أ.د. محمد المحمدى مدير مركز البحوث والدراسات التجارية بجامعة القاهرة إن النظام الإدارى للدولة المصرية يعتبر من أعرق النظم البيروقراطية الضاربة فى عمق التاريخ، فهو منذ عهد الفراعنة وحتى عهد مبارك يمارس دوره فى خدمة المواطن مصحوبا بأعلى درجات القهر والفساد الإدارى، وما يترتب عليهما من كل ألوان الفساد وأنواعه. لقد حدثنا القرآن عن استبداد فرعون وفساده السياسى حين حسم خلافه مع قومه بقوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}، بل حينما احتدم الجدل بينه وبين موسى عليه السلام وانتهى الأمر للاحتكام إلى الدليل القاطع أمام جمهور الناس ليتبين أمام الجميع من هو على حق ومن هو على الباطل، فيما يشبه صندوق الاقتراع الآن، كان رد فرعون -كما هو ديدن كافة الطغاة والمستبدين- أن نادى فى قومه: {... نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ...} فهو مع صندوق الانتخاب إن كان فقط فى صفه ولا يوجد بديل آخر..! نفس ما انتهى إليه نظام مبارك فى انتخاباته الهزلية المزورة والمعروف نتيجتها مسبقا. لم يكتفِ فرعون بفساده واستبداده السياسى، بل ترتب على الفساد السياسى فساد دينى وأخلاقى وفساد أمنى، وتغلغل فى النظام النظام الاقتصادى ليجعل من مصر وأنهارها وأطيانها وكل ثرواتها ملكا خاصا لها يستمتع به، ويوزع منه ما يشاء على من يشاء من الأقرباء والمقربين كل حسب دائرته، وهذا ما يصوره القرآن بدقه {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ..} وقوله ردا على السحرة حينما سألوه أجرا بسيطا: {أَإِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}؛ أى من الطبقة المقربة المحيطة المستأثرة بامتيازات ومنافع لا يستفيد منها غيرها، وكل ذلك بالضبط وأكثر منه ما انتهى إليه نظام مبارك بأشد صور الفساد بشاعة. ولا يمكن إغفال سنوات، بل أحقاب من الفساد السياسى والاقتصادى التى كانت سمة فى كل مراحل تاريخ مصر، ويمكن الإشارة فى العصور الوسيطة لما سجله المتنبى فى شعره عن الفساد السياسى؛ حيث قال فى رائعته "عيد بأى حال عدت يا عيد": أو كلما اغتال عبد السوء سيده أو خانه كان له فى مصر تمهيد وذلك تعليقا على ما قام به كافور الإخشيدى، وكان عبدا ثم تم تعيينه قائدا للجيش، ثم قاد انقلابا وخان سيده الذى عينه فقتله ونصب نفسه أميرا للبلاد، ثم صور المتنبى فى نفس قصيدته الرائعة مدى الفساد الاقتصادى حينما قال: نامت نواطير مصر عن ثعالبها فبشمن ولم تغن العناقيد والنواطير: جمع ناطور، وهو السيد الشريف، وبشمن: أى امتلأت بطونهن والمعنى أى أن الأسياد قد غفلوا عن سرقة ونهب الثعالب من الفاسدين ومع ذلك لم ينضب خير مصر..!. ونحن بحاجة ماسة بعد ثورة 25 يناير، ونحن نرث هذا الإرث الثقيل، أن نقف على حقيقة هذا الواقع وجذوره؛ كى نكون أقدر على التعامل معه بفعالية، وسوف نركز على التاريخ القريب، وخاصة ما بعد ثورة يوليو وحتى مبارك، وكيف تغلغل الفساد جيلا بعد جيل. دولة العسكر: لقد كان أول ما فعله العسكر مع نجاح ثورة يوليو 1952 هو النظر إلى المؤسسات الحكومية باعتبارها غنائم توزع على المحاسيب والمقربين؛ حيث تم توزيع قيادة هذه المؤسسات على الضباط المشاركين فى الثورة حسب رتبهم، ابتداء من قيادة الدولة نفسها وانتهاء بالشركات والهيئات الاقتصادية التى تم تأميمها، بصرف النظر عن خبرتهم الإدارية أو كفاءتهم لتولى قيادة مثل هذه المؤسسات المدنية؛ لدرجة أننى شخصيا صادفت العديد ممن تولى رئاسة هيئة اقتصادية تتكون من عدة شركات تابعة وهو لا يزال ملازما...! لا شك أن ذلك أضر بشكل بالغ ومضاعف لقوة وتنافسية الجهاز الإدارى بالدولة، بل جر معه دون داعٍ الجهاز الاقتصادى والممثل فى كافة الشركات الاقتصادية التى أممت وانتقلت ملكيتها للدولة؛ فانعكس الضعف على الجميع مع الوقت، وتعانق كل من الجهل الإدارى مع الفساد الخلقى ليصنعا أكبر معول للهدم فى كافة مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية نفسها، والتى انتهت بنهاية مؤلمة من الفشل الذريع فيما عرف بهزيمة يونيو 1967 التى كان هدفها تحرير فلسطين كما سمعنا بأنفسنا حينئذ، وإذا بالنتيجة المؤلمة أن مكنا اليهود مما لم يمكنهم احتلاله سنة 1948 فلقد احتلت الضفة الغربية بما فيها القدس الشريف والمسجد الأقصى، والجولان، وغزة، وكل سيناء، واتضح أننا كنا نعيش نظاما إداريا مهلهلا للدولة المصرية رغم الزخم والحماس والنشوة الثورية التى كنا نعيشها، لدرجة جعلتنا ونحن صغار نقدس عبد الناصر ونعشقه ونتغنى بأمجاده.. لقد كشفت الهزيمة المرة كثيرًا من مواطن الخلل الهيكلية التى كانت مخفية فى زخم الدعاية الثورية الإعلامية الحماسية المتواصلة، التى وقع فريستها جيلنا بالكامل، هذا بخلاف الإرث الثقيل لشركات ما عرف بالقطاع العام التى اكتشفنا بعد حرب أكتوبر 1973، كم كانت متخلفة إداريا وخاوية اقتصاديا، بشكل جعل منها عبئا على الدولة، بدلا من أن تكون عونا لها للانطلاق نحو آفاق النمو. لكن هل انتهى نظام عسكرة مفاصل الدولة الإدارية بعد ذلك ووعينا الدرس؟ فى الحقيقة وبعد مشاهدة الواقع بعد ذلك وحتى الآن نجد أن هناك ردة قد حدثت فى أواخر عهد مبارك، وتسارعت حتى فيما بعد ثورة 25 يناير فى ظل قيادة المجلس العسكرى؛ لدرجة أنك لا تكاد تجد منصبا مهما الآن فى أى وزارة أو محافظة أو هيئة اقتصادية أو غير اقتصادية، حتى الجامعات، ووكالات الوزارات، إلا وعلى رأسه قيادة عسكرية سابقة، هذا بخلاف زوجاتهم، وأبنائهم، والمقربين منهم. وبالطبع هذا إرث ثقيل ووضع مشوه يجب التخلص منه وتنزيه الجيش المصرى الوطنى العظيم عنه، وإلى الأبد.