منذ عامين على وجه التقريب ، تلقيت دعوة كريمة من جامعة صنعاء باليمن لمناقشة رسالة ماجستير بإشراف كل من الأستاذ الدكتور عبد الغنى قاسم والدكتور أحمد الدغشى ، فما كان علىّ ألا أن ألبيها شاكرا مقدرا ، ولسبب ما ،وأنا استعد للذهاب إلى المطار نسيت هاتفى النقال ، حيث لم أكتشف ذلك فى بداية الأمر 0 كان العمل الأول المعتادالذى كان لابد من القيام به هو أن أخطر الأهل فى القاهرة ، بوصولى بالسلامة ، فلما اكتشفت نسيانى للهاتف النقال ،وأسرع الزملاء بتقديم هواتفهم لأستخدم ما أريد ، إذا بى أجد نفسى غير متذكر أى رقم من أرقام زوجتى وولدَىّ ، أو أحفادى 0 وعرض الإخوة أن يخصصوا لى هاتفا خاصا ، فإذا بى أتساءل أمامهم بحسرة : وما ضرورته إذا كنت لا أذكر أى رقم ؟ انتبهت لأول مرة ، وكأننى فقدت قطاعا من قطاعات ذاكرتى ، لأننى – مثلا ملايين – أسلمت قيادها لهذا الجهاز الصغير : الهاتف النقال ! ويبدو ، أن التعود على كثرة التأمل والتفكر ، دفعنى إلى التفكير فى جملة الآثار الجانبية السلبية لمظهر حضارى متقدم ، لا أحد يمكن أن يشكك لحظة فى الكم الرهيب من الخدمات التى أصبح يؤديها لنا ، مما يسهل سرعة الاتصال ، والاطمئنان ،وقضاء الكثير من الأعمال دون ضرورة الحركة ،وتوفير ساعات طويلة كنا نمضيها فى الذهاب إلى هذا وذاك من الأشخاص أو الأماكن ، إلى غير هذا وذاك مما هو ، لا نقول مجرد معروف للكافة ، بل هو ممارس ،وملموس 0 لكن ، عندما أتذكر ما كان سائدا قبل هذا الهاتف النقال ، من استخدام التليفون الثابت أننا كنا نحرص على تسجيل الأرقام التى تهمنا فى دفتر خاص كبير نوعا ، فى البيت أو المكتب ، وكذلك دفتر صغير يمكن حمله فى الجيب ، نستعين به عند إجراء المكالمات فى أى مكان ، أجد أن ذلك كان " تشغيلا " للذاكرة 0 كان الإنسان منا وهو يطلب رقما ، فكأنه " يذاكر " ويتدرب على حفظ الرقم ، ذلك أننا ننظر أولا فى الدفتر للبحث عن الرقم ، ثم نبدأ بدق الرقم الأول فالثانى ، وهكذا ،وبالتالى " نُحَفّظ " أنفسنا الرقم ، ويؤدى تكرار هذا وذاك ، إلى أن تمتلىء الذاكرة بعدد لا بأس به من الأرقام 0 وكان الإنسان أحيانا ما يلجأ إلى بعض الحيل لتسهيل حفظ الرقم ، كأن يقول لنفسه أن به – مثلا ثلاثة أرقام مجموعها كذا ، أو نوعها كذا ، والرقم الأخير هو مضاعف الرقم الأول – مثلا – وهكذا 0 فلما أصبحنا نعتمد على النقال ،واستغنينا عن " الأرقام المدونة " ، إذا بنا نضغط بدقة واحدة ليظهر لنا الاسم ، فيتم الاتصال ، دون النظر إلى الرقم المتصل به ،وبالتدريج أصبحنا لا نتذكر هذا الرقم وذاك 0 كذلك ، فقد كان من التقاليد الراسخة فى التعليم حفظ جدول الضرب ، حيث كان حفظه مقدمة لابد منها لإحسان إجراء العديد من العمليات الحسابية ، سواء فى المدرسة والامتحانات أو فى الحياة العامة ، ثم أصبح هذا الحفظ غير ضرورى ، لأن هناك " حاسبة " صغيرة بأيدنا أو بجيبنا ، أو حقيبتنا ، تقوم عنا بإجراء العديد من العمليات ، أيضا بمجرد ضغطة هنا وضغطة هناك ، دون أن يسمعنا أحد نكرر العبارات السابقة الشهيرة : خمسة فى ستة بثلاثين ، نضع صفر ومعانا ثلاثة ، إلى آخره00 وكان من الضرورى علينا أن نحفظ بعض القوانين العلمية ،والتواريخ ،والتعريفات ، فإذا بالحاسب الآلى يقوم عنا بذلك ، فلا تصبح ضرورة لأن نجهد أنفسنا فى هذا ، وتكفى ضغطة سريعة قد لا تستغرق ثانية واحدة ، ليظهر لنا المطلوب 0 ونستطيع أن نسوق غير هذا وذاك ، أمثلة لمظاهر " حفظ "و " تذكر " ، كان لابد منهما ، حتى تستقيم حياتنا العلمية وحياتنا المعيشية والمهنية ، أصبحت الآلات الحديثة تقوم عنا بذلك ، بحيث لا تكون هناك ضرورة لتشغيل الذاكرة 0 ودعّم من هذا ، القول بأن كل هذا التخفيف من المهام للحفظ والتذكر ، يمكن أن يفيدنا فى تشغيل أكثر للقوى العقلية والفكرية وتوجيهها نحو الفهم والنقد والربط والاستنباط والمقارنة ،والإبداع والابتكار والتخيل والاستقراء ، إلى غير هذا وذاك من عمليات عقلية جوهرية ، تُسَرّع عملية التقدم المعرفى والنهوض الحضارى 0 وبادر البعض يهللون ، وينقدون ما كان شائعا وسائدا فيسخرون مما سموه " ثقافة الذاكرة " ،وأن تسيدها هو علامة تخلف ،ولابد من محوها أو إضعافها ، لنتجه إلى المقابل وهو ثقافة الإبداع ،وكأن هذا نقيض ذاك ! وعندما أُواجه بمواقف حرجة كثيرا لنسيانى موعدا أو اسما أو مهمة ، بأننى أصبحت متقدم العمر ، فوهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ،وأصبحت الذاكرة مستهلكة ضعيفة ، تكاد تقترب من " الزهايمر " لا قدر الله ، أفاجأ بإجابة كثيرين ممن يصغروننى سنا بكثير أننى لست وحدى فى المعاناة من النسيان ، فهم كذلك أصبحوا يعانون منه ! بل وأتذكر كيف أننى عندما أتصل بصديق أو زميل أو قريب ، فلا يكون موجودا ،ويرد علىّ أحد من الصغار ، ثم أوصيه بأن يقول لبابا أو ماما أو هذا وذاك ممن أطلبهم أننى حادثته ، وأفاجأ بأن الشخص الذى كنت بحاجة إلى مكالمته ، لم يقل له أحد من الأولاد شيئا عن مكالمته ،ويتحججون بأنهم " نسوا " ! انظر إلى جزء صغير من جسمك وليكن أى إصبع ،وتخيل لا قدر الله أنك اضطررت لتتجبيسه فى وضع ثابت عدة شهور ، فهل يسهل عليك استخدامه ، فور " فك الجبس " ؟ كلا ، يحتاج الأمر بعض الوقت ، لأن العضو إذا توقف عن الاستعمال فترة طويلة ، يصعب إعادة تشغيله ! هكذا الذاكرة ، التى أصبحنا لا نعتمد على تشغيلها يوميا ،وكثيرا ، فتنمو وتنشط وتدب فيها الحيوية دائما 0 كان العرب القدماء ،وقبل ظهور الطباعة ، وحيث كانت تشيع فيهم الأمية ، يجدون أنفسهم أمام ضرورة الاعتماد الكلى على الذاكرة ، حتى إن الشاعر كان يلقى قصيدته ،والتى قد تحتوى على مئات الأبيات ، فإذا بمن سمعوها ، أو بعضهم ، قد حفظها فى التو واللحظة 0 بل رُوى عن الجاحظ أنه إذ كان يعانى من فقر يُعجزه عن شراء نسخ من الكتب التى يود قراءتها ، طلب من أصحاب أحد دكاكين الكتب أن يحرسه له ليلا ، بالمبيت فيه ، وكانت تلك حيلة كى يظل ساهرا طوال الليل ليحفظ ما يسعفه به الوقت من الكتب بدلا من اقتنائها 0 واعتمد كتاب الله ، القرآن الكريم بالدرجة الأساسية على الحفظ ، حيث يكون حراما أن ينسى أو يبدل أحد حرفا منه ، أو يقول ما معناه ، بحيث تخصصت أشهر مؤسسة تعليمية إسلامية فى عملية تحفيظ الملايين من المسلمين ، عشرات القرون الماضية ، كتاب الله ، ألا وهى الكتاتيب ! إن هذه الأجهزة الحديثة التى أصبحنا نعتمد عليها اعتمادا رئيسيا ، إذ تخفف من الاعتماد على الذاكرة ، تسبب فى الواقع قدرا من الخلل ، مثله مثل ما يحدث فى البيئة الطبيعية ، من خلل فى التوازن البيئى وتلوث ، نتيجة للتقدم التقنى والعلمى المذهل ، فهل هى ضريبة لابد من دفعها ، أم أن من الممكن الجمع بين الحسنيين ؟ لا أملك جوابا فوريا ، ذلك أن مثل هذه الإجابة بحاجة إلى بحوث ودراسات ومناقشات مستفيضة 0 غاية ما أستطيع قوله الآن ، هو أن ثقافة الذاكرة ليس دائما بمثل هذا السوء الذى صُورت به ، ذلك لأنه لا تعارض بين حضور هذه الثقافة وأن نُعمل عليها عمليات فكرية وعقلية متميزة مثل الفهم والنقد 0 بل إن هناك من يستغلون فرصة سرعة نسيان الناس للكثير من الأمور ، فيصرحون بأشياء متفائلة ووعود ،ويمر الوقت دون أن ينفذوا شيئا مما قالوه اعتمادا على أن الناس أصبحت تنسى ما قاله هذا وذاك من المسئولين !! ويستطيع الإنسان منا أن يقوم بعملية تدريب بسيطة ، بأن يلزم نفسه بحفظ رقم أو رقمين وآية قرآنية أو آيتين يوميا ، فيكسب من ناحيتين ، ناحية الدنيا وناحية الدين !