جاء الطفل أنيس منصور للدنيا فى 18 أغسطس 1924، مثله مثل أى طفل طبيعى يطلق صرخته الأولى عند ولادته، لكنه عندما كُبر أخذ يطلق صراخاتٍ فى وجه الحياة التى يتأملها بعين غير اعتيادية وتفكير مختلف وكأنه وُلد ليكون فيلسوفاً يبحث فيما وراء الأشياء، وعمقت دراسته للفلسفة هذه الروح التى تهيم بين الكتب التى كان يُترجمها ويمتص رحيقها ليفرزها عسلاً فى كتاباته الشيقة والعميقة بحسب وصف الموسيقار محمد عبد الوهاب الذى أحب أنيس واقترب منه وكان نديماً لجلساته .. ولم يكن الموسيقار يعرف عنه أنه صانع مقالب فكاهية إلى أن شرب منه مقلباً ساخناً. اقرأ أيضًا| كنوز| تحية كاريوكا تحاور «سليط اللسان» ! واليوم نحتفل ونضيء « 101 « شمعة فى ذكرى ميلاد واحدٍ من أهم نجوم مؤسسة «أخبار اليوم « قبل أن يغادرها للزميلة « الأهرام «، وله فيها تاريخ طويل منذ بدأ مشواره فى بلاط صاحبة الجلالة، وأصبح من أشهر كُتّابها وأشهر كُتّاب مصر جميعاً بما تركه للمكتبة من مقالاتٍ ومؤلفات نختلف فى تقييمها، كان يكتب كما يتكلم، ويكتب كما يتنفس، ويقرأ ويترجم ويكتب وفى الوقت المنظم الذى حدده لنفسه بطقوس خاصة به، لم يكن مخبراً صحفياً يحصل على الخبر مثل أستاذه مصطفى أمين لكنه كان كاتباً وأديباً يتميز بالجملة القصيرة والعبارة الرشيقة التى تنافس رشاقة راقصات الباليه .. والكرة الفلسفية التى يغلف بها كتاباته، ومع ذلك أسند له على ومصطفى أمين رئاسة تحرير مجلة « الجيل الجديد « خلفاً لموسى صبرى الذى اكتشف موهبته الأدبية، وأسندوا له رئاسة تحرير مجلة « هى»، وتولى رئاسة تحرير» آخر ساعة «، وجلس على نفس المقعد الذى كان يجلس عليه أمير الصحافة المصرية محمد التابعى، وانتقل بعدها ليكتب عموده اليومى «مواقف» فى «الأهرام» حتى آخر يوم فى عمره بالرغم من توليه رئاسة مجلس إدارة ورئاسة تحرير مجلة « اكتوبر « بقرار من صديقه الرئيس محمد أنور السادات، وقد وصفه د. طه حسين بأنه أكبر قارئ فى العالم العربى، والأكثر انتشاراً عند القراء من بين كل الكُتّاب العرب، ارتبط به القراء لأنه يمتلك العبارة القصيرة الرشيقة فى المقال والقصة والمسرحية والتأملات وأدب الرحلات وعالم الأشباح والأرواح والذين هبطوا من السماء والذين صعدوا إليها، وما يتعلق بالفلسفة وما وراء الطبيعة. أنيس منصور مُختلف عليه سياسياً وأيديولوجياً، الذين يحبون جمال عبد الناصر على عداء معه لما كتبه فى « عبد الناصر المُفترى عليه والمفترى علينا « مع أننى عثرت على 4 مقالات قصيرة نشرها فى «الأخبار» قبل رحيل ناصر وبعد رحيله، وكلها تقطر محبة وتقديراً واحتراماً وتبجيلاً للزعيم، بما يثبت أنه لم يكن يكره عبد الناصر، والذين يحبون الرئيس السادات يناصرون كتاباته ويتفقون معه فى توجهات السادات المؤيدة لاتفاقية كامب ديفيد من أجل السلام، وذهابه للقدس وتل أبيب منتصراً ومرفوع الرأس ليلقى