تمر اليوم الذكرى ال131 لميلاد الشيخ محمد رفعت و في نفس الوقت الذكرى الثلاثة و الستون لوفاته حيث عُرف الشيخ محمد رفعت بلقب (قيثارة السماء) لما يتمتع صوته بالحلاوة و الطلاوة و الخشوع و المساهمة في تدبر معاني القرآن الكريم بما يزينه بصوته لآي الذكر الحكيم مصداقًا لقول الرسول الكريم: (زينوا القرآن بأصواتكم). من خلال صوت الشيخ محمد رفعت عند الإستماع إليه في مختلف محطات الإذاعة نتذكر دائمًا على مدار العام شهر رمضان الكريم من خلال قراءته للقرآن الكريم و من خلال أذانه الشهير الذي يأتي في القمة لكل من أذن للصلاة بعد أذان داعي السماء بلال بن رباح مؤذن الرسول الكريم. ولد الشيخ (محمد رفعت) يوم الإثنين 9 مايو من عام 1882 بحي المغربلين بالقاهرة و فقد بصره و هو في الثانية من عمره فلقد كان جميل العينين و حسدته امرأة كانت جارتهم بالحي لحلاوة عيناه قائلة: له عيون ملوك فالعين حق تدخل الجمل القدر وتدخل الرجل القبر. (الشيخ رفعت يتوسط صديقاه من فلسطين و أعلاه أولاده الثلاثة) بسبب هذه الكلمة أصيبت عيناه بالعمى نتيجة مرض الرمد و هنا كانت للأقدار تدابير أخرى رغم مأسوية الملحمة الحياتية لرفعت الذي فقد نور عيناه و تلاعب الظاهر بأن ما أصابه نهاية المطاف لكن كما قال الزعيم الكبير مصطفى كامل: (لا حياة مع اليأس و لا يأس مع الحياة) ، و لأن للأقدار أيادي رحيمة تربت على جسد الإنسان ليُشحن بالراحة و الهوادة من أجل الإستمرار في الحياة عبر جرعات الأمل المنعشة للوصول إلى النجاح المأمول رغم كل الصعوبات فمن الألم يولد الأمل و كما قال الشاعر الفرنسي الكبير (ألفريد دي موسيه): (لكي نكون عظماء فلابد من ألم عظيم). بعد هذا المصاب الجلل لم يستسلم الأب لما أصاب ولده فإذ به يتقبل قضاء الله بصدر رحب و قلب منشرح ليسخر ولده في خدمة القرآن الكريم ليُلحق ولده و هو في الخامسة من عمره لكتاب بشتك بمسجد (فاضل باشا) بدرب الجماميز بحي السيدة زينب بالقاهرة و أتم حفظ القرآن و هو في التاسعة من عمره و درس علم القراءات العشر و علم التفسير ثم المقامات الموسيقية على أيدي مشايخه الكبار و توفي الأب الذي كان مأمورًا بقسم الخليفة و الإبن في التاسعة من عمره ليكون هو العائل لأسرته و السند لعائلته لتجنب أمواج الحياة المتلاطمة ليجد في القرآن الكريم طوق النجاة و جسر الأمل لعبور صعوبات الحياة ليقرأ القرآن في السرادقات المختلفة ما بين ليالي رمضان و المآتم و الأفراح لينتشر اسمه بين الناس و ليُعرف عنه التمكن في القراءة من خلال مخارج ألفاظه السليمة و الواضحة مع تعايشه للآيات الكريمة مما يضفي على التلاوة التي تصل للأسماع المصداقية و المعايشة مع معاني الذكر الحكيم إلى جانب الخشوع التام وقت القراءة ليجعل المستمع لا ينشغل إلا بتدبر كل آية يقرأها. في عام 1918 تولى محمد رفعت قراءة السورة يوم الجمعة بمسجد (فاضل باشا) بدرب الجماميز هذا المسجد الذي أسسه على التلاوة الصحيحة ليكون منبع شهرته و إلتفاف الناس حوله إلى جانب أن هذا المسجد كان منبرًا من منابر ثورة عام 1919 حيث كتبت الأقدار لرفعت أن يكون نبراسًا للثورة من الناحية الإيمانية و الروحانية لأن إستمرارية الأشياء تأتي من قوة الإيمان فكانت ثورة عام 1919 التي إندلعت ضد الإستعمار البريطاني إتسمت بقوتها عبر ثلاثة أضلاع هامة لهرمية الثورة و تلك الأضلاع هي: 1 – سعد زغلول – الضلع السياسي. 