لأول مرة في تاريخ التنسيق، كلية الطب تفتح أبوابها لطلاب المرحلة الثالثة لهذا السبب    محافظة الشرقية توزع مياه باردة وعصائر على عمال النظافة ( صور)    قطع مياه الشرب عن مدينة ديرمواس بالمنيا غدا لمدة 6 ساعات    كامل الوزير: عمل على مدار الساعة لتحقيق مستوى نظافة متميز بالقطارات والمحطات    613 شهيدا وجريحا جراء العدوان الإسرائيلي على غزة خلال 24 ساعة    محافظ الشرقية ينعى على المصيلحى: نموذج للمسؤول الوطنى ورمز للإخلاص    الصحف العالمية: ترامب ينشر قوات الحرس الوطنى فى واشنطن ويدرس إعادة تصنيف الماريجوانا..8 دول أوروبية تتحرك ضد إسرائيل ببيان يرفض احتلال غزة..تراجع التوظيف والمكافآت ونمو الأجور بعد تباطؤ سوق العمل فى بريطانيا    على أنغام السمسمية، احتفال جماهير الإسماعيلي بانعقاد عمومية سحب الثقة من مجلس الإدارة (فيديو وصور)    استبعاد دوناروما، الإعلان عن قائمة باريس سان جيرمان للسوبر الأوروبي    خاص| وسام أبوعلي يستخرج تأشيرة العمل في أمريكا تمهيدا للانضمام إلى كولومبوس كرو (صورة)    تعليم الدقهلية ضمن قائمة أفضل 7 مشاريع بالمؤتمر الدولي الخامس للاتصالات    بدء استئناف المتهم بقتل نجل مالك مقهى أسوان على حكم إعدامه    أمين مجمع الفقه الإسلامي: نصرة شعب غزة فريضة مقدَّسة في كل الأديان    في الموجة الحارة، الصحة توضح الفرق بين الإجهاد الحراري وضربة الشمس    «تعليم كفر الشيخ» تعلن النزول بسن القبول برياض الأطفال ل3 سنوات ونصف    تعيين الدكتور أشرف مهران عميدًا لكلية الهندسة بجامعة مصر للمعلوماتية    «العمل» تجري اختبارات للمرشحين لوظائف الأردن بمطاحن الدقيق    القوات الروسية تستهدف المجمع الصناعي العسكري ومراكز تصنيع المُسيرات الأوكرانية    المكتب الإعلامي الحكومي في غزة يفند أكاذيب الاحتلال حول سياسة التجويع في القطاع    خبراء: أوكرانيا تحولت إلى مختبر حربي للصين لاختبار أسلحة وخطط المواجهة مع أمريكا في المستقبل    25 أغسطس الحالي.. ترامب يستضيف رئيس كوريا الجنوبية لبحث تفاصيل اتفاقهما التجاري    الأمم المتحدة: أكثر من 100 طفل يموتون جوعا في غزة    "الصحة" و"الأكاديمية الوطنية" تبحثان تعزيز البرامج التدريبية للقطاع الصحي    اليوم.. إعلان نتيجة انتخابات مجلس الشيوخ 2025    معامل ومكتبة مركزية.. جامعة أسيوط الأهلية تستعد لاستقبال الطلاب الجدد - صور    حمادة صدقي: أحمد حسن زعل من انضمام حسام حسن لفراعنة 2006 بسبب شارة الكابتن    قبل رونالدو.. ما هي حكاية صديق جورجينا الأول؟    منتخب مصر الثانى يواجه البحرين مرتين وديا فى أكتوبر المقبل رسميا    رسميًا.. باريس سان جيرمان يتعاقد مع مدافع بورنموث    فيريرا ينصح عواد بالانتظار للحصول على فرصة المشاركة مع الزمالك    خريطة الأسعار اليوم: انخفاض الدواجن واللحوم والذهب    بالفيديو.. التنمية المحلية: تعليمات بمراجعة معايير السلامة داخل منظومة النظافة    الأرصاد: تأثر البلاد بكتل هوائية شديدة الحرارة.. وذروة الموجة الخميس المُقبل    الدقهلية تبدأ مهرجان جمصة الصيفي الأول 2025 للترويج للسياحة وجذب الاستثمار    مصدر يكشف لمصراوي أعداد السودانيين العائدين عبر قطارات السكة الحديد    حملات موسعة لهيئة البترول للتصدي لمخالفات تداول وتوزيع المنتجات البترولية    مصرع طفل غرقا في ترعة باروط ببني سويف    وزير الصحة يبحث مع المرشحة لمنصب سفيرة مصر لدى السويد ولاتفيا التعاون الصحى    الجمعة.. فرقة واما تحيي حفلا