رئيس الأركان يشهد تنفيذ البيان العملى لإجراءات التأمين التخصصى بالجيش الثالث الميداني    كامل الوزير: مصر حققت طفرة في تطوير البنية التحتية بمختلف قطاعات النقل    كامل الوزير: انضمام مصر لبريكس يعبر عن دورها في منظومة التفاعلات الدولية    أخبار الأهلي: 3 مهام لكولر في الأهلي قبل مواجهة فاركو    هشام نصر: أعترف بالخطأ.. الزمالك كان مديونا بأكثر من 35 مليون جنيه لاتحادات الطائرة واليد والسلة    تاريخ مشاركات منتخب البرتغال في كأس الأمم الأوروبية    مترو الأنفاق يكشف حقيقة تعطيل سلالم الكهرباء بالمحطات لتخفيف الأحمال    12 يونيو، أولى جلسات محاكمة عصام صاصا بتهمة التسبب في وفاة شخص بالخطأ    جميلة عوض تستعد لحفل زفافها على المونتير أحمد حافظ وأنوشكا أول الحضور    تضامن الفيوم تنظم قافلة طبية لقرى مركز إطسا ضمن "حياة كريمة"    البنك الأهلي يطلق حملة ترويجية لاستقبال الحوالات الخارجية على بطاقة ميزة    مدرب تونس يكشف موقف الثنائي المصاب من مواجهة ناميبيا المقبلة    يلا كورة يكشف.. خطة الزمالك للصفقات.. أزمة القيد.. وموقف بنشرقي    تكريم أبطال نادى ذوى الاحتياجات الخاصة بأسوان    اعتماد مخططات مدينتى أجا والجمالية بالدقهلية    نقيب معلمي الإسماعيلية يناقش مع البحيري الملفات التي تهم المدرسين    زميل سفاح التجمع يكشف أسرارا عن رحلة عودته من أمريكا حتى شقة القاهرة الجديدة    الفريق أول محمد زكى يلتقى منسق مجلس الأمن القومى الأمريكى    بالصور.. تجهيزات جميلة عوض قبل حفل زفافها الليلة    أشرف زكي محذرًا الشباب: نقابة المهن التمثيلية لا تعترف ب ورش التمثيل    فصائل فلسطينية: استهدفنا مبنى يتحصن به عدد من جنود الاحتلال وأوقعناهم قتلى وجرحى    أبرزها عدم مس الشعر والبشرة| تعرف على آداب المضحي.. الإفتاء تكشف أمورا مهمة    على من يكون الحج فريضة كما أمرنا الدين؟    حج 2024 | أدعية يستقبل بها المؤمن شهر الحج    رئيس هيئة الدواء يستقبل وزير الصحة الناميبى    غرامة تصل إلى 10 ملايين جنيه في قانون الملكية الفكرية.. تعرف عليها    عطل مفاجئ يتسبب في انقطاع مياه الشرب عن بعض مراكز بالفيوم    هيئة الدواء تستعرض تجربتها الرائدة في مجال النشرات الإلكترونية    "أوهمت ضحاياها باستثمار أموالهم".. حبس المتهمة بالنصب والاحتيال في القاهرة    سوسن بدر تكشف أحداث مسلسل «أم الدنيا» الحلقة 1 و 2    وزير الخارجية يلتقى منسق البيت الأبيض لشئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا    أفشة وتصريحات «الشيخ حسني».. لماذا الخصام يا أهلي؟    جيش الاحتلال ينفي إعلان الحوثيين شن هجوم على ميناء حيفا الإسرائيلي    هل يحرم على المضحي الأخذ من شعره وأظافره؟.. الإفتاء تجيب    ما هو موعد عيد الاضحى 2024 الجزائر وفقا للحسابات الفلكية؟    " ثقافة سوهاج" يناقش تعزيز الهوية في الجمهورية الجديدة    نمو الناتج الصناعي الإسباني بواقع 0.8% في أبريل    تكبيرات عيد الأضحى 2024.. وطقوس ليلة العيد    للراغبين في الشراء.. تراجع أسعار المولدات الكهربائية في مصر 2024    الأقوى والأكثر جاذبية.. 