مصدر ليلا كورة: الحنفي يقود نهائي كأس مصر بين الزمالك وبيراميدز    وزير الإسكان يستعرض موقف تسليم وتشغيل المشروعات التنموية بالعلمين الجديدة    محافظ القليوبية يتفقد المجازر استعدادًا لعيد الأضحى -صور    بعد انخفاض سعرها الجنوني.. كم تبلغ تكلفة استيراد تسلا سايبر تراك للسوق المصري؟    حماس: نطلق سراح 10 رهائن إسرائيليين ونسلم 18 جثة مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين    طلاب KG2 يبهرون الحضور في احتفال مدارس الحسام المتكاملة    بعد 9 مواسم.. الأهلي يعلن رحيل السولية    بعد رحيله عن ليفربول.. أياكس يعلن التعاقد مع هيتينجا لقيادة الفريق    إنتر ميلان يطارد النجمة الرابعة في نهائي دوري أبطال أوروبا 2025    نائب وزير الإسكان يتابع جهود التعامل مع تداعيات عاطفة الإسكندرية    في يومين.. إيرادات "ريستارت" تقترب من 7 ملايين جنيه    استخراج بطارية من مريء طفل في مستشفى أطفال بنها    رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية: نشهد بعض التقدم في المفاوضات غير المباشرة مع أمريكا    وزارة الصحة تعلن خطة التأمين الطبي لعيد الأضحى المبارك وموسم الاجازات الصيفية بجميع المحافظات    على باب الوزير!    تخفيضات على تذاكر مصر للطيران تزامنا مع إجازات عيد الأضحى المبارك    محافظ أسيوط ووزير الموارد المائية والري يتفقدان أعمال تطهير الترع    رومانو: برشلونة يقترب من ضم خوان جارسيا.. وموقف تير شتيجن    ماركا: رودريجو أبلغ ريال مدريد برغبته في الاستمرار    وزير التربية والتعليم يبحث مع منظمة "يونيسف" وضع خطط لتدريب المعلمين على المناهج المطورة وطرق التدريس    وزير التعليم العالي ومحافظ المنوفية ورئيس جامعة المنوفية يفتتحون مركز الاختبارات الإلكترونية بكلية الحقوق بجامعة المنوفية    وزير الخارجية ل"صوت الأمة": السياسة الخارجية المصرية تستند لمبدأ "الاتزان الاستراتيجي"    "حياة كريمة" تبدأ تنفيذ المسح الميداني في المناطق المتضررة بالإسكندرية    شبكة المنظمات الأهلية: الاحتلال دمّر بنى اقتصادية ويستهدف المؤسسات الإغاثية    غدا على المسرح الكبير بدار الأوبرا .. مي فاروق تحيي حفلا غنائيا بقيادة المايسترو مصطفي حلمي    أيمن أبو عمر يوضح أعظم العبادات والطاعات في عشر ذي الحجة    بدر عبد العاطى وزير الخارجية ل"صوت الأمة": مصر تعكف مصر على بذل جهود حثيثة بالشراكة مع قطر أمريكا لوقف الحرب في غزة    من أول ساعة.. كيف يستفيد جسمك من الإقلاع عن التدخين؟    سقوط طالبة من سلم الدور الأول بكلية البنات عين شمس والجامعة تنقلها لمستشفي الطوارئ    شوبير يعلن رحيل عمرو السولية.. ويوجه رسالة ل إدارة الأهلي    خبير شؤون روسية: أوروبا فوجئت بطول أمد النزاع بين موسكو وكييف    بعد انتهاء أزمتها.. آية سماحة توجه الشكر لنقابة المهن التمثيلية    من أجل جودة الحياة بالمناطق الجديدة الآمنة.. الثقافة تنظم فعاليات في الخيالة وأهالينا ومعا    ماذا قالت وكالة الطاقة الذرية في تقريرها عن أنشطة إيران؟    أفضل الأدعية المستجابة عند العواصف والرعد والأمطار    إصابة طالب ومراقب باعياء وتشنج خلال امتحان اللغة العربية للشهادة الإعدادية بالمنيا    رئيس الطائفة الإنجيلية يشارك في حفل تنصيب ريموند سمعان راعيًا للكنيسة بطهنشا    محمد الريفي عن طليقته: ربنا يكرمها ويكرمني.. ومستحيل أتكلم عن الماضي    كيف تعامل مستشفى قنا العام مع حالة الولادة لمصابة بفيروس HIV؟ .. مصدر طبي يكشف ل«الشروق»    مصدر كردي: وفد من الإدارة الذاتية الكردية يتجه لدمشق لبحث تطبيق اتفاق وقّعته الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية قبل نحو 3 أشهر    وزير الإسكان يبدأ جولة تفقدية في مدينة العلمين الجديدة    أوبك + تقرر زيادة الإنتاج بمقدار 411 ألف برميل يوميا في يوليو    برأة راندا البحيري من تهمة سب وقذف طليقها    250 مليون نحلة طليقة في الهواء بعد انقلاب شاحنة.. ماذا حدث في واشنطن؟    محافظ الدقهلية يتفقد المركز التكنولوجي بمركز أجا ويصدر 7 توجيهات    المنظمات الأهلية الفلسطينية تحذر من كارثة صحية وبيئية مع استمرار العدوان على غزة    جنايات القاهرة تقضي بالسجن المشدد 7 سنوات لرجل أعمال أنهى حياة زوجته بالتجمع الخامس    رحلة شوق.. محمد مصطفى يحج بقلب المشرف وروح المحب    سحب 700 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    لمكافحة التلاعب بأسعار الخبز.. ضبط 4 طن دقيق مدعم بالمحافظات    اليوم.. البابا تواضروس يترأس عشية رشامة 8 أساقفة جدد    «المشروع X».. العمق أم الإبهار؟    عاجل- أمطار غزيرة متواصلة.. محافظة الإسكندرية تتأهب لتداعيات حالة الطقس الجديدة    الإفتاء تكشف كفارات الحج التي وضعها الشرع    أفضل دعاء في العشر الأوائل من ذي الحجة.. ردده الآن للزوج والأبناء وللمتوفي ولزيادة الرزق    سويلم: الأهلي تسلم الدرع في الملعب وحسم اللقب انتهى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 31-5-2025 في محافظة قنا    تغييرات مفاجئة تعكر صفو توازنك.. حظ برج الدلو اليوم 31 مايو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشرف بيدس يكتب:محمود السعدنى.. "الولد الشقى"
