اشتريت أول نسخة من كتاب أستاذنا الكبير محمود السعدني ألحان السماء من معرض القاهرة الدولي للكتاب, في منتصف التسعينيات, حيث كان المعرض يمثل بالنسبة لكثيرين من أبناء جيلي, فرصة ذهبية, للحصول علي حصيلة وافرة من الكتب, نقتات عليها طوال العام, ونتبادلها فيما بيننا, وفق قاعدة تقوم علي عدم جواز الملكية الخاصة للكتب, باعتبار ان الناس شركاء في أربعة الماء والنار والكلأ.. والكتب ايضا. صدر كتاب الاستاذ محمود السعدني ألحان السماء لأول مرة في ابريل من العام1959, بينما كان صاحبه يشرف نزيلا في سجن القلعة, متهما بالانضمام الي احد التنظيمات الشيوعية, وهي التهمة التي طالما سخر السعدني منها في كثير من كتاباته, ومن بينها كتابة اللطيف الطريق الي زمش, الذي روي من خلاله بطريقته الساحرة, كواحد من أكبر الحكائين العظام علي مدار التاريخ المصري الحديث, كيف كانت قد تحولت الشيوعية الي تهمة سابقة التجهيز, توجهها أجهزة الامن المصرية لكل من يخالف سياسات الدولة أو يعارضها, علي مدار فترتي السيتينات والسبعينات, والغريب أيضا انها امتدت الي فترة الثمانينات والتسعينات, اذ ظلت واحدة من اهم وسائل التشهير, والاغتيال المعنوي التي دأب اعضاء الحزب الوطني المنحل, علي استخدامها لتصفية خصومهم السياسيين, وإن لم تتضمنها كثير من قرارات الاتهام, التي صدرت بحق العديد من رموز المعارضة طوال فترة حكم الرئيس الاسبق حسني مبارك. كانت مؤسسة اخبار اليوم, قد أصدرت الكتاب في طبعة شعبية رخيصة, عندما سقط في يدي للمرة الاولي, لاكتشف انني امام مقطوعة موسيقية شديدة الرقي والجمال في ان, فقد كانت تلك هي المرة الاولي التي اقرأ فيها للسعدني الكبير, دون أن تتساقط الدموع من عيني من فرط الضحك جراء سخريته اللاذعة الجريئة والمباغته. ما إن يقترب شهر رمضان من كل عام, حتي تمتد يدي الي المكتبة, لاتصفح كتاب السعدني, وكأنما اقرأه لأول مرة, وهو يقدم تلك المقطوعات الموسيقية الشديدة البلاغة والجمال, في وصف اساطين تلاوة القرآن الكريم الذين انجبتهم مصر, علي مدار ما يقرب من قرن من الزمان, وكيف طلب الملك محمد الخامس ملك المغرب من السلطات الفرنسية ان تسمح له بالاحتفاظ ببضع اسطوانات تحمل صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد, لتكون سلوته في منفاه الاجباري, وكيف كان يلقي عثمان حيدر اباد احد امراء الهند, واثري اثرياء العالم في عصره, بالذهب والالماس تحت قدم الشيخ محمد رفعت, فقط من أجل ان يوافق علي السفر الي الهند, لاحياء بعض ليالي رمضان في قصره المنيف, لكن الشيخ الجليل الراحل كان يرفض تلك العروض بأدب جم, مفضلا عليها التواصل مع جمهور مسجده الصغير, الذي ظل يقرأ فيه حتي اخر ايامه بدرب الجماميز. ربما تكفي قراءة سريعة وعابرة لكتاب السعدني الكبير, ليدرك المرء كيف انتهي بنا الحال الي سماع كثير من تلك الاصوات الصلعاء الملساء القادمة الينا من الصحاري القريبة, في مقابل ذلك الغياب اللافت لاصحاب الحناجر الذهبية التي كانت ولا تزال, تحلق بافئدة الناس الي السماوات العلا, بعدما قدموا للانسانية الوانا من فنون التلاوة, التي كتب لها الخلود مع الايام. انه شهر رمضان وقد اصبح علي الابواب, فهل تنتبه العديد من محطاتنا الفضائية والعشرات من موجات الFM لما نملكه من ثروات تتمثل في تلك الاصوات الشجية, لعل مصر تستعيد من خلالها روحها التي اضاعتها الفوضي؟.