غنائيا في رأس الحكمة بالساحل الشمالي    الجمعة.. قصور الثقافة تقيم فعاليات متنوعة للأطفال بنادي الري احتفالا بوفاء النيل    أمير كرارة على القمة.. فيلم الشاطر يقفز بإيراداته إلى 75.2 مليون جنيه في 26 ليلة    محافظ الجيزة يترأس اجتماع اللجنة التيسيرية لمشروع تطوير منطقة الكيت كات    افتتاح فعاليات الدورة السادسة من معرض رأس البر للكتاب    محمد نور: مقياس النجاح في الشارع أهم من لقب «نمبر وان» | خاص    «محمد رمضان»: أي حد لو زعلته بقصد أو من غير قصد يتفلق    لليوم ال12.. التموين تستكمل صرف مقررات أغسطس    «لا مجال لأي تقصير».. محافظ الدقهلية يحيل المدير الإداري بمستشفى الجلدية والجذام للتحقيق    تحرير 131 مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار مجلس الوزراء بالغلق    هل يجب قضاء الصلوات الفائتة خلال الحيض؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    إنقاذ رضيعة من قيلة سحائية وعيوب قلبية بمستشفى حورس بالأقصر    أمين الفتوى: "المعاشرة بالمعروف" قيمة إسلامية جامعة تشمل كل العلاقات الإنسانية    أول هبوط في سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن اليوم الثلاثاء 12-8-2025 صباحًا    لجان ميدانية لمتابعة منظومة العمل بالوحدات الصحية ورصد المعوقات بالإسكندرية (صور)    تنسيق المرحلة الثالثة، الأماكن الشاغرة للشعبة الأدبية (نظام حديث)    العظمي 38.. طقس شديد الحرارة ورطوبة مرتفعة في شمال سيناء    مواقيت الصلاة في أسوان اليوم الثلاثاء 12أغسطس 2025    أجمل عبارات تهنئة بالمولد النبوي الشريف للأهل والأصدقاء    أنا مريضة ينفع آخد فلوس من وراء أهلي؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوباما: "التمثال الجميل" يتساقَط...
نشر في المصريون يوم 18 - 11 - 2009

يستطيع الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن ينتشِي بأول نصْر مُبين يحقِّقه منذ دخوله البيت الأبيض قبل نحو السنة، بعد أن أقرّ مجلس النواب يوم السبت 7 نوفمبر 2009، خُططه لإصلاح القطاع الصحي.
بيد أن هذه النشوة على مشروعيتها، يجب أن تكون محدودة ومتواضعة لسببيْن متلازميْن: الأول، أن هذه السنة شهِدت تآكل اندفاعة الرئيس الجديد في مجال السياسة الخارجية.
والثاني، أن انجازاته الداخلية قد تُثبِت بعد حين أنها أقرب إلى فقّاعات الصابون منها إلى مداميك إعادة البناء الصّلدة. لنقم معاً أولاً بجولة حول مُعطيات السبب الأول.
رئيس الحرب
حين حصل أوباما الشهر الماضي على جائزة نوبل للسلام، لا أحد تقريباً في أوروبا نفى الحقيقة بأنه كانت ثمّة اعتبارات سياسية وراء هذه الخطوة. فرئيس اللجنة الأوروبية، جوزيه مانويل باراسو على سبيل المثال، قال إن الخطوة "كانت تحية أوروبية إلى رئيس أمريكي، أعلى من شأن قِيم السلام وتقدّم الإنسانية".
و"فاينانشال تايمز" قالت، إن أوروبا (جائزة نوبل أوروبية من الألف إلى الياء)، أرادت مكافأة أوباما "فقط لأنه ليس جورج بوش الانفرادي". وحتى ثور بوغورن، رئيس لجنة نوبل نفسه، أكّد أن الهدف من القرار كان تشجيع أوباما على المُضي قُدماً في الدبلوماسية التعدّدية الدولية وحظر الأسلحة النووية ومتابعة سياسة اليَد الممدودة مع العالم الإسلامي.
الجائزة إذن، مُحت لِما يمكن (أو يجب) على الرئيس الأمريكي أن يفعل، لا على ما فعل، وهذا أمر شبّهه البعض بمكافأة الأطفال مُسبَقاً لتشجيعهم على الأداء أو بالتصفيق التشجيعي لرياضِي ما، حتى قبل بدء المباريات.