3 أبراج تستطيع الاستحواذ على اهتمام الآخرين    التحقيق مع عاطل هتك عرض طفل في الهرم    فحص 889 حالة خلال قافلة طبية بقرية الفرجاني بمركز بني مزار في المنيا    إسبانيا تبدي رغبتها في الانضمام لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام «العدل الدولية»    أبوالغيط يتسلم أوراق اعتماد مندوب الصومال الجديد لدى جامعة الدول العربية    رئيس وزراء الهند للسيسي: نتطلع للعمل معكم لتحقيق مستويات غير مسبوقة في العلاقات    عضو بالبرلمان.. من هو وزير الزراعة في تشكيل الحكومة الجديد؟    رئيس الوفد فى ذكرى دخول العائلة المقدسة: مصر مهبط الديانات    تركي آل الشيخ: أتمنى جزء رابع من "ولاد رزق" ومستعدين لدعمه بشكل أكبر    مقابل وديعة دولاية.. مبادرة لتسهيل دخول الطلاب المصريين بالخارج الجامعات المصرية    كيفية تنظيف مكيف الهواء في المنزل لضمان أداء فعّال وصحة أفضل    جواب نهائي مع أشطر.. مراجعة شاملة لمادة الجيولوجيا للثانوية العامة الجزء الثاني    وزيرة الثقافة تشهد الاحتفال باليوم العالمي للبيئة في قصر الأمير طاز    توزيع درجات منهج الفيزياء للصف الثالث الثانوي 2024.. إليك أسئلة مهمة    نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية يتابع سير العمل بمشروعات مدينة أخميم الجديدة    البرلمان العربي: مسيرات الأعلام واقتحام المسجد الأقصى اعتداء سافر على الوضع التاريخي لمدينة القدس    مصر تتعاون مع مدغشقر في مجال الصناعات الدوائية.. و«الصحة»: نسعى لتبادل الخبرات    وزير الخارجية القبرصي: هناك تنسيق كبير بين مصر وقبرص بشأن الأزمة في غزة    ملف رياضة مصراوي.. تصريحات صلاح.. مؤتمر حسام حسن.. تشكيل منتخب مصر المتوقع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بدونها تغرق سفينة الأوطان .. الشعب يريد سيادة القانون

عندما تفشت الرشوة في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية‏,‏ تقدم أحد المستشارين إلي رئيس الوزراء ونستون تشرشل و أخبره الأمر فسأله: هل وصلت الرشوة إلي القضاء ؟‏ ورد عليه: لا.. فقال تشرشل: إذن بلدنا في أمان وبخير...ذلك أن القضاء هو كعبة العدالة, والقضاة هم سدنتها وحماتها الساهرون عليها, ومن القانون تستمد الدول شرعيتها,, وبسيادته تتقدم الأمم وترتقي الشعوب.. وفي مصر كان القضاء ضميرها الذي لايغفل, وحصنها المنيع من عواصف الظلم والاستبداد, وظلت طرقات مطرقة العدالة منبهة ومحذرة وغاضبة كلما اضطربت ماكينة الدولة, وانتهك الحاكمون حقوق الشعب..وسطر قضاتها صفحات حافلة في مقاومة الجبروت والفساد..ودعمت أحكام القضاء التعددية الحزبية بسماحها بإنشاء الأحزاب, وتنمية المجتمع المدني, وحافظت علي الممتلكات بملاحقة قضايا الانحراف المالي وإهدار المال العام من عمر أفندي إلي توشكي والغاز إلي إسرائيل... وحينما حصحص الحق كان رجال القضاة أول من بادر بالوقفات الاحتجاجية, التي أطلقت شرارة ثورة يناير.. وفي حين يصارع القضاء الشامخ لإصدار قانون جديد يضمن استقلاله تفجر في وجهه لغم قضية التمويل الأجنبي لبعض منظمات المجتمع المدني وسفر المتهمين الأمريكيين بطريقة أوحت بتدخل في أعمال القضاء, بعدما زج به في أتون قضية سياسية لها حساباتها, مما يستوجب استحضار تشخيص المستشار يحيي الرفاعي لأوضاع القضاء بمصر, وتقديم قراءة مكملة له, تضعه في مدار تاريخي- بعيدا عن شطط الجهل وعتب المحبين- إجلالا ودفاعا عن القضاء المصري قدس أقداسنا, وإعلاء لسيادة القانون التي بدونها تصبح البلاد مثل سفينة اختطفها قرصان وأخذ ركابها رهينة ودروعا بشرية, في بحر الظلمات..
