«60 عاماً تحت حكم العسكر!» ترددت هذه العبارة على مدى العام والنصف الماضيين، وكثيراً ما كان لى تحفظ عليها، فهذا التأريخ يغفل بعض الفروق الدقيقة التى ميزت فترات الحكم المختلفة منذ عام 1952. ففترة حكم الضباط الأحرار كمجلس عسكرى «Military Junta» والذى تكوَّن بعد انقلاب عسكرى، تبعه دعم شعبى عام، متحولا إلى «ثورة»، تختلف عن بداية تولى جمال عبدالناصر لرئاسة مصر وعن محاولات عبد الناصر نفسه، فيما بعد، أن يجعل الجيش محترفاً وبعيداً عن السياسة فى أعقاب تغلغل العسكريين فيها وما أفضى إلى هزيمة 1967. كما أن هذه الفترات تختلف عن رئاسة السادات التى اتسمت بانسحاب المؤسسة العسكرية من السياسة . وبالتالى، ما نجده فى حالة مصر هو تحول تدريجى على مدى الستين عاما من إرث 1952 العسكرى إلى حالة استقواء «للمؤسسة الرئاسية» فى عهدى السادات ومبارك. وهناك أطروحة مفادها أن الانتقال من «حكم العسكر» إلى تقوية «المؤسسة الرئاسية» بدأ تدريجياً منذ عام 1967، وزاد وتكثف فى عهدى السادات ومبارك بشكل جعل مصر، فى تحولها من «دولة عسكرية» تصبح وللأسف «دولة بوليسية» تحمى «مؤسسة الرئاسة» وذلك تمهيدا لسلطوية الحكم «Authoritarianism» لشخص «الرؤساء» كرؤساء، وليس فى كونهما ممثلين للمؤسسة العسكرية. ففى مقال أكاديمى بعنوان «Egyptian Military in Politics: Disengagement or Accommodation» يقول الباحث «عماد حرب» إن السادات من موقع الرئاسة ومع ثورة التصحيح عام 1971 قضى على منافسيه العسكريين الناصريين، وبعد حرب 1973، فإن فكرة «النصر» على إسرائيل أعطته الشرعية التى مكّنته من بسط نفوذه بصفته «رئيسا» وليس فقط نسبةً لإرثه العسكرى. ويضيف «عماد حرب» أن الجيش أصبح أيضا «مطيعاً» للرئيس - كمقياس لانسحابه من السياسة- عندما قرر السادات السماح لبدايات التعددية الحزبية عام 1976وما لحق هذا من تشعب فى سياسات الانفتاح الاقتصادى على أسس جديدة، سمحت لتطور برجوازية اقتصادية مستقلة تحت حمايته مباشرة، وهكذا لم تكن هناك نخبة عسكرية منظمة تستطيع أن تعارض سياساته الليبرالية اقتصادياً أو سياسياً، ثم جاءت سياساته الخارجية، ومبادرته بزيارة إسرائيل ثم معاهدة السلام عام 1979، حيث بدت المؤسسة العسكرية وقد قبلت دورها كمؤسسة من مؤسسات الدولة وجب عليها طاعة سياسات رئيس الجمهورية. وفى اختبار آخر لاحتراف الجيش وطاعته للرئيس بصفته رئيسا، وفى ظل اندلاع مظاهرات يناير 1977 إثر توصيات صندوق النقد الدولى، وإعلان الحكومة تخفيض الدعم على السلع الأساسية، وحينما فشلت قوات الشرطة فى إيقاف المظاهرات، فاستدعيت القوات المسلحة «لقمع أعمال الشغب واستعادة النظام»، قامت القوات المسلحة بذلك وبعد بضعة أيام، عاد الجيش إلى ثكناته. وفى دليل على تخفيض دور القوات المسلحة السياسى خلال سنوات السادات، يشير «حرب» إلى انخفاض عدد العسكريين فى الحكومة، ففى حين تراوحت نسبة تواجد العسكريين فى مجلس الوزراء من 41-61٪ عام 1967، فى عام 1972 انخفض هذا التمثيل إلى 22٪ فقط. كذلك، خلال فترة رئاسة السادات، والتى احتل فيها ستة أشخاص منصب رئيس الوزراء، كان أربعة منهم مدنيين واثنان من ضباط الجيش السابقين، ومن جميع من شغلوا منصب وزير، كانت نسبة من هو ضابط حالى أو سابق 20٪ من مجموع كل الوزراء ال 163. كما انخفض عدد المحافظين ذوى الخلفية العسكرية من 22 من مجموع 26 محافظة فى عام 1964 إلى 5 فقط فى عام 1980. كل هذا معناه، أن فكرة «حكم العسكر لمدة 60 عاما» قد تحتاج إلى إعادة قراءة، خاصة ما بعد 1967 كى نستوعب مدى نفوذ «المؤسسة الرئاسية» فى مصر، رغم كون الرؤساء «فى الظاهر» ينتمون إلى المؤسسة العسكرية. الآن مع وجود رئيس من خارج المؤسسة العسكرية تماما، كيف ستتطور العلاقة بين المؤسسة العسكرية وتلك الرئاسية؟ هذا ما سيكون محور ارتكاز للبحث فى السياسة المقارنة على مدى السنوات القادمة. [email protected]