وهذا صحيح بالطبع. فأوباما موجود في البيت الأبيض منذ نحو 300 يوم، وحتى الآن، لم يُحقِّق أي سلام يُذكَر في السياسة الخارجية: لا في فلسطين ولا في إيران ومنطقة الخليج ولا حتى في سري لانكا. والأسوأ من ذلك، أن الرئيس الأمريكي الشاب، سيتّخذ خلال الأسبوعيْن المقبليْن على الأرجُح،قراراً بتوسيع نِطاق الحرب في أفغانستان (وإن ليس إلى الدرجة التي يطلبها الجمهوريون والعسكر)، الأمر الذي سيثير التساؤلات حول معنى سياسة اليَد الممدودة للعالم الإسلامي، فيما أمريكا غاطسة حتى أذُنيْها في حربيْن مع بلدين إسلاميين (العراق وأفغانستان).
على أي حال، كان الرئيس الأمريكي حريصاً حين تلقّى نبأ منحِه الجائزة، على التوضيح بأن تعيينه بطل سلام في أوسلو، لن يمنعه من أن يكون رئيس حرب في واشنطن، حيث قال: "حتى عندما نسعى إلى عالم تحل فيه النزاعات سِلمياً ويشارك فيه الناس بالازدهار، علينا أن نواجه العالم كما نعرفه اليوم. وأنا كقائد للقوات المسلحة في بلدي، مسؤول عن انهاء حرب (في العراق) وأعمل في مسرح آخر (أفغانستان) على مواجهة عدُو لا يعرف الرّحمة ويهدِّد مباشرة الشعب الأمريكي وحلفاءنا".
رئيس حرب ينال جائزة بطل السلام؟
ألا تُناقِض لجنة أوسلو هنا نفسها؟ وألا يُعيد ذلك إلى الأذهان منح هذه الجائزة نفسها إلى هنري كيسنجر عام 1973، والذي أقدَم بعد نيْله هذا التقدير الأخلاقي والإنساني الرفيع، على شنّ حملة قصْفٍ تدميري على كمبوديا ولاوس، لم تستفيقان من أهواله حتى الآن؟
التناقض موجود، لكن ليس في أذهان لجنة أوسلو وقادة الاتحاد الأوروبي، الذين يلعبون دوراً رئيسياً في التأثير على لجنة تتكوّن برمّتها من سياسيين نروجيِّين. وهؤلاء القادة جميعاً (عدا ربما الرئيس الفرنسي)، قرروا، على ما يبدو من وراء خطوتهم هذه، إلقاء كل ثقلهم إلى جانب أوباما في معركته الداخلية الطاحنة ضدّ الجمهوريين وقِوى اليمين الأمريكي.
"هل هو ضعيف؟"
لكن، هل ستُساهم هذه الجائزة حقاً في دعم مواقع أوباما الداخلية؟ حسناً، ربّما، لكن مؤقتاً فقط، إذ أن احتمال فشل أوباما في التحوّل من رئيس حرب إلى رئيس سلام، وبالتالي، عجْزه عن تحقيق أي إنجاز سِلمي قريباً، سيجعل هذه الجائزة تُهمة ومادّة للسُّخرية منه في يَد خصومه.
وربّما هذا بالتحديد، ما دفع الرئيس الفرنسي ساركوزي إلى التساؤل مؤخراً في مجلس خاص: هل الرئيس الأمريكي باراك أوباما ضعيف؟ وهذا بالمناسبة، ليس مجرّد سؤال خاص فرنسي "لئِيم" على عادة الفرنسيين المُتّهمين ب "الغيرة" الشديدة من "القوة الطاغية" Hyperpower الأمريكية (كما يصف هوبير فيدرين أمريكا)، بل هو سؤال عام بات قيْد التداول في كل أنحاء العالم، بما في ذلك الداخل الأمريكي.
بيد أن الحقيقة تكمُن في مقلب آخر: أوباما ليس ضعيفاً، لكن الأزمات الأمريكية الداخلية والخارجية، قوية وعاتية إلى درجة قد لا يتحمّلها حتى رؤساء اشتهروا بقوة شكيمتهم وبأسهم، كجورج واشنطن وأبراهام لينكولن ودوايت أيزنهاور وجون كينيدي، أوضح دليل على عنف هذه الأزمات وخطورتها، تجلّى في التقرير الخطير الذي رفعه الأسبوع الماضي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، جوزف ستيغليتز، الاقتصادي الأمريكي البارز، الذي حاز على جائزة نوبل للاقتصاد ويترأس حالياً لجنة الخبراء لإصلاح النظام النقدي والمالي العالمي، التابعة للأمم المتحدة.