لقب شيخ القضاة المصريين والعرب المستشار يحيي الرفاعي بالضمير الثائر, فهو الرجل الذي قال لا لرؤساء مصر الثلاثة.. أبرز أبطال مذبحة القضاء في عهد جمال عبدالناصر, وأول من طعن علي قرار عزله, وعارض أنورالسادات في قانون العيب فحرمه السادات من دخول محكمة النقض.وأصر علي مواجهة حسني مبارك بضرورة إلغاء قانون الطوارئ, في مؤتمر العدالة الأول, برغم أن مبارك طلب منه التغاضي عن هذا القانون, فتعرض لمحاولات الاغتيال الجسدي والمعنوي مرات, ودفع الثمن باهظا وبشجاعة نادرة.. حتي لقي ربه, دون أن يتراجع عن مواقفه ومطالباته, وأهمها إصلاح واستقلال القضاء المصري عن هيمنة الحاكم, ونفوذ السلطة التنفيذية, كمدخل لإصلاح المجتمع والحفاظ علي إنسانيته, فقدكان يؤمن أن القضاء ليس مستقلا وأن ثمة عدوانا تم عليه, وأن أمن النظام الأعظم في تقويض سلطة القضاء.
عندما طفح الكيل
فمنذ عشر سنوات تقريبا, طفح الكيل بالمستشار يحيي الرفاعي قائد تيار استقلال القضاء, فبعث برسالة إلي نقابة المحامين ونادي القضاة, كانت حروفها قطعا من الجمر يقبض عليها بيديه.. وهو وإن بدا متسربلا بالوقار فإنه عبر- بحسم لا لبس فيه- عن الخطر الجسيم الذي تتعرض له الأمة, نتيجة ما وصل إليه القضاء, ملاذ الحريات وموئلها, من ترد وهوان وخضوع للسلطة التنفيذية, استنادا إلي نصوص في قانون السلطة مشكوك في دستوريتها ومشروعيتها, تبيح للسلطة التنفيذية التدخل في صميم أعمال السلطة القضائية.. ويضع الرفاعي, الفقيه القانوني الأول, يده علي مواطن الخلل بالقول: إن حكومات مصر المتعاقبة وإن وضعت في دساتيرها نصوصا أساسية لمبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء وحصانته وتحظر التدخل في شئونه, فإن هذه الحكومات هي نفسها لم تتوقف يوما عن تجريد هذه القوانين من مضمونها تماما, بل وتخالفها صراحة لحساب السلطة التنفيذية التي سيطرت تماما علي القضاء وضربت استقلاله وقواعده وضمانته وذلك من خلال وزارة العدل- وهي أحد فروع السلطة التنفيذية- تسيطر بها علي إرادة رجال السلطة القضائية وشئونهم, بل وأحكامهم القضائية..فما قيمة نصوص الدستور والقانون والحقوق والحريات إذا لم يقم علي تطبيق هذه النصوص قضاة مستقلون ومحامون أحرار ؟!.