خطابه الذى كتبه أنيس بالاشتراك مع موسى صبرى فى الكنيست، وخاض معارك ضد منتقديه فى هذا المسار ! اقرأ أيضًا| في ذكرى رحيله.. «أنيس منصور» قصة إبداع لا ينتهي ولى مع أستاذنا أنيس منصور وقفات اعتراضية تبين أنه من كثرة ما كان يقرأ ويترجم ويكتب يومياً فى أكثر من مكان كانت تلتبس عليه بعض الوقائع والأسماء والأحداث، فلم يقنعنى بما رواه فى كتابه « فى صالون العقاد كانت لنا أيام » بدليل أن د. عاطف العراقى أكد أن أنيس لم يكن من بين ضيوف صالون العقاد البارزين ولم يكن يعرفه أحد من رواد الصالون القدامى ورآه مرة يجلس فى الصفوف الخلفية، والكتاب يحتوى على ملزمة صور فى نهايته لا توجد بينها صورة واحدة لأنيس مع العقاد مثلنا !! وبعد غزو صدام للكويت كتب فى « مواقف » بالأهرام أن المنجم الفرنسى ميشيل نوستراداموس تنبأ بغزو الكويت فى رباعية ذكر فيها اسم « صبام »، ولأننى تعمقت فى دراسة « رباعيات « نوستراداموس وحياته، وكتبت عنه كتاباً بعنوان « نهاية العالم »، فوجدتنى مضطراً للعودة لرباعياته ولم أجد بها رباعية تشير لغزو الكويت أو قائد يدعى « صبام » ! وفى ذات السياق كتب أستاذنا أنيس منصور مقالاً عن علاقته بأمير الصحافة محمد التابعى - سوف ننشره فيما بعد - ادعى فيه انه عندما زار التابعى فى مستشفى الأنجلو أعطاه الأمير ظرفاً متخماً بالصور والبراويز والخطابات والوثائق كان يضعها فى دولاب بالغرفة التى يُعالج بها، وربما تتساءل عزيزى القارئ : لماذا أحضر التابعى هذا الظرف الضخم للمستشفى من بيته ؟ وهل كان يعلم قبلها بزيارة أنيس منصور له؟ ولماذا أعطاه المظروف وهو ليس من تلاميذه المقربين إليه مثل: هيكل ومصطفى وعلى أمين ؟ وقد سألت ابنته السيدة شريفة التابعى عن هذه الواقعة التى نفتها، وقالت: إن والدتها كذبته ولم تكن تحبه لكثرة ما يدعيه، وأكدت أن تراث والدها الورقى وصوره ومقتنياته لم تبرح بيته ومُحتفظ بها فى كراتين بغرفة خاصة من غرف شقته بالزمالك، وقالت: إنها سألت الساخر أحمد رجب الذى استشهد به أنيس فى المقال إن كان لديه معلومة واحدة فقال لها: « لم يحدث ما كتبه ومن عادة أنيس أنه ينسى ما كتب وكان يدعى كثيراً كما يتنفس » !! .. اقرأ أيضًا| 6 سنوات على غياب «معبودة الجماهير» صوت مصر الشادى ويبقى السؤال : لماذا لم ينشر أنيس صورة أو وثيقة أو معلومة فريدة نادرة من المظروف الذى يدعى أن التابعى أعطاه له فى المستشفى ؟ وهذا ليس طعناً منى فى كاتبى المُفضل الذى أحبه وأعشق أسلوبه، وقد خدعنا أستاذنا أنيس منصور بذكائه وحضوره الطاغى عندما أقنعنا بما كتبه بأنه « عدو للمرأة »، ونفت عنه أرملته رجاء حجاج فى حديث صحفى أنه لم يكن عدواً للمرأة، وروت كيف أحبها بجنون وكيف وسَّط محمد حسنين هيكل ليُقنعها بالزواج منه، وهى الحبيبة التى وصفها بأنها ابنته وزوجته وحبيبته التى أهدتها له السماء، ولم يحب عليها أو