نشر في الأهالي يوم 10 - 05 - 2022

لا تستقيم الشدة والتعنت ونحن في حضرة المرونة والكياسة.. أو إدعاء المعرفة وثقافته الهرمية العريضة المتسعة تملأ عقولنا.. أو أن نتجهم ورذاذ المحبة واللطف المعبأ برائحة اللافندر والتمر حنة يحوطون المكان ويشيعون البهجة في الإرجاء المزدحمة بالحبايب والقرايب والخلان والاصحاب.. لا دخلاء أو جبناء.. ويسمح للغوغاء والدهماء والحرافيش وباعة الرصيف وأنصاف الافاقين.. وأرباب المقاهي الشعبية والفاخرة أيضا, وأصحاب الموهبة, مشهورين كانوا أو صعاليك.. والباحثين عن فرصة, ومنتهكي الفرص, والمغضوب عليهم من السلطة, والمتمرغين في تراب الميري, للصنايعية والتجار والمتسكعين أماكن محجوزة, رؤساء مجالس الإدارات والواقفون علي أبوابهم في انتظار تأشيرة رزق, كبار المطربين وعازفي الربابة, وجمع كبير من فناني مصر في طول الأرض وعرضها ولا يشترط صحة البنيان, فالأولوية أحيانا لمعتلي الصحة وذو الأمراض المزمنة, والظرفاء والرخماء, الوسطيين مملون لا مكان لهم, البهوات والباشوات وسائقي سياراتهم في المقدمة, الباحثين الجادين والمحبطين, لا ضرر من أصحاب النفوذ فتوصياتهم أحيانا توفر سرير ردئ في مستشفي حكومي لمريض بالكلي والكبد, ولا حضور للسيدات ليس امتهانا أو نقصانا.. فهن أمهاتنا وأمهات أمهاتنا وأسيادنا وتاج راسنا.. المرأة بصرف النظر عن درجة جمالها تفرض سيطرتها وسطوتها علي المكان والزمان.. وربما هذا.. ليس ربما بل من المؤكد أن هذا يجعل الرجال أكثر توخيا وحرصا وسبسبة في انتقاء الكلمات, الأمر الذي يفقد المجلس الموقر أهم سماته وهي العشوائية. فالكلام أحيانا يخرج عن المباح.. أو بالأحرى هي "قعدة" مزاج بغير مخدرات, ثلاثة ارباع الحديث يبدو فارغا لكنه مصوب من قناص يجيد ضبط ناشنكاه بندقيته ولا تخيب رصاصاته.
في الحياة الادبية لم تحظ المرأة بنصيب معقول من أدبه, لكن في الحياة كانت صاحبة التأثير الأعظم فى حياته وفى تكوينه, عن والدته نتكلم, والتي يصفها حفيدها –أكرم- بأنها كانت سليطة اللسان تملك مواهب متعددة ومخزوناً من السخرية استغلته كسلاح فى مواجهة كل سكان حارة سمكة وفى سوق الجيزة الأشهر.. ولم يكن هناك مخلوق يجرؤ على مواجهة الحاجة أم محمود سوى الحاجة نفيسة الخضرية -بائعة الخضار- فهى الوحيدة التى إذا وقعت عينا ستى أم محمود عليها اتجهت إلى أى شارع فرعى اتقاءً للسانها.. ثم تأتي الزوجة.. كانت سيدة شديدة التنظيم تعشق النظافة ولا تستطيع أن ترى أى مكان حاله مقلوب فكانت دائماً تهندم الأمكنة وتنسقها وتحفظ للبيت درجة غير طبيعية من النظافة.. وقد اهداها محمود السعدني أحد كتبه «إلى أم أكرم التى لولاها لتبعثرت حياتى كما تبعثرت أوراقى», فهي الزوجة والأم التي لم تدخر جهدا في إسعاد عائلتها, وعندما اعتقل 1958اختارت أن تنام على الأرض صيفاً وشتاءً حتى عاد من غياهب المعتقلات.. وفي المرة الثانية التي اعتقل فيها في عهد السادات قامت بافتراش الأرض لتنام عامين كاملين على الأرض حتي خرج من السجن, وعانت معه عشر سنوات في المنفي ذاقت فيها مرارة الغربة, ثم تأتي بناته لتحتل المرتبة الثالثة بعد الأم والزوجة, (هالة- امل – هبة).
عندما نصف جلسة محمود السعدني بأنها تمطر الحاضرين برائحة التمر حنة, فليس هذا وصف مبالغ به أو تملق, فالعبد الفقير إلي الله علي باب الله مثلنا مثله, خبر الحارة والشارع ووعي جيدا المفردات الشعبية واللغوية والاباحية, ولا يخيل عليه أي رياء أو نفاق, فهو شديد الاخضرار في القلب, غزير التفريع في المعرفة, وتنبعث من كلماته رائحة الطيبة والاصالة, يستر ولا يفضح مثل أوراق التمر حنة, وأحيانا يتباهي البعض بمعرفته ويستظلون بالقرب منه, أما اللافندر فهو يخفف من أعباء وأعراض القلق, والرجل يحمل من الطمأنينة بغير حجة, ومن الفلسفة بكامل المنطق ما يجعل المرء يدرك أن "طولها زي عرضها", و"المكتوب مكتوب", ولديه من الأقوال المأثورة التواكلية ما يحسن الصحة وينقيها من حسابات الايجار والاكل والشرب, ولسانه حاله يردد بيقين ثابت وايمان راسخ "اللي خلقنا هيرزقنا".
بلغت أعمال محمود السعدني 26 كتابا وهي: الولد الشقي جزء أول: قصة طفولته وصباه في الجيزة – الولد الشقي جزء ثاني: قصة بداياته مع الصحافة – الولد الشقي في السجن: صور متنوعه عن شخصيات عرفها في السجن – الولد الشقي في المنفى: قصة منفاه بالكامل – الطريق إلى زمش : ذكرياته عن أول فترة قضاها في السجن في عهد عبد الناصر.- متي يعود القمر- شاهد علي العصر- القضية- مسافر على الرصيف- مسافر بلا متاع – ملاعيب الولد الشقي: مذكرات ساخرة – السعلوكي في بلاد الإفريكي – الموكوس في بلد الفلوس- وداعاً للطواجن- ألحان السماء – رحلات أبن عطوطة – خوخة سعدان- أمريكا يا ويكا- السماء السوداء- بلاد تشيل وبلاط تحط- مصر من تاني- عزبة بنايوتي- قهوة كتكوت – جنة رضوان- تمام يا فندم – المضحكون- حمار من الشرق- عودة الحمار- بالطول والعرض رحلة إلى بلاد الخواجات – أحلام العبد لله.