وبكل ألم ومرارة ينبه المستشار الرفاعي إلي أن ثقة العامة في القضاء والقضاة قد اهتزت خاصة حين يتم تعيين بعضهم محافظين.. وحينما يلتزم القضاة بضرورة عرض الدعاوي المهمة المنظورة أمامهم علي رئيس المحكمة للتشاور معه فور حجز الدعوي للحكم, وقبل المداولة فيها,بما ينطوي عليه من إثم جنائي وقضائي تنص عليه أحكام الدستور والقانون..بالإضافة إلي اعتياد بعض وزراء العدل التردد علي بعض المحاكم وبرفقتهم رئيس أعلي المحاكم المصرية وغيره من كبار رجال القضاء, حيث يستقبلون بالزغاريد فينثر الوزير المكافآت بسخاء, دون أن يكون لهذا العبث أي أصل من شيم قضاء مصر وقضاتها ولا من تقاليدهم في يوم من الأيام..ومن ذلك أيضا تطبيقات عملية من العمل العام تم الضرب فيها عرض الحائط بالضمانات التشريعية التي تحول دون تحكم السلطة التنفيذية من خلال وزارة العدل في مرتباتهم ومخصصاتهم بالتقتير حينا وبالتفريط أو الإفراط أحيانا- حتي أفسدت النظام المالي الخاص بهم, وبمجلس قضائهم الأعلي نفسه(!) وأطلقت يدها في التمييز بينهم, وبما يفتح الباب لاحتوائهم ومصادرة إرادتهم, خاصة من خلال بدعة مكاتب المتابعة, بل لقد بلغ الأمر في ذلك إلي حد احتفاظ الوزارة بدفتر شيكات رسمي تصرف منه بإرادتها المنفردة أي مبلغ لمن تشاء من رجال القضاء, دون أيه قواعد أو رقابة ولا مساءلة ولاحساب!..بل لقد عادت الوزارة لما كانت تجري عليه في مستهل القرن الماضي, إبان سيطرة الانجليز عليها لضمان مصالحهم من إصدار التعليمات والمنشورات لرجال القضاء!حتي إنها أفردت أحد هذه المنشورات للتنبيه علي رؤساء المحاكم والقضاة بموافاتها بصور من صحف الدعاوي المدنية والجنائية التي ترفع علي شخصيات هامة مسئولة_ فور تقديمها_ ولم يزل هذا المنشور معمولا به في المحاكم جميعها حتي اليوم, علي نحو يترك أثره الطبيعي علي إرادة القضاة عند الفصل في هذه القضايا!!.. وانتهي المستشار يحيي الرفاعي في رسالته( شهادته) إلي نتيجة مفادها أنه قدانعدمت في نظر الناس قاطبة كافة ضمانات المساواة بين المواطنين أمام القانون والقضاء, وهو ما انتهي إلي ضياع سمعة القضاء المصري في نظر العالم أجمع حتي صرنا مضغة في الأفواه.
ديجول والقضاء
من الصحيح الإشارة إلي أن التدهور و التردي لحقا بكل مرافق الحياة في مصر في العهد السابق, لكن التردي في مرافق الحياة العامة شيء والتردي في السلطة القضائية شيء آخر..إذ عندما دخل ديجول فرنسا, عقب تحريرها من الغزو النازي, سأل صديقه أندريه مارلو: كيف حال القضاء؟ فأجابه: إنه مازال ببعض الخير. هنا قال ديجول: إذن نستطيع أن نبني فرنسا من جديد..لأجل ذلك تبدو أهمية كلمات المستشار الرفاعي الذي كان مشغولا حتي النخاع باستقلال القضاء, وأراد بها إبراء ذمته أمام الله والتاريخ والوطن,لفرط شعوره بالظلم الفادح والخطر الماحق علي مصر ومستقبلها ونظام الحكم فيها, في ظل تغول السلطة التنفيذية علي القضائية وما نجم عنه من فساد هائل في الواقع العملي طال كل ذرة رمل في بلادنا... وأدي استبداد سلطة نظام مبارك وغلوه في تأكيد هيمنته إلي تضعضع سيادة القانون والعدالة وحقوق الإنسان, وولدت الإجراءات الاستثنائية سيئة الذكر-كحالة الطوارئ- أوضاعا مجتمعية شاذة, أطاحت بأبسط مرتكزات الدولة, وصار العنف طابعا تجاه المواطنين من رجال الشرطة, بوصفهم الجهاز التنفيذي لسياسات وبرامج الدولة البوليسية التسلطية, وهو عنف لم يسلم منه بعض رموز القضاء والعدالة, مما خلع قوة ديناصورية هائلة علي صورة الشرطة في وعي المواطنين, بوصفها أداة في يد الحاكم, لا في خدمة الشعب, وصار للأمر أبعاد دولية مخجلة, عندما وظفت خبرات التعذيب والاحتجاز دون محاكمة لحساب الولايات المتحدة, علي عدد من معتقلي جوانتانامو, وهو جانب مظلم وعنف زائد تسرب إلي مناحي الحياة في المجتمع علي نحو مأساوي, يضرب صميم العقد الاجتماعي الذي تلتزم به الدولة إزاء مواطنيها,مع تراجع حضور العدالة واستقلالها, حتي صار عنف السلطة التنفيذية حاضرا بقوة في ذاكرة المصريين ووعيهم, وهذا ما قد يفسر العدوان علي مراكز وأقسام الشرطة أثناء ثورة25 يناير وبعدها.
