحتمال البديهي من أن هذه النفس لا يمكن أن يجري عليها ما يجري علي الجسد من موت وتآكل وتعفن بحكم جوهرها الذي تشعر به متصفا بالحضور والديمومة والشخوص في الوعي طول الوقت.. فلا هي تتآكل كما يتآكل الجسد ولا هي تقع كما يقع الشعر ولا هي تبلي كما تبلي الأسنان.
وإنه لأمر بديهي تماما أن نتصور بقاءها بعد الموت.
فإذا نحن تأملنا ما يصاحب أفعالنا من تردد بل اختيار القرار ثم شعور بالمسئولية أثناء العمل ثم نوم أو راحة بعد تمامه.. فنحن نستنتج أننا أمام حالة مراقبة فطرية وفكرة ملحة بالحساب وبأن هناك خطأ وصوابا، وأننا نعلم بداهة وبالفطرة التي ولدنا بها أن العدل والنظام هما ناموس الوجود وأن المسئولية هي القاعدة.
يفترض منا هذا الشعور الفطري القهري أن الظالم الذي أفلت من عقاب الأرض والقاتل الذي أفلت من محاسبة القانون البشري الأرضي.. لابد أن يعاقب ويحاسب.. لأن العالم الذي نعيش فيه يفصح عن النظام والانضباط من أصغر ذرة إلي أكبر فلك.. والعبث غير موجود إلا في عقولنا وأحكامنا المنحرفة.
وفكرة العدل والنظام وضرورة العدل والنظام تقودنا إلي ضرورة عالم آخر يتم فيه العدل والنظام والمحاسبة.
كل هذا علم نولد به.. وحقيقة تقول بها الفطرة والبداهة.
ولا غرابة في أن يعترف مفكر غربي ألماني هو «عمانويل كانت» بهذه الحقيقة في كتابه «نقد العقل العملي».
ولا غرابة في أن يصل إلي هذه النتيجة السليمة دون أن يقرأ قرآنا.
إنها الفطرة والبداهة التي تقوم عليها جميع العلوم.
ولا حاجة لأن يقرأ العقل السليم الكتاب المقدس ليكتشف أن له روحا وأن له حياة بعد الموت وأن هناك حسابا.. فالفطرة السليمة تضيء لصاحبها الطريق إلي هذه الحقائق.
وهذا العالم الذي نولد به.. وهذه البداهة التي نولد بها.. تقوم شاهدة علي جميع العلوم المكتسبة وملزمة لها.. فجميع العلوم المكتسبة يجوز فيها الخطأ والصواب.. أما العلم الذي نولد به فهو جزء من نظام الكون المحكم.. الحقيقة الأولي التي علي ضوئها نري جميع الحقائق الفرعية.. وهي المعيار والمقياس.. وإذا فسد المعيار فسد كل شيء وأصبح كل شيء عبثاً في عبث وهو أمر غير صحيح.
وإذا اتهمنا البداهة فإن جميع العلوم والمعارف سوف ينسحب عليها الاتهام وسوف تنهدم لأنها تقوم أصلاً علي البداهات الأولي.
فنحن هنا أمام أصل من أصول المعرفة ومرجع لا يجوز الشك فيه «لأن هذا المرجع شأنه شأن الحياة ذاتها» نحن أمام متن هو لحم المعرفة ودمها.
وكما نأتي إلي الحياة مزودين بعضلات لنتحرك بها وندافع بها عن أنفسنا، كذلك نولد مزودين بالبداهات الأولي لنحتكم إليها في إدراك الحق من الباطل والصواب من الخطأ.
وأعلي درجات المعرفة هو ما يأتيك من داخلك فأنت تستطيع أن تدرك وضعك «هل أنت واقف أو جالس أو راقد» دون أن تنظر إلي نفسك.. يأتيك هذا الادراك وأنت مغمض العينين.. يأتيك من داخلك.. وتقوم هذه المعرفة حجة بالغة علي أية مشاهدة.
وحينما تقول.. أنا سعيد.. أنا شقي.. أنا أتألم.. فكلامك يقوم حجة بالغة ولا يجوز تكذيبه بحجة منطقية.. بل إن تناول هذا الأمر بالمنطق هو تنطع ولجاجة لا معني لها.. فلا أحد أعرف بحال نفسك من نفسك ذاتها.
وبالمثل شهادة الفطرة وحكم البداهة هي حجة علي أعلي مستوي.. وحينما تكون الفطرة والبداهة مؤيدة بالعلم والفكر والتأمل.. وبالمسئولية والمحاسبة وحينما توحي بالتصرف علي أساس أن الكون نظام.. فنحن هنا أمام حجة علي أعلي مستوي من اليقين.
وهو يقين مثل يقين العيان وأكثر.. فالفطرة عضو مثل العين نولد به، وهو يقين أعلي من يقين العلم.. لأن الصدق العلمي هو صدق إحصائي والنظرات العلمية تستنتج من متوسطات أرقام.. أما حكم البداهة فله صفة القطع والإطلاق 2 * 2=4 هي حقيقة مطلقة صادقة صدقا مطلقاً، لا يجوز عليها ما يجوز من نسخ وتطور وتغير في نظريات العلم لأنها مقولة بديهية.
1 + 1=2 مسألة لا تقبل الشك لأنها حقيقة ألقتها إلينا الفطرة من داخلنا.. وأوحت بها البداهة.
هي معرفة أولي جاءت إلينا مع شهادة الميلاد لو أدرك الإنسان هذا لأراح واستراح.. ولوفر علي نفسه كثيراً من الجدل والشقشقة والسفسطة والمكابرة في مسألة الروح والجسد والعقل والمخ والحرية والجبر والمسئولية والحساب ولاكتفي بالإصغاء إلي ما تهمس به فطرته وما يفتي به قلبه وما تشير به بصيرته.
وذرة من الإخلاص أفضل من قناطير من الكتب، لنصغي إلي صوت نفوسنا وهمس بصائرنا في إخلاص شديد دون محاولة إلي تشويه ذلك الصوت البكر بحبائل المنطق وشراك الحجج.
وعلي من يشك في كلامي.. وعلي هواة الجدل والنقاش والمقارعة المنطقية أن يعودوا فيقرأوا مقالي من أوله.
د. مصطفي محمود
رحلتي من الشك إلي الإيمان 1970


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.