كان نص القانون أن "لمالك الشيء وحده حق استعماله واستغلاله والتصرف فيه"، وفي دعوى إزالة حائط تحدي المدعى عليه بنص القانون وأن له أن يفعل ما يشاء فيما يملك بعد أن بني حائطًا مرتفعًا لا لشيء سوى أن يحجب الشمس والهواء عن جاره، وجاء حكم المحكمة بإزالة الحائط وأن إطلاق كلمة "استغلاله" إنما كانت زلة قلم من المشرع، وقد عدل الشارع النص ليسبقه بكلمة "في حدود القانون"، والشاهد في المثل أن القضاء منوط به إنزال النصوص على الواقع وإن كان الأصل ألا اجتهاد مع صريح النص فإن العبرة بالمقاصد والمعاني وليست العبرة بالألفاظ والمباني، والوظيفة القضائية الأصل فيها إقامة العدل لا إقامة حروف النصوص. هكذا نجد القضاء في العالم كله حصنًا للشعب يعلي من إرادته ويفصل ضعفاءه عن أنياب أقويائه فيردع المتجبرين ويعاقب المجرمين ويفسح طريقًا للبنّائين والأحرار فيه. إن وصف القضاء في العالم الثالث عمومًا لا يلحق أعمالًا الغرض منها تمكين الأقوياء كرهًا عن الضعفاء بالمخالفة للقانون، وإن وصف القضاء لا يخلع على معركة يقاتل فيها أصحاب المصالح ابتغاء وقف الحراك الثوري مستغلين فيها منصة القضاء التي ألحقوا بها بعضًا منهم حماية لمصالحهم، إن وصف القضاء لا ينطبق أبدًا على أعمال مادية تتحدى إرادة الشعب وتهدم برلمانه وتعيق بناء مؤسساته خوفًا من أن تطال تلك المؤسسات بما تسنه من قوانين أموالًا نهبت أو أن تفتح ملفات علاها تراب الإهمال والتواطؤ، وإن وصف القضاة لا ينطبق أبدًا على من انتهزوا فرصة ضعف الرقابة الشعبية على أعمالهم التي استقلوا بها دون غيرهم ومنها انفرادهم بسلطة تعيين القضاة وعزلهم فقاموا بعزل الشعب كله وعينوا أبناءهم زحفًا مقدسًا منهم كما قال كبيرهم أو تطهيرًا للقضاء بذرياتهم الصالحة كما قال أوسطهم. يرى البعض في دول العالم الثالث أن القضاء قادر على تطهير نفسه وأغلب هؤلاء ينتمون إلى مؤسسة القضاء فيطغي تاريخهم المهني على فكرهم السياسي فإخوانهم وأصدقاؤهم وأبناؤهم وتلاميذهم قضاة، يعلق في ذهنهم تطهير القضاء أنه لا محالة سيطول هؤلاء بما يقصى أو يؤدب أو يعيق ترقية أحدهم خاصة من الأبناء الذين تبوءوا الدار القضائية دون أن يكون لديهم الحد الأدنى من مقومات المهنة الأكثر حساسية، وما يثير التعجب بحق أن يقدم هؤلاء فكرة التطهير الذاتي للقضاء على مصلحة الدولة العليا في إقامة مؤسساتها والخروج من ضائقتها الانتقالية فيرون الصبر على الأخطاء القضائية المتعمدة فضيلة تعلو في قيمتها على إرادة ثلاثة أرباع الشعب مثلًا عندما يتوجه هؤلاء لاختيار برلمان، وقيمة تسمو على نص دستوري يحصن التشريعات التي يخشى على رقابة دستوريتها من تغول أولئك الذين حلوه من قبل، وأغلب من يعتنقون تلك النظرية أي التطهير الذاتي مع مرور الوقت هم من الشيوخ الذين عاشوا عهود الاستبداد فلم تحرك فيهم سوى وقفة في أحد الشوارع ساعة أو ساعتين، فلم يزالوا يزهون بوقفتهم تلك على من قضوا ثلاثين عامًا في السجون أومن نفاهم الطاغية من الأرض، ويظن هؤلاء أنهم لمجرد جهرهم مرة أو مرتين بما يخالف رأي الحاكم يستحقون منّا احترامًا استثنائيًا على من سواهم من الذين خاضوا مع الخائضين ونهبوا مع الناهبين، فيمارسون الوصاية على الشعب الذي ثار وأقصى الطاغية بينما أقصى ما قاموا هم به كان "تشميسه" عادوا بعدها إلي بيوتهم آمنين مطمئنين بينما ذهب الآخرون إلى المعتقلات، وتصل وصايتهم أن يطلب أحدهم أن يصمت الجميع فلا يطالب أحد بتطهير القضاء لأن الأخير يتطهر ويتطهر بل ويطهر المتطهرين، ويقول آخر إن رئيسًا أخطأ عندما خلع أحد الفاسدين المفسدين ويقترح ثالث يومًا واحدًا من العودة دون أن يخبرنا من أين جاء بتلك "الإفتكاسات" وليست الأفكار طبعًا. في العالم الثالث برأت المحاكم كل القتلة واللصوص وأدانت بكل تبجح الشهداء والمنهوبين، في العالم الثالث هدمت المحاكم المؤسسات الدستورية وظاهرت الأعداء على هدمها، في العالم الثالث قامت السفارة الأمريكية بمخاطبة القضاة ومراسلتهم في بيوتهم من أجل الإفراج عن مواطنيها الذين مولوا عمليات التخريب واستجاب هؤلاء للمخاطبة والمراسلة، في عالمنا الثالث حكمت محكمة باطلاق يد اللصوص في أموالهم وحقهم في تصرفهم فيها بعد أن قامت ضدهم ثورة شعارها الأساسي العدالة الاجتماعية... في العالم الثالث وقف أحد زعماء القضاة ليسب من قال إنهم "خصومه" في مشهد ربما لم ولن يتكرر في التاريخ القضائي. إن الأحكام القضائية التي صدرت في المراحل الانتقالية بعد ثورات الدول النامية يجب أن تجمع ثم تدرس ثم يحاسب المسئولون عنها سياسيًا ومهنيًا متى ثبت تعمد الغش أو الانحراف بالتأويل إلى مدى واضح الانحياز فيه أو الامتناع عن الحكم بالقسط متى كان ذلك ممكنًا ولابد أن يُطرح عليهم سؤال قديم لم يتوقعوه في غمرة السطوة والقوة مضمونه "ما لكم كيف تحكمون؟". [email protected]