من بين كتب محمود السعدني المسطرة بعاليه سنقدم عرضين موجزين لكتابين من كتبه, وتحديدا "المضحكون" و"ألحان السماء", الأول يتحدث عن نجوم الكوميديا الذين رسموا الضحكة علي شفاة الجماهير وأدخلوا السعادة إلي قلوبهم, والثاني عن نجوم دولة التلاوة, الذين ادخلوا السكينة والاطمئنان في قلوب المسلمين والأقباط أيضا, وحركوا المشاعر الإيمانية بالتفكر والتأمل في كلمات العزيز القدير, كما خاطبوا وجدانهم الإيماني, وشتان ما بين الكتابين, فالأول دنيوي (الدنيا), والثاني دينوي (الدين), لكن الطرح والرصد لهما لم يعلي من شأن أحدهما ويحقر من الأخر, فالأثنان يندرجان تحت لافتة "الفن" سواء كان اضحاكا أو القاءا.. والجميل أن الكتابين ممتعين ناجزين هادفين كلً في مسعاه.
ففي "المضحكون" الصادر 1971 عن روزاليوسف ضمن سلسلة الكتاب الذهبي", جاء به : " ولدت مصر عشرات من المضحكين, بعضهم أصيل وبعضهم فالصو, بعضهم مثل الدهب البندقي, وبعضهم مثل الدهب القشرة.. عشرات من أول فؤاد المهندس إلي أمين الهنيدي إلي محمد رضا إلي محمد عوض إلي عبد المنعم ابراهيم الي عبد السلام محمد الي حسن مصطفي الي أنور محمد إلي المضحك القديم سعيد أبو بكر إلي المضحك العجوز اسماعيل يس الي جيل الشبان عادل امام وسعيد صالح وصلاح السعدني, وهؤلاء جميعا مثل الزرع في حديقة فواكه سنجد لكل منهم طعما خاصا ومذاقا محددا ونكهة مختلفة.. بعضهم مثل المانجة وبعضهم بطيخ شليان, وبعضهم بطيخ أقرع وبعضهم قصب خد الجميل, وبعضهم قصب مسوس.. وسنجد مضحكا منهم له وجهان.. فؤاد المهندس بطل علي خشبة المسرح وفي السينما مجرد ممثل, وليس من بين المضحكين من هو أذكي منه, وذكاؤه هو الذي جعله يحط كالصقر علي طبق الملهبية الشهير بشويكار, محمد عوض بطل في رواية و.. لامؤاخد في رواية أخري.
محمد رضا إذا قال كلاما حلق في السما وإذا اعتمد علي الحركة وقع علي رصيف الشارع, عبد السلام محمد يلمع إذا وجد الدور ويموت إذا بقي في المسرح القومي وسيظل في مكانه مهما طال الزمن, وان مات لن يشعر به أحد أن مأساته منقوشة في لوحة القدر منذ الأزل, وعبد المنعم ابراهيم كان يجب أن يكون بطلا في السينما ولكن عقلية بتوع السينما حبسته في دائرة الهيافة الامامية الحليمية الشخصية, وهو في المسرح لم يجد الرواية بعد, وان وجدها ضاع بسبب عيب في داخله, واسماعيل يس لايزال اخف دم في مصر ولكنه ضاع بسبب ايمانه الشديد بالكلام الفارغ, انه هو الآخر حمقري. عبقري في التمثيل, و… في احترام عقليته وفي احترام عقلية المتفرجين!! وأمين الهنيدي يسير في نفس الطريق, فالمسرح سامر, والمتفرجون أسري نكته وقفشاته, والنص موضة قديمة لا تتفق مع عصر المسحوق رابسو, وأنور محمد معالمه تكاد تختفي, انه كالدبور لا يكاد يتوقف, وهو أحيانا يحط ولكنه كالدبور أيضا يحط مرة علي عود ريحان, ويحط مرة علي صندوق زبالة.. وحسن مصطفي مضحك وعظيم ولكنه اختار لنفسه أن يكون مضحك عمومي.. انه مثل الكاتب الموهوب الذي اختار مكانا علي باب المحكمة وتحول إلي كاتب عمومي, لكنه ولد ودمه أخف من الريشه.
وقف عبد المنعم مدبولي محلك سر كأنه عسكري يقضي فترة عقوبة في طابور, لا يريد أن يفرض شيئا علي الناس, لكنه آثر أن يلبي للناس رغباتهم, لذلك يبحث عن النص السهل ليضحك الناس, انها مأساة علي الكسار تتكرر من جديد, و"الكسار" لديه موهبة أضخم ألف مرة من موهبة "الريحاني" لكنه استطاع أن يأكل الكسار, عاش "الريحاني" حتي مات.. وعاش أكثر بعد الممات, بينما مات "الكسار" وهو علي قيد الحياة. أما أمين الهنيدي فهو لا يقرأ من النص إلا دوره ولا يقرأ في الصحف إلا ما يتعلق به شخصيا, ومحمد شوقي يقف في الوسط بين الكبار والصغار, وكانه في حاجة لمؤلف يكتب أدوار خصيصا له, وعن ثلاثي اضواء المسرح فهم "المضحك والممثل وكداب الزفة (الضيف- جورج- سمير) وفي أحد البرامج اعاد الاعتبار لسمير واعتذر عن هذا الرأي, وأبو بكر عزت فما كان يوما من المضحكين, ولا كان ينبغي أن يكون من المضحكين, أما بدر الدين جمجوم فلا هو مضحك ولا هو يحزنون, وقد تصلح يحزنون صفة للجمهور الذي يتفرج عليه, وصوته أشبه بالكلاكس يستخدمه علي المسرح, وعن ليلي طاهر, فلا هي ممثلة شباك ولا هي نجمة فن, ولا هي كبيرة ولا هي صغيرة واسمها نميرة, وكذلك اميرة امير, نادية النقراشي, زبيد ثروت.
ظل حسن فايق يؤدي شخصية واحدة متكررة إلا أن أحد منا لم يمل رؤيته, وابراهيم سعفان مضحك بكل صفاته ومقوماته, وهو ايض ممثل ناضج يحسن التعبير والاندماج, وعبد الرحمن أبو زهرة مضحك إذا دخل في الموقف المضحك, ولو كان لدينا سينما محترمة لأصبح مضحكا راقيا. في البرنامج الاذاعي ساعة لقلبك ظهر ابو لمعة والخواجة بيجو والفتوة وفتلة, ثم سقطوا مع مرور الايام واحدا تلو الآخر, كان الفتوة أسرع الجميع في السقوط, وتعثرت قدم "فتلة" وانكب علي وجهه, وهاجر الخواجة بيجو إلي الكويت خبيرا في فن آخر ليس له علاقة بالفن, وبقي أبو لمعة وحده يصارع من اجل البقاء.
الفنان الوحيد الذي نجح في الحفاظ علي مكانته كمضحك في قلوب الجماهير لأكثر من ثلاثين عاما هو "شكوكو" , ورغم شيخوخته لايزال هو التمثال الحي لخفة الدم المصرية. وعمر الجيزاوي هو الحاضر الغائب, وموجود وغير موجود, وهو المسئول عن مأساته, وأحمد غانم الذي سبق اسمه المنلوجست الجامعي, وبعد فترة اكتشف الناس أن المنلوجست الجامعي ليس أكثر من يافطة, أما سيد الملاح فكنت اتصور انه سيحمل سيكنا يغرزها في الاجزاء الفاسدة في المجتمع, لكنه شهر سكينه لحظات ثم استرزق , وفتح دكان لبيع البضائع المهربة.