أبرز عناوين التقرير:
- الأزمة الاقتصادية العالمية الرّاهنة، ليست مجرّد مشكلة نجَمت عن خطإ في شبكة الصرف الصحي، بحيث يكفي أن ندعو السّباك إلى تنظيف الأنابيب، فيعود كل شيء إلى ما كان عليه. الأزمة تعكِس مشاكل نظامية أعمَق، ينبغي التصدي لها، يجب أن لا نعود إلى عالَم ما قبل الأزمة.
- يتعيّن إنشاء نظام احتياط عالمي جديد، لا يعتمد على عُملة واحدة مثل الدولار، وتأسيس منشأة ائتمانية عالمية جديدة، تتكامل مع صندوق النقد الدولي وإقامة مجلس تنسيق عالمي جديد، من شأنه أن يكون أكثر شمولاً من مجموعة ال 20، المؤلّفة من مجموعة الثمانِ للدول الصناعية الكبرى، إلى 12 من الدول الأخرى، الأكثر نمواً.
- في عالم العوْلمة، لا معنى لأن تكون لديْنا عُملة واحدة، عُملة بلد واحد كأساس لنظام اقتصادي عالمي، بل من المنطِقي التحرّك نحو إقامة نظام احتياط عالمي يكون من جهة، أكثر استقراراً وينعش، ومن جهة أخرى الطلب الكلي العالمي ويكون فعلاً أكثر عدالة من النظام الحالي.
- بموجب النظام الحالي، تقدّم البلدان المتقدِّمة، قروضاً قيمتها تريليونات من الدولارات إلى الولايات المتحدة بمعدّلات فائدة تُساوي صفراً، وهذا في الواقع بمثابة مساعدات خارجية للولايات المتحدة. قد يقول بعض الناس إن الولايات المتحدة تحتاج إلى بعض المساعدات الخارجية، لكن هذا لا يمكن أن نسمِّيه نظاماً دولياً منصفاً.
كما هو واضح، ما يدعو إليه ستيغليتز، لا يقل عن كونه نقل السلطة الاقتصادية العالمية من الحُضن الأمريكي ووضعها بين يدَيْ مجلس اقتصادي عالمي جديد، يكون بمثابة قيادة جماعية لنظام دولي جديد.
الأهمية القصوى لهذا الطرح، تنبع من شخصية ستيغليتز نفسه. فهو كان نائباً لرئيس البنك الدولي (والذي طُرد منه لاحقاً بسبب نقدِه له) ومستشاراً اقتصادياً بارزاً في إدارة كلينتون وأحد أبرز الشخصيات اليهودية الأمريكية التي كانت مُعادية بقوة للاشتراكية ولتدخّل الدولة في الشأن الاقتصادي، ثم عاد وغيّر رأيه، فرفض فكرة "اليد الخفيِة للسوق" وانتقد إدارة ظاهرة العوْلمة. ومؤخّراً، حمّل بعنف على خطة الانقاذ التي تبنّاها أوباما، متّهماً واضعِيها بأنهم "في جيب البنوك ويعملون في خِدمتهم".
ستيغليتز يُطلق الآن على أنصار الاقتصاد الحر المُنفلت من أي عِقال إسم" أصوليي السوق الحر"، الذين سيقودون العالم إلى الهاوية، كما يفعل الآن الأصوليون الدينيون، وهو لا يرى مِن مخرج من هذه الورْطة التاريخية، سوى في نظام عالمي جديد، كذلك الذي يدعو إليه الصِّينيون والرّوس والهنود والبرازيليون (مجموعة "البريك"). لكن، هل هذا المانيفستو الثوري الجريء له حظّ من النجاح؟
الجواب يعتمد برمّته على طبيعة ردّ الفعل الأمريكي على هذا الانقلاب التاريخي: هل ستقبل الولايات المتحدة بهدوء انحسار دورها العالمي (كما فعل قبلها الاتحاد السوفييتي)، فتتعامل معه ببرود وواقعية، وتقبل أن تكون الأولى بين متساوين، بدل أن تكون الثانية للا شيء، أم أنها ستلجأ إلى شنّ الحروب وإثارة النزاعات لتمديد عُمر إمبراطوريتها المأزومة؟
حدث زلزالي تاريخي
خلال عهد بوش، كان الخِيار الأمريكي في غاية الوضوح: إطلاق سلسة حروب لا نهاية لها، تحت شعار مكافحة الإرهاب العالمي بهدف السيطرة على الموارد الطبيعية والرساميل والسِّلع الاستهلاكية. وبالطبع، مَن يمسك بصنابير النفط ومفاتيح رؤوس الأموال، قادِر على إمساك العالم من خِناقه.