يتزوج بغيرها واستمر زواجهما لنصف قرن حتى رحيله فى أكتوبر 2011، ومن شدة حبه لها وتقديره لشخصيتها خصص لها إهداء كتابه « فى صالون العقاد كانت لنا أيام » الذى قال فيه « إلى التى لولا تشجيعها ما كان السطر الأول فى هذا الكتاب، ولولا تقديرها ما اكتملت هذه الصفحات، امتناناً عميقاً وحباً أعمق : إلى زوجتى »، وقد اعترف أنيس فى حوار تليفزيونى أنه يحب المرأة التى استطاعت بذكائها وتسامحها ورقتها، وقوة شخصيتها واحتوائها، أن تجذبه بخيوط حريرية من حياة العزلة ليصبح مخلوقاً اجتماعياً ينعم بالزواج ، وكان أنيس متأثراً بفكر وسلوك أستاذه الفيلسوف توفيق الحكيم الذى ادعى أيضاً عداوته للمرأة وهو فى الحقيقة لم يكن عدواً لها، وادعى أنه من البخلاء ولم يكن كذلك وهناك فارق عند الحكيم بين البخل والحرص، ونجح الحكيم فى أن يصنع لنفسه شهرة وهالة تشغل الناس بأكذوبة بخله وعداوته للمرأة وعصاه وحماره والبيريه المُميز به، وسار أنيس منصور على نهج أستاذه شيخ الكُتّاب والأدباء .. ونجح فى ذلك بنفس نجاح الحكيم الذى ارتبط بصداقته وكان له معه حوارات وصولات وجولات ومواقف وطرائف رواها وكتبها فى مقالاته وكتبه، وزامله فى عضوية مجلس الشورى بالتعيين مع إحسان عبد القدوس . مداعباته الطريفة مع عميد الأدب العربى يُعتبر كتاب « الكبار يضحكون أيضاً « من أمتع الكتب التى تثبت أن الكاتب الكبير أنيس منصور كان من كبار الحكائين، ففى هذا الكتاب يروى لنا عشرات الحكايات التى تتضمن مواقف فكاهية يتسم بها العديد من الشخصيات ذات الأسماء الرنانة، والثقل الاجتماعى والثقافى والفكرى والسياسى، فيروى لنا فى واحدة من حكايات الكتاب الموقف الذى جمعه بعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين عندما كان أنيس طالباً بكلية الآداب، ويقول أنيس : « كنا ونحن طلبة نقلد أساتذتنا فى المحاضرات وكنت أقلد صوت أستاذنا د. طه حسين وقد طلب منى أن أردد ما كنت أفعله فيما مضى وخجلت ولكنه أصر فقلدته .. وكان د. طه حسين يكرر الكلمات فى الجملة الواحدة وكان صوته غنائياً فقلت: «إذا كنت راكباً حماراً فأنا راكب والحمار مركوب ولما كان المركوب هو ما نلبسه فى القدم، فلا أنا راكب ولا الحمار مركوب»! ويقول أنيس: «ضحك د. طه حسين وأشرق وجهه وتراجع إلى الوراء فى لطف وحنان وطلب أن أعيد ذلك فأعدت وزدت على ذلك كثيراً وطويلاً ولم أنس حلاوة ابتسامته». وروى أنيس فى لقاء تليفزيونى كيف راوغ د. طه حسين وأضطر لأن يكذب عليه عندما أعد للتليفزيون لقاء مع العميد الذى اشترط أن يكون عدد من سيتحاور معهم اثنان أو ثلاثة، واشترط أن يأخذ نفس الأجر الذى حصل عليه العقاد، واشترط ألا يتجاوز اللقاء أكثر من نصف الساعة، وعندما سألت زوجة العميد عن العدد الكبير فى حديقة البيت أخبرها أنيس أنهم عمال التصوير والإضاءة والفنيون ولم يخبرها أنهم مجموعة الأدباء الذين