ثم نأتي إلي ما اسماهم بآخر فوج من المضحكين, بدأ بعادل إمام الذي وصفه بأنه فلتة فنية, ولن يحط من قدره كممثل نابغ وموهوب وعظيم اضطرته ظروفه الي التعامل بأسلوب الزنوج في القرون الوسطي, عندما كانوا يقايضون الذهب بالعقود الخرز والسكاكين الصفيح, وصلاح السعدني ممثل موهوب وحساس لابد أن يشق طريقه الي القمة يوما ما رغم وقوفه محلك سر في سرداب الفن الطويل, لقد ورث صلاح السعدني عداء كل السينمائيين بسببي, وانتقاما مني, لكنه مسئول ايضا, وسعيد صالح أخف دم مضحك علي الاطلاق وهو قادر علي اضحاك الطوب بحركة او بلفتة, ولأنه نبت شيطاني فهو ابن الطبيعة وهو خلق ليحترف هذه المهنة, وسيد زيان يحظي باعجاب قطاع عريض من الناس وهو الحصان الذي يحتاجه أي فارس ليشق طريقه الي المقدمة , وفاروق نجيب مضحك جديد لكنه خافت الصوت ولو أفلت من مصيدة بريخت ومسارح الهيئة لوجد نفسه, ويستطيع جمال اسماعيل أن يصير مضحكا لو وضع يده علي امكانياته الحقيقية, ونبيل الهجرسي يستطيع أن يجد لقدمه مكانا بين الزحام, فهو سفروت وخفيف الدم, فقط يحتاج الي دور البطل وهو لم يخلق لهذا الدور, وصاحب الوجه المسحوب فاروق فلاوكس ذو الانف اليهودي والنظارة التي لا تستقر والرأس المنبلج المضروب من الخلف والبارز من الامام والشعر المنكوش كأنه فرشة بلاط ملزوقة علي فروة الجمجمة للزينة ولدواعي التمثيل.
لم يبق من المضحكين إلا حضرات الكتبة وحضرات المؤلفين, والمؤلفين هم نعمان عاشور في المقام الأول ثم سعد الدين وهبة والفريد فرج أحيانا وعلي سالم, ثم حضرات الكتبة والمقتبس مدرسة بديع خيري وابو السعود الابياري, ومن هؤلاء سمير خفاجي في المقام الاول ثم بهجت قمر وع بد الله فرغلي واحمد حلمي وانور عبد الله, ثم الطلوع الذي طفح اخيرا علي جلد الحركة المسرحية المدعو عزت عبد الغفور.
والكتاب الثاني هو "الحان السماء" ومن المفارقات المضحكة أن يصدر الكتاب عن العظماء من مقرئي القرآن, ومحمود السعدني فى سجن القلعة متهما بالشيوعية، وبالتالي لم ير كتابه الرائع, وبعيدا عن قدراته المتنوعة, فالكتاب يكشف أنه مفتون بكل ما هو جميل, خارجا عن كل مألوف واعتيادي, بثقافة واسعة ورؤي مغايرة, ومن يطالع الكتاب يكتشف كم من المعلومات مرعب عن شيوخ مصر ومقرئيها, تطلب جهدا خرافيا لجمع هذه المادة النفيسة التي لم نصادف مثلها, لكن محمود السعدني المتفرد الذواقة لكل ما هو مبدع وانساني, يضفرها في حكايات رصينه تتفق وجلال هؤلاء الفنانين العظام. والكتاب في طبعة اخبار اليوم 1996 كتب له المقدمة فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي, وجاء بها: " بارك الله فيك يا محمود, وبارك منك لتكون أسوة لإخوانك فرسان القلم ليجعلوا من كتاباتهم جانبا لله فذلك خير وأبقي".
افتتح محمود السعدني كتابه القيم بالحديث عن الشيخ محمد رفعت حيث قال: "صوت غريب فريد باهر, وسر غرابته إنه استمد طبيعته من جذور الارض, هو صوت الشعب, فمن أصوات الشحاذين والمداحين والندابين والباعة الجائلين استمد صوته فخرج مشحونا بالأمل والالم, وظهر عبقري آخر كان له أثر بعيد في التلحين والطرب وهو الشيخ علي محمود عالما بفن الموسيقى الشرقية ودارسا لفن الموسيقى الغربية.. فخرج من بيته أعظم الملحنين واشتهر منهم سيد درويش وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، كما أصبح للشيخ على محمود تلاميذ منهم طه الفشنى وأبو العينين شعيشع.. وكان فريدا في صوته، رتل القران كاملا للإذاعة، ثم جاء بعده الشيخ مصطفى إسماعيل الذي سمعه الشيخ رفعت لأول مرة في مسجد السيد البدوى بطنطا, والشيخ أحمد ندا.. الذي طار صيته في كل مكان، وأصبح زينة كل مجلس وعمدة كل سهرة في بيوت كبار الفنانين والسياسيين والأدباء، وارتفع أجره إلى خمسين جنيها ثم مائة جنيها حين أتى إلى القاهرة. معدن صوته كان معدنا نفيسا حتى أنه أصبح أشهر رجل في مصر وبيته مقصدا للجميع، من هنا أصبح للمقرئين سعرا ومكانة لكن لم تكتب للشيخ ندا الحياة لحين ظهور الإذاعة لذا ضاع صوته ولم يستمع إليه سوى أبناء جيله. ظهر بعد الشيخ ندا عشرات من المقرئين بعضهم ظل خالدا في قلوب الناس..
كما تعرض للشيخ محمود البريري وهو الوحيد الذي لم يكن في تلاوته, وطه الفشني عمدة التواشيح والانشاد الديني, والشيخ محمد الطوخي وهو علم من اعلام القراءة, والنقشبندي الذي بهر الناس باداءه كل المقامات, ونصر الدين طوبا الذي تأثر بطريقة الطرق الصوفية, والشيخ محمد عمران أخر عنقود في شجرة علي محمود, والشيخ محمد الصيفي وهو القارئ الوحيد الذي رفض أن يقرأ في قصر الملك فاروق, والشيخ محمد القهاوي وكان صوته من اجمل وأرق وأعذب الأصوات وأشدها حنينا وحنان وضراعة – علي قول محمد رفعت- والشيخ سعيد نور الذي كان يقرأ بطريقة تثير في نفوس الناس عواطف شتي من الطرب والخشوع والإيمان, وتستدر من عيونهم الدموع الحزينة, ولهذا لم يقرأ في الاذاعة فصوته لا يصلح للميكروفون رغم جماله, والاذاعة السعودية هي الوحيدة التي كانت تذيع له, كما سجلت اذاعة الكويت القرآنبصوت عندما استقر بها, وأيضا الشيخ محمد سلامة وهو الوحيد الذي ك ان يقرأ جالسا علي ركبتيه كأنه من حالة ركوع, والشيخ منصور الشامي الدمنهوري صاحب الصوت القوي وطريقته الفريدة في الأداء, فمازال يرن في أسماع الزمان, وكان يحرص الاقباط علي سماعه فقد كانت طريقته تقترب من أداء ترتيل المنشدين في الكنائس.