إن تلطيخ ثوب العدالة والتعدي علي استقلال القضاء هما مصدر الشرور كلها,بحسب كلمات يحيي الرفاعي, وهي كلمات تملك قوة فكرية فياضة-تذكر بأسفار الحكمة عند قدماء المصريين المعروفة بمتون الأهرام أو مقولات حمورابي الخالدة- وتمنحنا آفاقا جديدة, وتفتح عيوننا علي وقائع مفزعة من حولنا, ننظر إليها ولا نراها, خاصة أن مصر بقيادة مبارك صارت دولة رخوة, إذا استعرنا تعبير الدكتور جلال أمين..وقد اعتبر المفكر السويدي البارز جنار ميردال أن الدولة الرخوة هي سر البلاء الأعظم وسر استمرار الفقر والتخلف, وأوضح سمات هذه الدولة أنها دولة تصدر القوانين ولا تطبقها, ليس فقط لما فيها من ثغرات, لكن لأنه لا أحد يحترم القانون: الكبار لا يبالون به لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه, والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر عنه.. كل شيء معروض للبيع, بدءا من الإمضاءات والرخص إلي ضمائر المسئولين والمناصب ومقاعد البرلمان, حتي أصبح الفساد نمط حياة في مصر..
تقنين الفساد وصفر المونديال
ولأن القانون تم تغييبه, عن طريق تقنين الفساد,صار كل شيء مباحا ونهبت شركات توظيف الأموال مدخرات الناس وأحلامهم برعاية الدولة وتشجيعها, وتجاوز الفساد في المحليات الأنوف, وانهارت العمارات بساكنيها وانتشرت العشوائيات وسادت أخلاقياتها في كل ركن, وشفط الكبار أموال البنوك وهربوا بها, وبينما تحيز النظام للأغنياء في كل ميدان, وقع50% من الشعب تحت خط الفقر لا يجد خدمات آدمية من تعليم وصحة, واستطالت طوابير الخبز وأنابيب البوتاجاز, وصار لها شهداء, مع الأغذية الفاسدة المستوردة, وغسلت دماء الضحايا الأسفلت, وابتلع البحر الأحمر السفن بركابها من الفقراء, واحترقت قطارات الصعيد, وسقط جبل الدويقة علي من احتموا به,واضطر البعض إلي بيع أعضائهم لأثرياء الخليج, وصارت أرض الكنانة بؤرة ساخنة لأنواع الاتجار في البشر ومعبرا عالميا لها, ودخلنا التاريخ بفضيحة دولية مدوية بالحصول علي صفر المونديال, علي نحو يلخص المشهد برمته... ولم يكتف الحاكم بما جري إنما شرع في تحويل البلاد والعباد إلي تركة يورثها ابنه من بعده, في استهتار فج بروح العدالة والقوانين والدساتير في دولة يفترض أنها جمهورية, بعد أن أصبحت دولة بالغة الرخاوة والهشاشة, تعاني الإذلال خارجيا والتدهور داخليا, وهو وضع كان يستحيل استمراره والسكوت عليه, فهب المصريون صبيحة25 يناير2011 رافعين شعار عيش.حرية.عدالة اجتماعية.