يزيدون على عشرة جاءوا للحوار مع العميد الذى أدرك أثناء التسجيل كثرة العدد على غير ما اتفق عليه .. فكان كل برهة وعند كل سؤال من أديب من الأدباء يقول: « يا أستاذ انيس لقد اتفقنا « ثم يسكت ولا يكمل الجملة، ولكن أنيس كان يفهم ما يقصد العميد، والحسنة التى تُحسب لأنيس منصور أن هذا اللقاء هو التسجيل التليفزيونى الوحيد لعميد الأدب العربى مع التليفزيون. المطربة التى يدين لها الرجال بالآهات ارتبط أنيس منصور بصداقة متينة مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم التى أحب صوتها وكانت تقرأ كل ما يكتب، وعندما تزوج دعته وعروسه لمنزلها لكى تقدم له هدية الزواج، وعندما ذهب اكتشف وجود محمد عبد الوهاب والفرقة الموسيقية وأخبرته أم كلثوم أنه الوحيد الذى سيستمع لبروفة كاملة لأغنية « أنت عمرى» قبل ان يتم تسجيلها فى الإذاعة وقبل أن تغنيها فى حفل لجمهورها، وتلك هى الهدية التى كتب عنها أنيس مقالاً بديعاً فى « آخر ساعة «، وفى مقال آخر كتب أنيس منصور يقول : - «استطاعت أم كلثوم بذكائها وشخصيتها وصوتها أن تفرض احترامها على الناس، وأن ترفع مستوى الغناء الشرقى، وترفع مستوى المطربة التى كانوا يسمونها «العالمة»، غيرت المفهوم وأصبحت كوكب الشرق، وأفلحت فى أن تخرس ألسنة عشرات الألوف من الرجال فى كل لحظة تصعد فيها على المسرح، إنها المرأة الوحيدة التى يدين لها الرجال بالدموع والآهات، والذين يحسبون لياليها من ليالى العمر، ويجدون شيئاً يحمدون الله عليه وهم مخلصون» ! وأنت مع أم كلثوم لا تعرف ما الذى تفعله هذه السيدة، فهى المطربة الوحيدة فى العالم التى تغنى الأغنية الواحدة فى ساعة وساعتين، إن الأوبرا التى يشترك فى غنائها العشرات من المطربين المختلفى الأصوات والأشكال والأزياء، ووراهم مناظر وديكور وستائر تعلو وتهبط لا تزيد هذه الأوبرا على ساعة ونصف الساعة.. وأحياناً ساعتين تتخللها استراحات قصيرة وطويلة، لكن أم كلثوم بفستان واحد، ومنديل واحد، وأوركسترا واحد، ومنظر واحد، ولحن واحد، لملحن واحد، وشاعر واحد، وفى ليلة واحدة، تستطيع أن تذيب الناس فى عرق ودموع، وأن تحرقهم بدموعها هى، وأن تبخرهم على شكل آهات، وأن تميتهم وتبعثهم الى العالم الآخر فى أثواب الملائكة، كل ذلك يحدث فى ليلة، أم كلثوم أخرت الشمس كما فعل النبى يوشع ! أنيس منصور «الكواكب» - 6 نوفمبر 1962 موسيقار الأجيال وطائر «الراقون» ارتبط الكاتب الكبير أنيس منصور بصداقة قوية مع الموسيقار محمد عبد الوهاب الذى لم يكن يخفى إعجابه الشديد بكتابات أنيس وأسلوبه الرشيق الممتع وسعة اطلاعه وامتلاكه لعدة لغات، وكتب أنيس منصور الكثير من حكاياته الطريفة مع عبد الوهاب فى « مواقف « بالأهرام، ومقالات بجريدة «الشرق الأوسط «، وبعض كتبه، ولخص لنا شخصية عبد الوهاب قائلاً : - « يُقال عن محمد عبدالوهاب إنه من شدة هوسه بالنظافة كان