بيد أن ثمانِ سنوات من عهد بوش، أثبتت أن الولايات المتحدة لم تعُد قادرة على الحِفاظ على زعامتها العالمية المُنفردة، لأنها تفتقِد إلى أهم عناصر بناء الإمبراطوريات: القُدرات المالية والاقتصادية الكافية لتمويل التوسّع الإمبراطوري.
إدارة أوباما أوحت (حتى الآن على الأقل)، بأنها استَوْعبت هذا الدّرس، فانتقلت من وضعية إملاء الشروط إلى مرحلة الاستماع إلى آراء الآخرين ومطالبهم. فغازلت العالم الإسلامي ومعه إيران، وخطبت ودّ الصين ومعها الاتحاد الأوروبي، ورفعت توقَعات العرب والفلسطينيين بتسوية عادِلة، وأسقطت محرمات الرأسماليين الأمريكيين عن الحديث عن كارثة احترار كوكب الأرض.
بيْد أن هذه الخطوات على أهميتها، لم ترقَ إلى درجة إقناع العالم بأن أمريكا تغيّرت بالفعل، وبالتالي، باتت مستعدّة لتغيير النظام العالمي. فالحلول التي طرحتها إدارة أوباما للأزمة، لن تؤدّي في الواقع إلى حلّ الأزمة، بل ربما إلى تعقيدها، إذ هي رصدت تريليون دولار لدعم عمالِقة المصارف والمال، على حساب قطاعات الاقتصاد المُنتجة، ما أوحى بأنها تنوي مواصلة نهْج تبعيَة أمريكا لكلٍّ من الرساميل والسِّلع الاستهلاكية الأجنبية، وبالتالي، لمحاولة إيجاد حلول خارجية لمُعضلاتها الداخلية، عبْر متابعة امتِصاص ثروات الاقتصاد العالمي.
كيف؟ عبْر القتال الشَّرس للحفاظ على هيْمنتها، بصفتها قوة لا يمكن الاستِغناء عنها في العالم، وهذا لن يتم على الصُّعد العسكرية والسياسية وحسب، بل أيضاً على الصعيد النقدي، حيث ستُقاوم أمريكا حتى الرَّمق الأخير كل المحاولات، لإنزال الدولار الأمريكي عن عرشه.
أجل، إدارة أوباما واقعية وبراغماتية وترغَب حقاً في التوصُّل إلى مخارج واقعية وبراغماتية للأزمة الأمريكية، لكن النوايا شيء والوقائع شيء آخر مختلف تماماً، وهذه الأخيرة تَشي بأن الولايات المتحدة لم تعُد فقط معتمِدة على غيرها اقتصادياً، بل لم يعُد لها أيضاً فائدة سياسياً، لا بل أكثر: حلفاء أمريكا الأوروبيون يشكّون الآن بأن واشنطن تتعمد شنّ الحروب المحدودة، ولكن الدائمة والإبقاء على بؤر توتر في العالم وعرقلة أي تطوير لهيكلية النظام العالمي.
هل يعني ذلك أن مانيفستو ستيغليتز لن يرى النور؟ ليس بالضرورة، لكن ذلك لن يتمّ بهدوء وسكينة، بل على إيقاع هدير زلزالي يصُمّ الآذان، سواء داخل أمريكا (عبر كساد كبير جديد على نمط 1929) أو خارجها (عبر تحالُف مجموعة البريك مع الاتحاد الاوروبي ضدّها).
متى يمكن أن يحدُث ذلك؟ ربما هو يحدث هنا والآن. وفي خِضمّ هذا الحدث الزلزالي التاريخي، يبدو سؤال ساركوزي في محله، لكن لا لعِلّة ذاتية في شخصية أوباما، بل لدواعٍٍ موضوعية، وهذا أخطر!
تِمثال جميل.. ولكن!