أما الشيخ عبد الرحمن الدوري الذي كان يتمتع "بقرار" سليم وهبرة غريبة تهز النفوس, والشيخ عبد العظيم زاهر الذي لم يقلد أحد, ولم يستطع أحمد تقليده, فقد كان مقتدرا في طبقة الجواب وجواب الجواب, وأصرت امارة عجمان طابع بريد يحمل صورته, والشيخ أحمد سليمان السعدني الذي اتهم من قبل المخابرات الانجليزية بأنه من عملاء المحور لأن اذاع برلين اذاعت له تلاوة قرأنية, والشيخ فريد السنديوني الذي كانيشبه صوته الناي الحزين, صوت مصري عريق فيه صرخات وانات وزفرات الفلاحين.
اما الشيخ أبو العينين شعيشع أحد الأصوات العظيمة في دولة التلاوة والذي وقع الاختيار عليه لتكملة اشرطة الشيخ محمد رفعت التي طالها الزمن ولم يستطع احد أن يتبين الفرق, ونأتي إلي الشيخ عبد الباسط عبد الصمد صاحب الصوت الجميل والنفسية الجميلة ايضا, فقد دخل التاريخ كصاحب صوت وطريقة من أمل ما عرفته دولة التلاوة في تاريخها الطويلة, والشيخ محمود خليل الحصري كان يطلق عليه شيخ القراء المصريين, وهناك الدكتور احمد هيبة الذي كان يجيد تقليد محمد رفعت, ورفض أن يحترف التلاوة وظل استاذ لعلم الحشراب في كلية الزراعة, والشيخ محمود عبد الحكم صاحب النكهة الخاصة, وبالرغم من اداءه الفذ وانتشاره الواسع عاش حياة متواضعة, والشيخ محمود علي البنا شق طريقه بسهولة وبسرعة فائقة, وكان ناصريا وظل حريصا علي قراءة القرآن في بيت عبد الناصر في مناسبة الاحتفال بذكراه كل عام.
ثم ظهر الشيخ هريدي الشوربجي وهو منالاصوات الذهبية ,ولكن احد لم يهتم بتسجيل صوته النادر, والشيخ محمد مجد, والشيخ شفيق ابو شهبة قارئ زفتي, والشيخ محمد سعودي قارئ طنطا والشيخ شتات قارئ الجيزة, وطهر ايضا في دولة التلاوة الشيخ مهدي السوداني وهو قارئ مصري سوداني عاش في عباءة علي محمود ولم يخرج منها, والشيخ علي الذي تمتع بتكوين جسماني يشبه تكوين الملاكم وقد اصابه مرض في صوته اجبره علي التوقف, وكان يقوم بدور المطيباتي للشيخ الصييت.
ثم يعرج الكتاب علي القارئات, ويذكر الشيخة نبوية النحاس وهي اخر سيدة مصرية ترتل القرآن الكريم في الاحتفالات العامة والمآتم والأفراح وكان الاستماع إليها مقصورا علي السيدات, وهناك أيضا كريمة العدلية التي اشتهرت في الاذاعات الاهلية ووصل صوتها للعالم العربي, والسيدة أم محمد التي ظهرت في عصر محمد علي وكانت تحيي ليالي رمضان في حرملك الوالي بالقاهرة واسطنبول, ولاشيخة منيرة عبده كانت في طليعة الذين رتلوا القرآن عند بدء الاذاعة الرسمية, وقد تعالت اصوات المشايخ بوقفها عن التلاوة علي اعتبار ان صوت المرأة عورة, وكثرت القارئات السيدات نتيجة التقاليد المصرية التي كانت ترحب بوجودهن ليتلو الايات لأسرهن, فقد كانت هناك الحاجة خطرة في المنوفية, والست عزيزة في الاسكندرية, ولاست رتيبة في المنصورة, والشيخة أم زغلول في السويس, وقد احترفن جميعا النياحة قبل القراءة, وكانت أشهرهن في النياحة الشيخة أم عبدالسلام, التي ظهرت في العصر المملوكي.
نعترف بأن هذا العرض السريع المتلهوج لكتابين متميزين قد أغفل جوانب تحليلية سديدة وثاقبة افرزت الخلاصات التي اوردناها في العرضين, وما كان في وسعنا الاطالة أكثر من ذلك, رغم احساسنا بالاسف الكبير لاغفال سطور ضمنها الكتابين كانت تستحق الاشارة اليها والتفكر فيها, كونها تكشف عن ناقد كبير لديه من الحكمة والسطوة, الطيبة والقسوة, العلم والمعرفة والخبرة في كشف الستار وفضح المسكوت عنه, والأهم هو بعد النظر فيما آلت اليه الأمور بعد ذلك من صحة توقعاته.
أنا ومثلي كثيرون, لم نقترب من عالم محمود السعدني, ولم نصادفه, والرجل له أبناء وتلاميذ وأصحاب ورفاق ومريدين آلافا مؤلفة تصل الي الاصفار السبعة, لكن البسطاء الذين اتوا للحياة في وقت متأخر من حياته, ولم يلحقوه أو يأنسوا به, يشعرون بأنهم يملكون جزءا كبيرا منه, ولا يخفون الأمر بل يصرخون نحن أولي به من الاخرين, علي الأقل ظلمتنا الأيام وحظوظنا العثرة عكس الاخرين الذين يتباهون بمعرفته والجلوس معه ويرددون عنه حكايات ومواقف ومأثر ونوادر مهدت لنا طريق للاقتراب منه, وقد يصفوننا بأننا سقطنا علي سيرته من دون وجه حق بالبراشوت, أو دخلاء لا صفة لنا ولا قربي, وليس لنا أي حقوق ادبية أو انسانية تمنحنا حق الكلام عنه, لكننا نرد علي تلك الادعاءات الكاذبة بأننا نعرفه ويعرفنا, ولو قدر له وأتي للحياة سيقول لهم, وانتم مالكم.. ناس بتحبني ايه اللي مزعل اهلكم, وربما يتذكرنا بالاسم رغم أنه لم يري أحد فينا من قبل, وهو ما نخلص إليه في أن محمود السعدني ملكا للجميع, ولا وصاية عليه من أحد, هو رمز انساني يحق لكل بني آدم علي وجه البسيطه أن ينتسب إليه, فهو ليس "أبو" أكرم وحده, وكلنا اشقاء غير شرعيين له, لنا كل الحقوق إلا الميراث, واقتحام حياته الاجتماعية, وما عدا ذلك فهو منا ونحن منه.