يغسل الصابون قبل استعماله، وكنا نلاحظ ذلك، فهو يغسل يديه قبل الأكل وبعد الأكل إذا كان فى نيته أن يأكل، وإذا كان فى نيته ألا يأكل، وكان يضع منديلاً على أنفه، حتى لا يشم رائحة كريهة يتوهم مصدرها من أى إنسان قريب منه، وفى يوم كنا فى طريقنا إلى الغداء عند الأستاذ يوسف وهبى فقيل لعبد الوهاب « للأسف الماء مقطوع فى منزل يوسف بك « ! انزعج عبد الوهاب بشدة وطلب من سائق سيارته أن يعود به إلى البيت فوراً، مع أن الحل بسيط وهو أن نأتى له بالماء من أى مكان، أو يذهب إلى جار يوسف وهبى ويغسل يديه عنده ويستحم إذا أراد، وسوف يكون ذلك مصدر سعادة لهذا الجار، لكن انزعاج الموسيقار ووسوته القهرية كانت توقف تفكيره، وكان توفيق الحكيم يداعبه قائلاً: « سوف تتعذب كثيراً يا عبدالوهاب، فجهنم ليس فيها ماء لغسل اليدين، والناس فى الجنة ليسوا فى حاجة إلى غسل أيديهم وأرجلهم «، وعبد الوهاب حريص جداً على فنه، وحريص على أن يكون اللحن فى أكمل صورة، ولذا يجرى بروفاتٍ كثيرة على ألحانه، يسهر بالساعات بلا طعام ولا شراب حتى يكتمل اللحن، وقد وصفه أحد النقاد الإنجليز بأنه مثل طائر « الراقون « المشهور بغسل طعامه ويجلس إلى جواره حتى يجف ! «بيكار» فى مرآة فيلسوف «أخبار اليوم» كان ياما كان فى سالف العصر والأوان واحد فنان. والفنان اسمه بيكار حسين أمين بيكار. مصرى من أصل قبرصى - تركى، وكان صديق العمر. فنحن أصدقاء من زمن بعيد وسافرنا معاً إلى أوروبا وتصعلكنا فى شوارعها واستديوهاتها، ونجحنا كثيراً، فلا أحد يستطيع أن يقاوم اللغة الإيطالية والبنات الإيطاليات، فاللغة أغنيات والبنات راقصات والجو أوركسترا لكل المشاعر الجميلة، والمايسترو هو الشباب وكنا شباباً وإذا تخيلت أن أحداً مصنوع من الحرير الصينى فالفنان بيكار، وإذا تخيلت أحداً مثل دودة القز تفرز الحرير فخطوط لوحاته كذلك، لولا أن دودة القز حشرة كريهة، ولم يكن بيكار إلا رجلاً وسيماً جميل الشكل والرسم والجسم والنفس، لم يكرهه أحد، ولم يكره أحداً، كيف ؟ هذه هى المعادلة الصعبة التى افتقدناها ففى يوم كنا فى مدينة البندقية ورأينا حسين بيكار وعبد السلام الشريف وصلاح طاهر وكمال الملاخ وحسن فؤاد وجمال كامل وهم كبار فنانى مصر فتاة صغيرة أمسكت ورقة وقلماً، وبمنتهى الثقة ترسم حصاناً يقفز، وقفنا وتولانا الذهول، كيف تستطيع هذه الصغيرة وبخطوط صغيرة أن ترسم حصاناً، وقفنا وطلبنا إليها أن ترسم الحصان واقفاً ونائماً على جانب أو على ظهره أو طائراً، وكيف تفعل ذلك ببراعة فريدة، وطلبنا إليها أن تعطى كل واحد منا لوحة وأن توقع عليها بإمضائها، وفعلت ولا نزال نحتفظ بهذه المعجزة الفنية، وقد أسعدنى حسين بيكار بأن رسم أغلفة عدد من كتبى، وكانت هذه الأغلفة تحفة فنية، وقد بدأ حسين بيكار حياته موسيقياً مطرباً وملحناً، وأول ألحانه كان للملك فاروق، وأصابعه لم تتوقف عن