دخلت الموسيقى العسكرية التركية فى وحدات الجيش المصرى على يد محمد على، ثم لحقت بها مدرسة المشايخ، وكانت قد تأسست فى أسطنبول وأصبحت المدرسة التقليدية لتعليم الموسيقى فى مصر وتهدف للتدريب على تلاوة القرآن الكريم بأنغام غير موزونة إيقاعيا ملتزمة بقواعد قراءات القرآن وتجويده، وتربية أصوات المقرئين والمنشدين على أداء الألحان الموزونة، وكان تعليم الموسيقى على يد الشيخ يتم فى شكل لقاءات منتظمة أو غير منتظمة تضم الشيخ وعشاق الاستماع إلى صوته فى جلسة خاصة بمنزله أو فى المسجد، وأثناء فترات الاستراحة بعد الإنشاد أو التلاوة كان يدور حديث الشيخ عن آداب الاستماع وعن النغم أو الأوزان التى صنعت منها ألحان الموشحات، وعن تفسير القرآن وتقديم بعض الحكم والمواعظ للحاضرين فى الجلسة وهكذا ظهرت أجيال من قراء القرآن الكريم فى مصر فكانوا جنود الحفظ وقادة التحفيظ، وألقى الأستاذ أحمد البلك فى كتابه (أشهر من قرأ القرآن فى العصر الحديث) الضوء على أبرزهم فرفع اعتبارهم فوق كل اعتبار كاشفا عن خصوصية كل منهم وأسباب تميزه وشهرته، فالقارئ رزق خليل حبة، كان موهوبا فى حفظ القرآن بسرعة كبيرة، والشيخ راغب مصطفى غلوش تحول من عسكرى شرطة إلى قارئ له منزلة كبيرة وكان يذهب للإذاعة بالزى الميرى، والشيخ على محمود، وكان يؤذن فى مسجد سيدنا الحسين كل يوم من مقام موسيقى مختلف. ومن شدة تقديره للحسين رضى الله عنه كان يخلع نعليه إذا ما وصل إلى ميدان المسجد، ومعلومات كثيرة كتبها البلك عن المشايخ مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد ومحمود خليل الحصرى وصديق المنشاوى وولديه الشيخين محمد ومحمود، وعن عبد الفتاح الشعشاعى وولده الشيخ إبراهيم الذى ظل يقرأ القرآن لمدة ربع قرن فى مسجد السيدة زينب بعد والده، والبهتيمى الذى اكتشف صديقه الفنان فرحات عمر (الدكتور شديد) أنه مات مسموما وبلّغ أسرته، ونصر الدين طوبار وأبو العينين شعيشع وغيرهم من مشاهير القراء الذين وصفهم الإمام محمد متولى الشعراوى فقال: منهم قمة الأحكام كالحصرى مثلاً، ومنهم قمة الصوت الجميل كعبد الباسط ومنهم قمة الفن الرفيع الرائع المستحيل الجميل كمصطفى إسماعيل ومنهم جامع كل ذلك فى ائتلاف لا يرتفع فيه فن على فن كالشيخ محمد رفعت، فهل كل هؤلاء جميعا. ويزيد أنه عالم بما يقرأ، تستطيع أن تفهمه بمجرد نطقه للكلمة ولمحبيه فى عصره حكايات عن هذا الفهم الرائع لما كان يقرأ فى مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز رحمهم الله جميعا ورضى عنهم وجعل منهم أسوة للجيل القادم، لا يستنكفون أن يكونوا كما تسميهم العامة «فقهاء» وهم فى الحق «فقهاء» بمفهوم الخاصة. ظل التجويد القرآنى حكر على المصريين زمنا طويلا، وكانت وزارة الأوقاف ترسل القراء إلى المراكز الإسلامية ليحيوا فيها ليالى شهر رمضان، وكان للإذاعة المصرية فضل اكتشاف كثير منهم، وليت وزير الأوقاف مع الإذاعة المصرية يعملان على عودة الريادة لمصر فى هذا المجال الذى تعرض للتجريف مثل كل وسائل التعبير على مدى ربع قرن مضى ولماذا؟ وكيف؟. يشاركنا فى السؤال الكاتب الراحل محمود السعدنى فى مقدمة كتابه (ألحان السماء)، فيقول: لماذا انحدر المستوى على هذا النحو الذى لم يكن يتوقعه على الإطلاق؟ أين لجان الاستماع بأجهزة الإعلام؟ أين الأساتذة الذى كانوا حجة فى علم القراءات؟ وكتب باكيا على الماضى: «اكتشفت فى الغربة السر وراء الطلب الذى تقدم به الملك محمد الخامس إلى السلطات الفرنسية وهو فى منفاه الإجبارى للسماح له بالاحتفاظ بعدة اسطوانات للشيخ عبد الباسط عبد الصمد. واكتشفت السر وراء استدعاء الشيخ الشعشاعى وزميله الشيع شعيشع إلى بغداد لإحياء ليالى مأتم الملك غازى ملك العراق واكتشفت السر وراء إصرار عثمان حيدر آباد أحد أمراء الهند العظماء وأحد أثرياء العالم فى عصره على دعوة شيخ القراء محمد رفعت لإحياء ليالى شهر رمضان فى قصره العظيم مقابل أية كمية من الذهب يطلبها الشيخ». التلاوة القرآتية فن مصرى حصرى يلتزم القارئ فيها بقالب فنى تتوافر فيه عناصر الدراما الثلاثة، كما حددها د. رشاد رشدى فى كتابه (القصة القصيرة) وهى البداية والوسط والنهاية، فتبدأ من مقام موسيقى غالبا ما يكون إما «البياتى» أو «الراست» ثم يتفرع منه بنغم متصاعد فى مقامات من أقرباء المقام الأصلى، وقبل أن ينهى قراءته يكون قد عاد إلى المقام الأول الذى بدأ التلاوة منه.