حكايته محكية بلسانه وقلمه.. ولا نجرؤ أن نكتب فيها حرفا واحدا بعد كلماته, ليس تأدبا, وإنما لأنه قال كل شيء ولم يخفي في صدره أي شيء يدينه أو يدين الاخرين, اللهم إلا بعض الاشياء التي لا تصلح للبوح, وأي محاولة للنقل والاقتباس محاولة رديئة ومفضوحة لن تدر بأي نفع, يسأل واحد فلحوس حنجوري من اخوانا الشنكوريين : "اومال ايه لزمت الكتابة", والاجابة بسيطة جدا, أننا نحبه كونه أبا اعتباريا وقانونيا وانسانيا, ومعلما نابغا لم يلجأ يوما في شرحه لكتب الوزارة أو مناهجها المفهرسة, ولم يتقاضي مقابل نظير مجموعات التقوية أو الدروس الخصوصية, فمدرسته كانت مفتوحة ليل نهار وبدون شروط عمرية أو شهادات ميلاد, أو زي موحد, وجميعا نتشرف بانتسابنا لمدرسته غير الحكومية, ورغم ذلك حصل تلاميذه علي أعلي الدرجات, أما عن الدروس فهي الجرأة في الكتابة ومن دون خوف أو تلعثم, والبوح الفضاح للحقيقة, فالكتمة تصيب المبدع بالعفن والبكتيريا.. والبساطة أيضا في الطرح بعيدا عن الحزلقة والفذلكة, "ادلق" ما في احشائك من كلمات تصبح حروف من نور تضئ العتمة للباحثين عن المعرفة, والتلقائية دون تذلف أو ذواق بطال, تصرف بطبيعتك , فالطبيعة لا تخالف السمات, ومن يخالفها تفضحه ملامحه, وعدم الانحناء لغير الله, حتي تصاب بانزلاق الفقرات, والمعافرة أيضا درسا مهما في مقرراته الدراسية, مع الاحتفاظ بشعارها الخالد النافع المفيد "الجري نص الجدعنة". وهو ليس فرار من المواجهة, ولكن استراحة لمزاولتها فيما بعد حتي لا يقضي علي المرء وحينها يذهب هباء منثورا, يُمَسُّ بالأيدي، ولا يُرى في الظل.
قل ما شئت من عبارات التبجيل والتفخيم لهذا الكاتب الاستثنائي, صاحب تجربة حياتية جديرة بالحكي منه شخصيا ولا أحد غيره, وليس معني ذلك أن الاخرين يعانون من ثقل اللسان أو تعلموا النطق علي كبر, ولكن لأنه قادر دوما أن يجعل الحكايات الباهتة متوهجة, والميتة حية, والتي تلفظ انفاسها الأخيرة الي عداءه في سباق ميت متر حرة, وكأنها اوسان بولت الجمايكي الذي سجل الرقم القياسي في 9.58 ثانية, ولم يلحق به أحد حتي كتابة هذه الفقرة.
نحاول أن نعيش في ظلاله عسي أن يصيبنا شررها فتكتسي ملامحنا وصدورنا بالانشراح والسرور, وايضا الحبور الذي هو أشد من السرور, وتبيض مساحات السواد المعششة داخل نفوسنا, والتي أتت علينا من حيث لا نحتسب, وبدلت الطرفة إلي غصة, فالكتابة عن محمود السعدني دعوة للفرح, والمتعة والألفة, رحلة جميلة في ساعة المغارب مع صبية حلوة علي شط النيل في شتاء دافئ, ففي الصيف ينتشر الباعة والمتطفلين وقليلو التربية.
حياة مليئة بالفكاهة .. هنا العبارة غير دقيقة, فالفكاهة في حياة محمود السعدني علي كل لون, سوداء .. حمراء.. زرقاء.. نيلاوي .. زفتاوي.. مقندلة بهباب الحلل, كم من المأسي تهد جبل المقطم الذي يقال انه نقل من مكانه في عهد الفاطميين, صادفته المتاعب ولم تتمكن منه, واستطاع أن ينجو بنفسه في رحلة فر وكر امتدت 10 سنوات في بلاد الله, لم يطلق فيها صفارة النهاية, ولم يرمي رايته, مباراة ظلت مستمرة , مرة يحرز هدف وأخري يسجل الخصم في شباكه هدف. شعر بآلام الاخرين لأنه جربه وزرعه وحصده وطحنه وأكله حتي شبع منه, سخر من الحياة وسخرت منه, أحبها فبادلته الغرام اضعافا مضاعفة, لم تتمكن منه, كان يستقوي بالمعرفة, فكان موسوعة متنقلة, صاحب الصعاليك والملوك, ولم يخش سوي تأنيب الضمير, فتحت ثقافته أمام كل الأبواب وأغلقت أيضا كل ثقوب الهواء, لكنه تحايل علي ضيق التنفس بالصبر والجلد.
يشاكن , يعافر, يسخر, يتهكم, احيانا يستكين عندما تشتد الريح, فهو من الذكاء الذي يجعله بستطيع تقدير الأمور, شجاع لكنه لا يلقي بنفسه في التهلكة.. صامد ووقت اللزوم "يحط ديله في سنانه ويا فكيك", ليختفي كالريح المسافرة إلي البلاد البعيدة في يوم خماسيني, كان رحالا رغم أنفه تنقل من بلد إلي بلد ساعيا للرزق, وما أن يضع قدميه وتستقر أموره حتي يحمل حقائبه مطرودا إلي بلد أخري, ترأس مجلات عديدة, لم يكن يسمع عنها أحد, وبعضها كان يتهاوي, لكنه أعاد لها رونقها وجاذبيتها في الشارع العربي, عندما ترأس تحرير مجلة 23 يوليو كانت تهرب إلي مصر وإلي العديد من البلدان العربية, فالحكام يخشون من كتاباته اللاذعة التي تكشف عن فضائحهم, ويخشون أيضا من السادات.
