سنغافورة دولة عبارة عن جزيرة صغيرة مساحتها 710 كيلومتر مربع ! تقع إلى الجنوب من ماليزيا في جنوب شرق آسيا، عدد سكانها خمسة ملايين، هذا آخر إحصاء عن أنشطة أهلها الاقتصادية: الزراعة: صفر ٪ الصناعة: 27 ٪ التجارة الحرة والخدمات: 73 ٪ احتياطي النقد الأجنبي: 590 مليار دولار
لنعد الآن إلى مصر، ونتوجه إلى عروس مدن قناة السويس بورسعيد، مساحتها 1610 كيلومتر مربع (ضعف مساحة سنغافورة)، وعدد سكانها حوالي 750 ألف نسمة، وتقع على مدخل قناة السويس من البحر المتوسط، وكانت قبل حفر قناة السويس عبارة عن مدينتين؛ الفرما وتنيس، وعلى عهد الفراعنة؛ كان ثلاثة أفرع من النيل تصل إلى تلكما المدينتين، وتصب في البحر المتوسط مصب النيل النهائي، وقد دمرت الحملات الصليبية المتتالية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر؛ مدينة الفرما واختفت من الوجود حتى سميت (خرائب الفرما)، وسميت البحيرة إلى الشرق منها (سبخة بولدوين)، التي دُفن على شاطئها جثمان الملك بلدوين؛ الملك الصليبي الذي دمر الفرما، وحوّر المصريون اسمها إلى بحيرة البردويل، وبعد حفر قناة السويس أدمجت المدينتان في مدينة واحدة، هي الأهم موقعا في مصر؛ (بور) وتعني ميناء بالفرنسية، و(سعيد) نسبة إلى حاكم مصر حتى عام 1863؛ الخديو سعيد بن محمد علي باشا. ومن يومها؛ اعتلت بورسعيد مكانتها – نظريا - كأهم مدينة في العالم، وكيف لا وهي تحتل موقعا يتحكم في مدخل أهم قناة ملاحية في العالم في التاريخ القديم والحديث.
فهل اهتم الرئيس عبد الناصر ببورسعيد؟ أبدا.. بقيت على عهده مدينة ساحلية عادية، تعتبر حائط الصد الرئيسي لمصر بعد سيناء، ودمرتها آلات الحرب البريطانية- الفرنسية- الإسرائيلية في العدوان الثلاثي عام 1956، ولُقبت حينها بالباسلة ! ثم هُجّر أهلها قسرا في أعقاب هزيمة 1967، وتفرقوا في جميع محافظات مصر، وعاد البورسعيديون إلى مدينتهم بعد نصر أكتوبر 1973 فوجدوها المدينة البائسة، هدّمت مبانيها ومدارسها ومرافقها وبنيتها الأساسية.
وأدرك الرئيس الراحل أنور السادات بذكائه ووطنيته وبعد نظره أهمية منطقة القناة، فتوجه إلى بورسعيد فأعلنها مدينة تجارية حرة عام 1976، ودخلت مرحلة النمو التجاري والصناعي الواعد المزدهر، وكان حلم السادات أن يجعل منطقة قناة السويس أكبر وأعظم منطقة تجارية في العالم، وفي ذات الوقت؛ كلف المرحوم المهندس عثمان أحمد عثمان أن يولي الاسماعيلية اهتماما خاصا، فبدأت تنميتها، وقطع السادات شوطا كبيرا في إلحاقها بركب تنمية محور قناة السويس، وأصدر قرارا جمهوريا بإنشاء جامعة قناة السويس عام 1976، ومقرها الاسماعيلية، وعندما وقع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979؛ كان واضعا نصب عينيه استحالة تنمية المنطقة في ظل التهديد باشتعال الحرب مع إسرائيل مرة أخرى، لذلك سعى إلى السلام، وكان حلمُه تطويرَ المنطقة واستثمارها، لتصبح مصر أغنى دولة في العالم، وتعود لتتبوأ المكانة التي تليق بها، ولكن القوى الداخلية والإقليمية والدولية التي لا تريد لمصر النهضة أجهضت مشروعه، وخططت جميعها بعناية لاغتياله، وأعتقد جازما أن الرئيس السادات رحمه الله قُتل في 1981 لأنه بدأ يفكر في تنمية محور قناة السويس بادئا من بورسعيد.