طريق الهلاك
هذ الشعار علي الرغم من بساطته يستحضر نظرية الدولة عند أفلاطون, في الجمهورية التي تبلغ ذروتها عند تصوير فكرة العدالة.. وهي فضيلة عامة وخاصة, لأنها تحفظ الخير الأسمي للدولة ولأعضائها علي السواء. معني ذلك أن السلطة التنفيذية حينما تضيع هيبة القضاء, فإنها تمارس بذلك نوعا من إرهاب الدولة علي مواطنيها.وكم أفضي ذلك مرارا وتكرارا إلي اندثار عروش وتدحرج تيجان وضياع أوطان علي مر التاريخ الإنساني... ولو أنعمنا النظر إلي سير الأنبياء المعصومين من البشر لأدركنا مدي تمسكهم بالشرائع أي القوانين, وفي ذلك يقول تعالي:وأرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.., فهم لا ينطقون عن الهوي,وفكرة العدالة والمساواة هي إحدي المثل العليا في جميع الأديان( الشرائع) والدساتير السياسية والأخلاقية, علي نحو ما حفلت به الكتب السماوية, وقد حذر الرسول صلي الله عليه وسلم بشدة من اختلال ميزان العدالة بين الناس بوصفه طريقا لهلاك الأمم, بقوله:.. إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.. وخلص أرسطو إلي أنه حتي أكثر الحكام رشدا لا يمكنه أن يستغني عن القانون, لأن في القانون صفة موضوعية وطابعا مجردا, مما لا يمكن توافره لأي إنسان مهما يكن فاضلا, فالقانون هو العقل المجرد عن الهوي, بل إن ميكيافيللي قال إنه من القانون تنشأ الفضيلة والمدنية..لذا اهتم الفقهاء بالقضاء اهتماما فاق ما عداه, وجعل بعضهم من القاضي بمنزلة الأنبياء حيث قال الإمام علي لشريح القاضي:يا شريح قد جلست مجلسا ما جلسه إلا نبي أو وصي نبي, كما منحوه صلاحيات لم تكن تعطي للحاكم الخليفة,و نهي الرسول الاكرم عن التدخل في شئون القضاء بقوله:من أعان علي خصومة بظلم, فقد باء بغضب من الله, وأفاض فقهاء الشريعة في وضع أحكام تنظم العلاقة بين القضاة وولاة الأمور, بما يضمن استقلال القضاء نظريا وعمليا,واشترط الماوردي والفارابي وابن الربيع في الحاكم أن يكون عادلا ويراعي ضميره, وألا يميل مع الهوي... ووقف الإمام علي أمام القضاء مع اليهودي في قضية الدرع وهو الخليفة..وجعل الخليفة عمر رضي الله عنه القضاة فوق الولاة, ويذكر التاريخ أن القاضي ابن عين الدولة رفض شهادة الملك الكامل في شأن يخص جاريته عجيبة والأمثلة عديدة, وهذا لا يتعارض مع الرقابة علي القاضي وضمان عدله وأمانته في عمله, وقد لخص العلامة الدكتورالسنهوري الأمر بتأكيد أن الحكم الصالح لا تتلمسه فلسفة الإغريق في الحكم المطلق للفيلسوف, ولكن تنشده في مبدأ سيادة القانون.
وإذا وضعنا مقولة السنهوري ورسالة الرفاعي, بجوار تصريح الدكتور البرادعي-عقب سفر المتهمين الأمريكيين في قضية التمويل الأجنبي, ونحن هنا لانناقش القضية في ذاتها- أن مصر صارت إحدي جمهوريات الموز لأدركنا أننا نحيا في عالم مملوء بالعوائق, وأن المجازفة حاضرة تهز قدس أقداسنا, قضاءنا وصورته, لاسيما بعد أن تساءلت صحيفة واشنطن بوست أخيرا:ماذا يحدث للقضاء المصري, وهو تساؤل لا تخفي دلالاته ومراميه,و يكلف الوطن من أمره رهقا,في وقت نحاكم فيه رموز النظام السابق, إذ كيف تكون ردة فعل المصريين بعد ما جري..
الفصل بين السلطات
لقد حفر رجال العدالة ورموزها بمصر مكانة القضاء بأحرف من نور علي جبين التاريخ, بعدلهم وحكمتهم ودفاعهم عن استقلاله الذي هو محضن استقلال الوطن نفسه, أمثال مصطفي كامل وسعد زغلول وعبدالعزيز فهمي ومكرم عبيد... والسنهوري ويحيي الرفاعي ومصطفي مرعي والبشري والخضيري ومكي والبسطاويسي, ونهي الزيني وتهاني الجبالي وغيرهم.. تاريخ قضائي ناصع صار اليوم مهددا,باعتراف المستشار حسام الغرياني رئيس مجلس القضاء الأعلي ورئيس محكمة النقض, أن قضاة مصر مستقلون, لكن القضاء ليس كذلك, وأن اختيار رؤساء المحاكم الابتدائية كان يتم بشكل يثير الريبة والشك, وبعض رؤساء المحاكم يتدخلون في سير بعض القضايا..هنا يتردد صدي كلمات المستشار الرفاعي بضرورة استقلال القضاء, عن طريق الفصل بين السلطات دون قطع وشائج التعاون بينها, إذ إن الفصل بين السلطات هو المظهر الأبرز للدستور, بتعبير مونتسكيو..أيضا تقرر المادة8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق كل إنسان في اللجوء إلي المحاكم الوطنية المختصة لإنصافه الفعلي من أي أعمال تنتهك الحقوق الأساسية التي يمنحها علي قدم المساواة مع الآخرين, وأن تنظر قضيته في محكمة مستقلة ومحايدة, أما العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية فقد نص في مادته الرابعة عشر علي مبدأ حيدة واستقلال القضاء, وكذلك فعلت المبادئ الأساسية بشأن استقلال القضاء الصادرة عن الأمم المتحدة عام1985 م, التي تعتبر الميثاق أو المرجع الدولي بشأن استقلال القضاء, حيث نصت في البند الأول( تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية), فأصبح مبدأ استقلال القضاء مبدأ دوليا مهما يشكل التزاما علي الدول كافة, وتقره دساتيرها, بوصفه رمانة الميزان في التطور السياسي والدستوري لشعوب العالم.