لماذا أسلوب محمود السعدني متميز وساحر وغير مسبوق؟ ويجيب خيري شلبي : "يتسم اسلوبه بمسحة فولكورية ناطقة, انه يستخدم نفس اللغة العربية التي يكتب الجميع قديما وحديثا, ولكن اللغة عنده تبدو فوق عروبتها مصرة تلبس العمامة المملوكية "واللباس أبو دكة" بشراريب والبنش واللاسة. هي لغة رغم فصاحتها وأصالتها وجزالتها والتزامها بفنون البلاغة العربية الموروثة كاد- لفرط سيولتها بالسهل الممتنع- تكون عامية واضحة لجميع الأفهام, كلغة السير الشعبية وألف ليلة وابن إياس والجبرتي, فصحي عريقة ولكنها أخذت من العامية المصرية رصيدها الفني من الشحنات الشعورية كلغة نتكلم بها ونفكر ونحلم ونتوجع ونغني ونحزم بها, وهذه الشحنات الشعورية التي تتمتع وتتميز بها العامية المصرية دون جميع لهات العرب نظرا لعراقتها في ظل مجتمع أشد عراقة في النظام الدولي, هي التي اضفت علي أساليب الفصحي المصرية خصوصية فريدة أكسبت اللغة العربية إشراقا وسيولة ومرونة, ووسعت من رداء المفردة ليتسع لكثير من دم ولحم التجارب والمعاني والأحاسيس في طور المفردات وأبعدها عن جذورها البدوية القديمة.. ثم إنها في أسلوب السعدني أصبحت لغة مزاجها رايق جدا, أصبحت تتحزم وترقص عشرة بلدي بالعصا وبالشمعدان, تلطم وتصرخ كنساء مصر الثكالي المنكوبات علي امتداد التاريخ بفقد رجالهن وعيالهن في اعمال سخرة أو حروب مجانية, تغني بالموال والدور والطقطوقة والمونولوج الشكوكوي والياسيني, تتفتون مع الفتوات وتتعارك بالنبوت وبالكرسي والروسية والشلاليت, تردح بالصوت الحياني لمن يجدر به الردح من البكوات الزائفين بنوع الحلمبوحة, تتسلطن في العصاري مع واحد الشاي ومبسم النارجيلة لتتلقي اخبار الحي بأريحية وحميمية لتلعب دورا في دره المصائب أو إغاثة ملهوث أو مساعدة محتاج أو مواجهة عدوان". هنا ينتهي كلام عمنا خيري شلبي.
خفة دم حوارتجية لا تضاهيها كوميديانات العصر الذهبي للفكاهة, الذين يرددون الحوار من خلال الملقن, والذي بدوره يلقن من كلمات المؤلف, لكن محمود السعدني مسرح حي من دون ملقن أو نص, لكن الجماهير كاملة العدد, يفهم القفشة والنكتة والدعاية واللطافة ويقدر أصحابها, ويكشف عن اللؤم والتباتة والغلاسة ويفضح أصحابها.. يجيد الالتفاف اذا طالعه سوء الحظ ويفر من المصيدة المنصوبة له دون أن يلحق به الاذي, سريع البديهة, وكأنه يقرأ أفكار محدثه, لديه مخزون من الحكايات يفتح دار نشر, يختار عباراته بدقة لأن الحصيلة رهيبة, يفرز الناس ويجيد التعامل مع الباشا والصايع والمثقف وبائع البطاطا, تنسجم طباعه شديدة المصرية مع البيئة التي يعيش بها, يعرف ألعاب الحواة ولا يمارسها..يصادق المهمشين والمقهورين والبسطاء ويأنس بجلستهم ويمدهم بالأمل, فهو أقدر الناس علي الصدق.
لا هو يساري بمعناه الراديكالي المتعالي أحيانا الذي يعيش في جيتو يجمع الرفاق يتعاطون شعر نيرودا وأغاني نجم ويسبحون بالأدب الروسي, ولا هو يميني يشغل مناصب العضو المنتدب والخبير الاستشاري والاستراتيجي الملهم, فالناس في بلدي أما زملكاوية أو أهلاوية, وهو من عشاق السمسمية والفول والطعمية وأحيانا الفسيخ, يعشق تراب هذه الأرض ويدافع عن ناسها بكل ما اؤتي من قوة, يلعن القادة ويثمن وطنيتهم, لم ينجرف ناحية تيار السخرية من أبناء الجنوب الاشداء الأصحاء الذين يحرسون بوابات الوطن, ويؤكد أن السخرية عليهم مصنوعة مشغولة تحاول أن تفتت أصلب جزء في نسيج الوطن.
دائما ما ينظر الناس علي نتاج التجربة والمكانة, ولا يولون اهتماما بالمنغصات والتحديات التي امطرتها الأقدار في الرحلة, محطة الوصول تجذب العيون رغم أنها تكون أيسر المحطات, ونصلها في الوقت الضائع من العمر, ما كان لأحد مر بظروف محمود السعدني أن ينجو من مغبة الامواج المتلاطمة , والنوات الغاضبة , وكان سقط سريعا قبل أن يجدف يمينا أو يسارا, غريقا شريدا وحيدا في بحر الظلمات غير مؤسوفا عليه, فكثيرون لطموا الخدود وندبوا الحظوظ واذرفوا الدموع وصرخوا طالبين النجاة من هول ما يلاقون, لكن الرجل الصلب لم يخيفه شيئا مما لاقاه, وواصل زحفه ربما بطموح أو بغير طموح, لكنه كان عاشق للحياة من طراز فريد, منذ نشأته وحتي رحيله في مقاومة مستمرة في الداخل والخارج, وحتي في المسافة ما بين الخارج والداخل, حياة مليئة بالضحكات هكذا تصور الساذجين, مفعمة بالنجاحات وهكذا تصور السطحيين, والحق أنها مليئة بالانسانية.
هو ربيب شارع الاصالة بكل ما تحمله الكلمة من معان فخيمة ومعتبرة, تجرع ونهل وتعلم وتثقف في مدارس ادبية ذهبت مع ريح الحداثة وتقاليع النظام العالمي الجديد بكل فروعه الاستيطانية والاستهلاكية والامبريالية التوسعية, فمن الجاحظ وابي حيان والاصفهاني والقلقشندي وابن قتيبة والمويلحي وعبد العزيز البشري والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ويحي حقي ومحمود تيمور واحمد حسن الزيات واحمد أمين ومحمد لطفي جمعة ومحمد توفيق دياب واحمد قاسم جودة ومحمد التابعي وكامل الشناوي وغيرهم كثيرا كانوا بوابة دخوله إلي عالم المعرفة, وعند ولوجه وجد اقران لم يجود بمثلهم الزمان, وقد اغلقوا ورائهم حديقة الابداع ولم يبق سوي قليلا من الاخضر وكثيرا من الطالح.
كثير من الكتاب والأدباء عندما ينشرون إنتاجهم الادبي تستكشف الجماهير أسلوبهم وحرفيتهم وقدرتهم علي صياغة المعني لخدمة الأفكار, لكن محمود السعدني عندما ينشر إنتاجه أيا كان هذا الإنتاج يستشعر القارئ أنه ينطقها ولا يكتبها, صوته يصل أو يتسلل إلي اذن القارئ الذي يتحول إلي مستمع وبذلك يشارك في الخيال الذي يحدث فيكون الراوي والكاتب والمتصدر المشهد برمته, والناس تقرأ ولكنهم يوقنون أنهم يسمعون صوته الذي يفرض سخريته وسطوته علي كل شيء.