حسناً. أوباما إلى أيْن الآن من هنا؟ الواقع، أن الرئيس الشاب يبدو هذه الأيام كتِمثال جميل تتساقط أجزاؤه قطعَة قطعة. التساقط الأول (الكبير)، كان مع تهاوي مبادرته الكبيرة حول فلسطين والعالم الإسلامي لدى أول مجابهة بيْنه وبين اللوبي اليهودي والإسرائيلي، وهذا حدث أذهل الكثيرين، لأن الرئيس الأسمر أمضى أول سنة له في البيت الأبيض السلطة، وهو يعطي الأولوية لإصلاح ذات البين بين أمريكا وبين خُمس البشرية (العالم الإسلامي)، فإذا به "يستسلِم" سريعاً أمام ضغط 1،000% منها (اليهود).
الآن، أوباما يقف عارياً في البَلاط الدولي ولا تجد وزيرة خارجيته بديلاً، سوى دعم المستوطنات والإحتلال اليهودي للضفة الغربية والقُدس، مع وضع غلالة توت رقيقة، تتمثّل في مواصلة الحديث اللُّغوي عن حقوق الفلسطييين.
بيْد أن هذا السقطة في الشرق العربي،على كِبرها، تهُون أمام شقيقتها في الشرق الإسلامي: أفغانستان، إذ هناك سفح الرئيس أوباما علَناً كل الإدِّعاءات الأخلاقية والمبدئية والديمقراطية، التي استخدم رياحينها لتسلّق السلّم المؤدي إلى السلطة، وانحاز علناً إلى الاستبداد والظلم والفساد، لا بل هو فعل ذلك بطريقة مُقززّة.
ففي الرسالة التي بعث بها الأسبوع الماضي إلى حامد قرضاي ل "تهنئته" بالفوز في الانتخابات، أكّدت كل هيئات الأمم المتحدة أنها مزوّرة من الألِف إلى الياء، طلب رئيس أكبر ديمقراطية في العالم من رئيس أكبر دولة فاسدة في العالم، أن "يتحرّك بسرعة وشجاعة لمكافحة الفساد".
كيف يمكن أن يحدُث هذا: أن نطلب من طرف مُتّهم بالفساد أن يكافِح الفساد، وبسرعة وشجاعة أيضاً؟ ألا يُشبه هذا الطلب من غانية أن تحاضر بالعفّة؟ أو أن نتوسّل أقطاب التطرّف الدِّيني واليميني الإسرائيلي أن يُبشِّروا بالحب والمحبّة بين البشر؟
الرئيس أوباما بفعلته هذه، نسَف بشطحة قلَم كل خُطبه الرنّانة عن الحق والعدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية الحقّة، وعاد بشطحة قلَم أخرى إلى المنطق الأمريكي القديم، القائم على توظيف الإستبدايين والفاسدين والمُرتَشين في العالم الإسلامي، لخدمة المصالح الأمريكية، وهذا أمر ليس مُقزّزاً وحسب، بل هو غريب أيضاً، لأن قائد القوات الأمريكية في أفغانستان، الجنرال ماكريستال كان قد بنى إستراتيجيته الجديدة على مبدأين مُتوازييْن: زيادة عديد القوات الأمريكية بنحو 40 ألف جندي إضافي وإيجاد "شريك" أفغاني يُعتدّ به في كابُل، يحظى بالشرعية الديمقراطية وبدعم الشعب الأفغاني.
القوات الجديدة آتية لا ريب فيها، وإن لم يكُن بالعدد نفسه الذي يطلبه الجنرال، لكن، ماذا عن "الشريك الذي يُعتد به"؟ لقد كان من المشكوك به كثيراً أن تربح أمريكا معركة القلوب والجيوب في أفغانستان، حتى ولو تربّع على عرش كابُل المصنوع من قوائم أطلسية عبد الله عبد الله، منافس قرضاي، الذي يحظى بالفعل بشعبية واضحة. فماذا الآن وقرضاي اللادستوري باقٍ في السلطة من دون شرعية ولا شعبية؟
إنها حقاً بِدايات تعيسة لرئيس بنَى عليه الكثيرون، داخل أمريكا وخارجها، كبير الآمال لتغيير صورة أمريكا في العالم، فإذا به يُعيد إنتاج صورة العالم القديمة عن أمريكا، وحتى بشكل أسوأ.
وغداً، حين يبدأ المؤرِّخون بكتابة تاريخ عهْد أوباما، سيقولون على الأرجح، إنه أكثر رئيس أمريكي بنى عليه الناس توقّعات كبيرة، فإذا بهم يُصابون بخيْبات أمل أكبر.
المصدر: سويس انفو


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.