ويتطلب وجود استقلال حقيقي للقضاء, بجميع أشكاله, توافر ثلاثة أمور- كحد أدني- أولها مبدأ الفصل بين السلطات وثانيها مبدأ عدم عزل القضاة, وثالثها الاستقلال الفني والمالي والإداري, ولا يتعلق هذا المبدأ بأحوال القضاء فحسب, وإنما بكينونة المجتمع, وهو مبدأ يعتمد أساسا علي أعمال تتعاضد السلطات علي إنجازها, سواء كانت سلطة تشريعية او قضائية او تنفيذية,ضمن منظومة واحدة تسمي الدولة, ولا يمكن تصور عمل سلطة دون وجود الأخري... ومن المثير حقا أن جميع الدساتير المصرية منذ1923 أوردت بندين خاصين باستقلال القضاء وبعدم جواز عزل القضاة, وأكد دستور71 في المادتين64-72 أن سيادة القانون أساس الحكم, وأن الدولة تخضع للقانون, وأن استقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات. وبرغم هذه النصوص الدستورية فقد عاني القضاء والقضاة تجاوزات بغيضة,علي يد الحكومات المتعاقبة, من عبدالناصر إلي مبارك, مرورا بالسادات,وقد كانت النتائج كارثية علي الوطن والمواطن, لأن القضاء لا يعيش في برج عاجي بمعزل عن تطور بقية السلطات في المجتمع, ولعل الفرصة مهيأة اليوم, ونحن نكتب دستورا جديدا يرسم ملامح المستقبل في بلادنا,لوضع مشروع قانون شامل لتوحيد السلطة القضائية, وتحقيق استقلالها المالي والإداري المستحق, وتنظيم دور القضاء في الإشراف علي نزاهة الانتخابات العامة وضمان صحة نتائجها في التعبير عن إرادة الناخبين, فالويل لمجتمع لا يوفر لقضاته ضرورات العيش الكريم, فتشغلهم عن واجبهم المقدس أمور مادية لامفر أن تحرف بعضهم عن طريق العدالة السوية..
الحصن الأخير
إن القضاء هو حصن الأمة, هو آخر حصن ينهار في أي دولة, وعندما يتصدع أو يوشك علي السقوط فإن كل الحصون الأخري تكون قد سقطت قبله..التعليم والإعلام والثقافة والتجارة والصناعة والتجارة والجيش والشرطة ونظام الحكم نفسه.. كلها قلاع تسقط قبل القضاء,فإذا تداعي صرح القضاء لا يتبقي من نظام الحكم سوي ديكتاتور يسوس بلاده بالحديد والنار والقوانين المصطنعة,مثل قرصان اختطف سفينة و أخذ ركابها رهينة ودروعا بشرية.. لأجل ذلك قدم المستشار يحيي الرفاعي بلاغا احتجاجيا ضد كل ما اعتبره أعوج في سجل العدل وضمن رسالته مقترحات للعلاج, وأبرأ ذمته وذهب إلي ربه راضيا مرضيا.. وبعد عقد من الزمان لم يتحرك شيء في بحيرتنا الراكدة, ومازالت دماء العدالة نازفة من حولنا, تستصرخنا لتكريس الشرعية الدستورية, ودولة سيادة القانون, والمؤسسات,في سعينا لإرساء نظام ديمقراطيالهيبةفيه للقانون وحده, بوصفه ملزما لكل الأطراف حكاما ومحكومين, عن طريق تأكيد استقلال القضاء وحصانة الأسرة القضائية, لأنه الصراط المضمون للمواطن في الحفاظ علي وجوده وكينونته وأسرته, ومن ثم الحفاظ علي الدولة برمتها,حاضرا ومستقبلا...ويحيا العدل!!