العزف على العود وعلى الورق أيضاً، وإذا كان الفنان صلاح طاهر هو موسيقار الألوان،، فإن حسين بيكار هو مطرب الضوء والظلال والحرير. وقد استمعت من حسين بيكار إلى أغنية سيد درويش « أنا هويت وانتهيت» وهى أسعد أغنية فى تاريخ الغناء العربى، فقد غناها محمد عبد الوهاب والسنباطى وإسماعيل شبانة وسعاد محمد وفرقة أم كلثوم وحسين بيكار وأنا أيضاً غنيتها لحسين بيكار وإسماعيل شبانة وغنيتها لنفسى كثيراً. أنيس منصور جريدة «الشرق الأوسط» موسى صبرى يتفوق على كمبيوتر اليابان ! كان الأستاذ موسى صبرى دقيقاً جداً فى الحسابات.. فلم يحدث أن قدم له الجرسون فاتورة إلا وجلس يقرأها بعناية شديدة.. ويُخرج القلم ويحسبها.. مع أنه لن يدفع.. فقد كنا ضيوفاً على حكومة اليابان. وبعد الضرب والقسمة والجمع، يبدو الارتياح على وجه الأستاذ موسى صبرى ويوقع الفاتورة ! وفى يوم كنا فى صحبة الرئيس مبارك، وجاء يوم الرحيل من طوكيو، أعطونا الفواتير لنوقع عليها، كلنا وقعنا دون النظر إلى ما جاء فيها، فلا داعى لمراجعتها أو الاهتمام بما فيها ما دمنا لن ندفع، إلا الأستاذ موسى صبرى، بدأ يراجع ويجمع ويضرب ويطرح ويقسم، ثم وقف سعيداً منتصراً عندما اكتشف خطأ فى الجمع، الخطأ مؤكد والمبلغ تافه : عشرون « ينا « .. لكن اكتشاف الخطأ التافه انتصاراً للأستاذ موسى على كمبيوتر اليابان !! ضحكنا ولكنه أصر على أن يذهب للإدارة، وذهب، والتفوا حوله، وانحنوا له وهم يتكلمون اليابانية، وهو راسخ فى موقعه لا يتحرك، وفجأة أعلنوا أن شركة الكمبيوتر تتوجه بالشكر إلى الأستاذ موسى صبرى، وصدر قرار بتغيير أجهزة الكمبيوتر التى تغلط فى كل فاتورة، ولا أحد يعرف منذ متى كان هذا الخطأ، مصيبة، كارثة كبرى ! تزاحمت سلات الورود فى غرفة الأستاذ موسى صبرى، وتلقى تذاكر الدعوة على العشاء والغداء، ودعوة رسمية بأن ينزل فى الفندق ضيفاً لمدة أسبوع، وتذكرة طيران درجة أولى ذهاباً وإياباً، وخطاب شكر للرجل الذى أوقف اكتشافه نزيف « الين « بغير حق، وبرمجة خاطئة فى كمبيوتر الفندق، وتلقى الأستاذ موسى صبرى هدايا متعددة، كاميرا يابانية، وقمصان حرير، وساعات على كل صنف ولون، والدقة عند الأستاذ موسى صبرى تجلب له ما لم يكن ينتظره ! أنيس منصور من «الكبار يضحكون أيضاً» هوايات المشاهير بقلم : أنيس منصور هل من الضرورى أن تكون لك هواية؟ كثيرون يرون هذا ضرورياً.. لأن الراحة ضرورية .. ولأن من أهم معانى الراحة أن تبعد نفسك بالقوة أو بالذوق عن العمل اليومى الذى يشدك من كل حواسك ويحطمك أولاً بأول .. وأنا أستبعد من عالم الهواة الذين يجدون الأكل والشرب والنوم هواية ..لأنها هوايات مُرهقة .. والهواية هى التى تريح ؟ ومن أشهر الهواة الزعيم السياسى البريطانى ونستون تشرشل، فقد ألف كتاباً عن الرسم كهواية .. وكان تشرشل فى أقصى ساعات المعارك الحربية يهرب ومعه صندوق الألوان وإحدى اللوحات ويرسم السماء الصافية أو الرمال والبحر أو بعض الأصدقاء. وكان يستغرق فى هذا العمل تماماً كأنه ليس قائداً عسكرياً أو زعيماً سياسياً .. أو كأنه أحد المتفرجين على لعبة الحرب بين ألمانيا وبريطانيا .. وبعد ذلك يعود الى عمله .. وقد استراح تماماً أو إلى حد كبير. ولا يهم ماذا يكون نوع الهواية .. كما أنه لا يهم أن تمدد رجلك أو أن تشم الهواء النقى .. فهناك أناس يجمعون أغطية الزجاجات الفارغة أو علب الكبريت . وهناك هواية - ظاهرها الهواية - وهى جمع الملاعق والشوك والسكاكين من الفنادق والمطاعم .. وبعض الناس عندهم هوايات مؤذية مثل: جمع مفاتيح الغرف التى ينزلون بها فى الفنادق .. ولذلك وجدنا الفنادق تضع مفاتيح الغرف فى كرات من الحديد أو من الخشب حتى لا يدعى الزبون أنه قد نسى المفتاح .. وحتى إذا أراد أن ينساه فإن هذه الكرات تفضحه . ومن هوايات الأطفال جمع التوقيعات .. والزعيم البريطانى ونستون تشرشل الذى تحدثنا عنه منذ قليل يروى لنا فى مذكراته عن الحرب العالمية الثانية مفاجأة لنا .. ومفاجأة له هو أيضاً .. فيقول: « إنه أثناء انعقاد مؤتمر» يالتا « فوجئ تشرشل والرئيس الأمريكى روزفلت بالزعيم السوفيتى ستالين عندما نهض واقترب من كل منهما وطلب التوقيع منهما فى أوتوجراف معه» . وكانت هذه إحدى هوايات الزعيم ستالين . وقد أعلن الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر أن هوايته التحديق فى وجوه الناس .. وبالمناسبة سارتر كان نظره ضعيفاً جداً - ولابد أن يكون المقصود ليس مجرد النظر الى وجوه الناس وإنما التأمل فى الناس - فى الوجه والقفا أيضاً ! وحاولت أن أتذكر إن كانت لى هواية واحدة فلم أجد .. فقد كانت لى هوايات كثيرة وضاعت . تحولت الى حرفة .. أو نوع من الحرف .. كنت أهوى القراءة فأصبحت أحترفها .. وكنت أهوى الكتابة فأصبحت أحترفها .. وكنت أهوى متابعة ومراقبة أصحاب الهوايات .. فأصبحت أحترف معرفة هوايات الناس ولذلك استراحوا ولكنى لم أسترح ! ورأيت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل فى مطار بن جوريون وهى تصافح الرئيس السادات بوجه بارد ومتوجس ولم يرتسم على وجهها أى ضيق عندما قال لها الرئيس وهو يصافحها : «أهلاً بالسيدة العجوز»، فلم ترد جولدا مائير ونقلوا لى أنها اغتاظت جداً، وجاءتها الفرصة الذهبية حين نشرت الصحف الإسرائيلية أن الرئيس السادات رُزق حفيداً، فأرسلت للرئيس باقة ورد عليها عبارة « من السيدة العجوز إلى السيد العجوز!»، وكان من هواياتها قراءة القصص البوليسية والروايات الغامضة المخيفة وتعشق كتابات « أجاثا كريستى « المليئة بالتجسس والمؤامرات، وتعشق أفلام المخرج هيتشكوك المثيرة والمليئة بالحوادث الغامضة جداً. من كتاب «من نفسى» كم ديك فى العالم كله يعتقد أن الشمس تشرق بصياحه .. وكم أحمق يظن أن الحياة لن تستمر بدونه ! أنيس منصور