حياة مليئة بالثراء, والثراء هنا يعني الألماظ والياقوت والمرجان والزمر الذي ملء به اجولة وبلاليص مغارة علي بابا وحسين بابا وعبد العظيم بابا, حكايات معجونة بالطيبة وخفة الدم, وشخوصها من علية القوم وأدناهم, كان الرابط بينهما هو محمود السعدني الذي لا يعطي لاعلاهم منياشين الجود, ويصف ادناهم بالكلمات السوقية.. الكل عند سواسية, والكل مرشح للتجريس إذا فعل ما يستلزم ذلك, فهو لا يشتم روائح الناس, بل يتذوق طعمهم, المذاق الطيب يستطيبه ويمضغه علي مهل, والردئ يلفظه في اقراب بلاعة عمومية طفح قلبها.
كثير من الظرفاء يضحكون علينا ويضحكوننا, لكنه كان يضحكنا علي أنفسنا وأوضاعنا المتردية, ولا يستطيع أحد أن ينافسه في هذا الأمر, حتي جحا الذي تناقلنا نوادره وقفاشته يملك مخزون ضئيل مقارنة بالسعدني الجامح المنطلق المكتشف لنواصي الحكايات والحكاء الاستثنائي الذي عبر في السرد والحكي ويفوق الحكواتي وشاعر الربابة.
ظل محمود السعدني حالة فريدة من العسير أن تتكرر مرة أخري, فلا زمانه قابل للتكرار بجغرافيته وظروفه الاقتصادية والسياسية والثقافية.. ولا هناك شخص يستطيع أن يتحمل ما تحمله, فالكتابة في زمنه لم تكن طموح لتبوأ وظيفة في مجلة أو جريدة, بل كان مشروع حياة له ولكل من حمل القلم في ذلك الزمان, وهدف لتغيير الواقع إلي الأفضل, سواء من خلال تحقيق التحرر الوطني من قبضة الاستعمار, أو سعيا للعدالة الاجتماعية وصولا إلي الديمقراطية, وجميعها أهداف يوتوبية يظل الإنسان يسعي إليها وغالبا لا تتحقق .. عكس الازمنة الأخري التي تنوعت فيها الاهداف وفرغت من المضامين النبيلة, وباتت مهنة الكتاب للعديدين لهامساع أخري وأغراض أخري لا يستفيد منها أحد سوي الساعين إليها, فهم المعنيين أولا واخيرا.. ومصالح الناس جسر يخطون عليه للوصول.
حتي آخر لحظات حياته ظل محمود السعدني مهموما بهموم الناس, مشغولا بمشاكلهم, حاملا في عنقه مهمة التعبير عنهم وتوصيل صوتهم لأولي الأمر, وكأنه رئيس قلم شكاوي المظلومين في عموم مصر, لم يعترف بسن التقاعد, أو اخذ استراحية محارب بعد أن خاض كل حروب الأرض بحثا عن الحقيقة ولقمة العيش, وقد هزم في نصف معاركه وانتصر في النصف الأخير الذي توجه بطلا شعبيا خارق للعادة, كان يحلق له أن يتأمل بعد أن زخف السن إلي أبواب الشيخوخة, لكنه ظل دائما عند حسن ظن عشاقه ومحبيه, هكذا ينتهي الابطال الشعبيين سيرتهم, العطاء لأخرة قطر دم وآخر نفس وآخر كلمة .. وآخر ايماءة.
الكتابة عن محمود السعدني شاقة للغاية . فعلي المرء أن يمر علي أحاديثه وكتاباته ومقالاته وآراءه وحكاياته ونوادره وحياته لكتابة سطور قليلة. وهو أمر يحتاج شهور طويلة من القراءة والبحث, عملية أشبه باعداد رسالة دكتوراه, وللاسف لن تكفي لرصد حياة وانجازات هذه الظاهرة التي لن تتكرر, اضافة إلي أن كبار الكتاب العظام تناولوه في كتابات رصينة وعميقة, لكن المؤكد أن من يسعي للابحار في عالم "السعدني" حتي ولو ينجز كتابة ناجزة نافعة سيستفاد استفادة عظيمة من المرور عليه.
مسلسل طويل من المعاناة والعوز والفقر والحرمان, لكن ملامح الاستغناء والتعفف ظاهرة وضوح الشمس, يعمل ثم يطرد, ثم يعمل ويعتقل, ويخرج ويعمل ويعتقل ثم ينفي خارج البلاد حاملا همومه واطفاله في محاولة يائسة للبقاء بعد أن تأمرت عليه كل الظروف للنيل منه, لكنه ينجح في العبور, ولم يكن أكثر المتفائلين يتوقعون أن ينجو سالما, لكنه يفعلها, وفي مذكراته يصف المآسي التي تعرض لها في سطور عبارة لكنمن يدقق النظر يري عبرات ساخنة موجعة تحملها في صمت ولم يكشف عنها في حسرة وخضوع بل في كبرياء وعظمة المنتصرين بنصر عظيم.
الناس تهاب أصحاب الكاريزما, وتتجنب الاقتراب منهم رغم الحب الجارف الذي يملأ صدورهم, ولكن مع محمود السعدني كان الامر مختلفا فهو يملك الكاريزما الطاغية المغلفة بالطيبة والاريحية مما يجعل الناس تقبل عليه وهي علي يقين أنهم امانة سيحافظ عليها, وللحق كان أهلا للاستحواذ وسهلا في اجتذابهم إلي احاديثه التي لا تنفذ, موضوعات شديدة التعقيد يبحر إليها بسهولة وبخفة ظل متناهية فيصيب أهدافه في لغة سحرية مبهرة, وفي حضرة "السعدني" لا يستطيع أحد أن يحصل علي نصيب معقول من الحديث, أو أي نصيب, واذا استطاع البعض أن يأخذ فرصة الحديث وهو أمر صعب للغاية, فهنا يكون قد أوقع نفسه في مطب كبير, ليس لأن البعض سيقارن بينه وبين السعدني, وإنما لأن المتورط سيكون ملزما باجتذاب الناس إليه وأن يستدعي خفة ظله وثقافته وكاريزمته وحكاياته وقفشاته ونوادره وأيضا القدرة علي ربط الحكايات بعضها ببعض في سرد ممتع لا يسرب الممل, واذا استطاع أن يجمع كل هذه الاشياء – ولن يستطيع- فهو قد فوت علي نفسه قرصة الانصاب إليه وهو أمر لو تعلمون عظيما.
**خيري شلبي: محمود السعدني , فرع صبار, مقال, مجلة الهلال, يناير 2005.
**اكرم السعدني: الحريم.. في الدولة السعدنية, مقال, جريدة الوطن, نشر بتاريخ 5 ديسمبر 2018.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.