رئيس نادي القضاة:
السياسة خطر علي القضاء
استشعر المستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة المسئولية والحرص علي صورة القضاء والقضاة, فأدلي بتصريحات حاول من خلالها طمأنة الرأي العام علي توافق قضاة مصر حول مشروع تعديل قانون السلطة القضائية واستقلال القضاء, في معظم مواده المطروحة بين مشروعي مجلس القضاء الأعلي والمشروع المقدم من أندية القضاة, عدا ثلاث مواد من مجموع180 مادة, وهي التي تدور حول تنظيم رئاسة مجلس القضاء الأعلي وتعيين النائب العام وتعيين رؤساء المحاكم الابتدائية..وعن الغضب العام الذي ترافق مع قضية التمويل الأجنبي والضجة التي أحاطت بها حول استقلالية القضاء, قال الزند: إن بيانات أندية القضاة, وبيان نادي قضاة مصر التي صدرت عقب واقعة قضية التمويل الأجنبي طالبت كلها بالتحقيق وكشف الملابسات التي أحاطت بالإجراءات القانونية التي تمت, حيث إن المجلس الأعلي للقضاء هو المنوط به إصدار التحقيقات وكشف الحقائق, وأن القضاة جميعهم متوافقون علي محاسبة المخطئ من خلال القانون.. ولم ينس المستشار الزند مطالبة الإعلام بتوخي الدقة و المهنية في التعامل مع قضايا القضاة, للحفاظ علي هيبة ووحدة القضاء كأساس لمبدأ سيادة القانون والعدالة دون أن تفوته الإشارة إلي أن القضاة ليسوا سياسيين, وأنهم لا يقايضون بقضائهم وبالمنصة, بقوله إن السياسة لها أربابها ولها رجالها, ولو تركنا القضاة للسياسة فلن نصبح قضاة أو سياسيين, وأن خضوع القضاء لما يسمي بالمواءمات والتوازنات السياسية أمر بالغ الخطورة, لما يمثله من انتقاص لهيبة القضاء واستقلاله وتقويض لدعائمه.
رئيس مجلس القضاء الأعلي:
القضاء يطهر ذاته في سرية
عرف المستشار حسام الغرياني, رئيس مجلس القضاء الأعلي ورئيس محكمة النقض, بتاريخه الطويل ومواقفه القوية تجاه أي تدخل في الشأن القضائي من جانب السلطة التنفيذية, أو محاولة النيل من استقلال القضاء أو كرامة القضاة,.. وقد بعثالقاضي الغرياني كما يحب أن يلقب- برسالة إلي الدكتور سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب, قبل نحو شهر, أوضح فيها أن القضاء المصري يباشر عملية التطهير الذاتي في سرية تامة للعناصر الفاسدة دون الإعلان عن ذلك. وأكد الغرياني صاحب أول وقفة احتجاجية قبل الثورة- في رسالته أن استقلال القضاء أمر بات حتميا, وأن هناك حاجة ملحة له لتسير قاطرة الإصلاح في جميع المجالات. وعلي رأس المهام التي ينشغل بها مجلس القضاء الأعلي تدشين قانون السلطة القضائية بالتعاون مع نادي القضاةالقضاء الجالس ونقابة المحامين القضاء الواقف, بحيث يسد الثغرات التي تخترق منها السلطة التنفيذية السلطة القضائية, ومن أهمها تبعية التفتيش لوزير العدل وتعيين النائب العام و رؤساء المحاكم وعدم استقلال المجلس الأعلي للقضاء بشئون القضاء كاملة و ندب القضاة للسلطة التنفيذية, ويلي ذلك إيجاد آلية لتنفيذ الأحكام و القرارات القضائية باستحداث شرطة قضائية لهذا الغرض, حتي لا تصير الأحكام و القرارات مجرد حبر علي ورق, كذلك زيادة عدد القضاة, لتقصير زمن التقاضي, حفاظا علي الدقة في الأحكام, وسرعة الوصول إلي حكم نهائي وبات واجب النفاذ, و من ثم تتحقق العدالة الناجزة, علي نحو ما أوضحت رسالة المستشار يحيي الرفاعي, من قبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.