فلما جاء خلفه مبارك؛ كان مدركا إدراكا تاما لسبب التخلص من سلفه؛ فأهمل المنطقة كلها؛ السويسوالاسماعيلية وبورسعيد، وإلى الشرق منها سيناء، ويبدو أنه تعهد ألا يقربها بالتنمية أو التطوير، وعبر ثلاثين الأعوام التي تولى فيها حكم البلاد، فقدت منطقة قناة السويس بمحافظاتها الثلاث مبادئ المكانة التي كان يحلم السادات أن تتبوأها، وبقيت صحراء سيناء على حالها، وبقي بدو سيناء على حالهم، يترحمون على أيام الاحتلال؛ أيام العز والحرية، أيام المخدرات والسلاح والتموين المجاني والسيارات المرسيدس.. ولم يقم نظام مبارك في سيناء بأعمال بناء إلا في شرم الشيخ، فأقام عدة مئات من الفنادق والقرى السياحية، وزيارة واحدة إلى مدينة الطور؛ عاصمة محافظة جنوبسيناء؛ تعطي صورة كاملة عما آلت إليه أحوال سيناء، ورفض الرئيس مبارك؛ مختارا أو مجبرا؛ مشروع بناء جسر يعبر مدخل خليج العقبة من ضبا السعودية إلى شرم الشيخ المصرية، ولم تقم في سيناء – كبورسعيد والسويسوالاسماعيلية – أية مشروعات منتجة كبيرة، اللهم إلا بضعة محاجر للزلط والرمل، وعدة شركات للأسمنت والجبس بيعت معظمها لأجانب.
وفي بورسعيد؛ قبل بضع سنوات من ثورة يناير؛ أطلق حراس موكب الرئيس النار على رجل بورسعيدي فأردوه قتيلا، وأذاعوا أنه هجم على الموكب بسلاح ناري ! وهو ما زاد من نفور أهل بورسعيد من النظام الحاكم في مصر، بعدها أصر نظام مبارك على نزع كل ميزة للمدينة، فصدر أمر الحكومة بإلغاء صفة المدينة التجارية الحرة، وغضب أهل بورسعيد وازداد سخطهم على مصر والمصريين، ثم أعطتهم حكومة مبارك فرصة عامين آخرين، (لا أدري ما الذي سيتغير خلال عامين !)، وبقيت العلاقة بين بورسعيد كمدينة والبلد الأم متوترة، سواء من خلال المنافسة على مباريات كرة القدم، والإهمال المتوارث من حكومات ما بعد السادات، حتى قامت الثورة في 2011، وكان أول ما سمعناه عن بورسعيد هو إقامة مباراة الأهلي القاهري والمصري البورسعيدي التي انتهت بالمذبحة في فبراير 2012.
فهل تعتقد عزيزي أن هذه المباراة قد حُدِّد موعد إقامتها عشوائيا بحسن نية؟ هل اللافتة التي رفعها مشجعو النادي الأهلي وتقول: إن بورسعيد ليس بها رجال؛ رفعت في الاستاد عبثا؟ من الذي أغلق بوابات الاستاد؟ ومن الذي قطع الكهرباء؟ ومن الذي حدّد تاريخ 26 يناير للنطق بالحكم في القضية؟ ألم يكن من الممكن تأجيل الجلسة لما بعد ذكرى الثورة ؟ وكيف اتفقت محافظات منطقة القناة معا هذه الأيام لتقوم مرة واحدة، ضد النظام وضد القضاء وضد الرئيس؟ ومن الذي أطلق أيدي البلطجية واللصوص لتعيث فسادا في البلاد، وتكمل مسيرة فساد النظام السابق؟ ومن الذي يمول دعاوى الفوضى هذه الأيام لتأخير انتخابات البرلمان، وإثبات فشل النظام؟ ومن أين أتت كل هذه الأموال؟ ومن الذي يسعى إلى تخريب اقتصاد مصر بقطع الطرق، وإفشاء العصيان في أوساط العاطلين والمتبطلين، والعاملين المغيّبين؟ من المستفيد من انحسار السياحة وانقطاع وارداتها عن مصر؟ ألا يدرك المصريون أن إصلاح ما يتم إفساده الآن سيستغرق وقتا طويلا؟
الرد المنطقي الوحيد لديّ على هذه التساؤلات هو أن الموضوع كله مخطط له من جهات شيطانية، لا تبدو في الصورة أبدا، والمؤامرة على مصر تتضح خيوطها يوما بعد يوم، والهدف هو منع قادة مصر من أن يسعى أي منهم إلى إحداث النهضة التي حلُم بها السادات وقُتل حين شرع في تحقيقها، وذلك بإحداث الفرقة، وإذكاء نار الفتنة بين أفراد الشعب الواحد، ولا يفهم أحد ما يحدث، ولا كيف حدث ! وعندما تحتدم الفرقة وتعم الفوضى، ويطول أمد القلاقل والاضطرابات؛ ينشغل المصريون عن تحقيق حلمهم..
النهاية.. هل عرفت عزيزي القارئ الآن لماذا قُتل السادات؟ لأنه رحمه الله كان يريد بوطنيته الصادقة أن تكون مصر أيامه مثل سنغافورة الآن، وهل ستطبق نفس القاعدة التآمرية على الرئيس مرسي؟ ربنا يستر.. إسلمي يا مصر.