2- سيد درويش – الضلع الفني. 3- محمد رفعت – الضلع الروحاني. كان الثوار يجتمعون في صلاة الجمعة بمسجد فاضل باشا ليشحنوا أنفسهم بطاقة روحانية تنبعث من هذا الصوت الممزوج بخلق و نورانية القرآن ليبدأ الكفاح من قوة الإيمان و ما ساهم في تميز الشيخ رفعت معاصرته لكوكبة من نجوم دولة التلاوة فلقد تتلمذ على يد أول مقريء في دولة التلاوة بمصر الحديثة الشيخ (أحمد ندا) الذي حول قبلة التلاوة من القراءة في المدافن مقابل أجر رمزي أو عيني إلى القراءة في قصور الخديوي و الأمراء و الأعيان الكبار و الذي مات عام 1934 قبل افتتاح الإذاعة بفترة وجيزة لنُحرم من كنز قرآني تراقصت الأقلام بالكتابة عن روعته في الأداء القرآني و عاصر الشيخ رفعت الشيخ علي محمود المنشد و المقريء الكبير و الشيخ منصور بدار قاريء (سعد زغلول) و الشيخ (محمد سلامة) و الشيخ (زكريا أحمد) و الشيخ (أبو العلا محمد) و (عبده الحامولي) و كانت مآذن القاهرة تتبارى بكل إئتلاف بأصوات مرتلي و منشدي ألحان السماء. كان هناك تخوفًا كبيرًا لمشايخ القرآن الكريم بتسجيل القرآن على إسطوانات لأن هناك من أفتى من مشايخ الأزهر بأن تسجيل القرآن على إسطوانات حرام لأن تلك الإسطوانات يسجل عليها أغاني و رقصات خليعة مما جعل المقرئين يمتنعون عن تسجيل القرآن في تلك الإسطوانات و جاءت تلك الفتوى لتحرمنا من صوت الشيخ رفعت في ريعانه و قوته في العشرينات و الثلاثينات و تحرمنا من الشيخ أحمد ندا الذي عُرف بقوة الصوت و روعة الأداء و ظل هذا التخوف مستمرًا إلى أن جاء الشيخ الجليل شيخ الأزهر (محمد الأحمدي الظواهري) ليجيز تسجيل القرآن على إسطوانات مادام هذا فيه سعة لإنتشار الذكر الحكيم. (مقطع من سورة مريم) في عام 1934 تحديدًا يوم 31 مايو أفتتح الشيخ محمد رفعت عبر صوته الملائكي الإذاعة المصرية حينما تلى سورة (الفتح) و هنا عانق صوت قيثارة السماء أذن المستمعين ليكون أول قاريء يخاطب الأثير عبر تاريخ دولة التلاوة و ليفتح المجال لباقي المقرئين لإختراق الصندوق السحري لتلاوة الذكر الحكيم ليدخل الإذاعة المشايخ (عبد العظيم زاهر – علي حزين – صديق المنشاوي – علي محمود – أحمد سليمان السعدني – محمد سلامة) و تجتذبه الإذاعة البريطانية (البي بي سي) ليسجل عندها القرآن الكريم و كان الشيخ رفعت متخوفًا من التسجيل لإذاعة أجنبية و لإذاعة دولة مستعمرة لكن جاء الشيخ المراغي يطمئنه بأنه غير حرام ليسجل الشيخ رفعت في تلك الإذاعة سورة (مريم). كان هناك زكريا باشا مهران أحد أعيان أسيوط الذي سخر نفسه لتتبع خطوات الشيخ (محمد رفعت) لتسجيل ما يتلو من سور القرآن الكريم و كان له دور كبير في تسجيل سورة (الكهف) عام 1937 بمسجد (فاضل باشا) بدرب الجماميز بحضور الزعيم الكبير (مصطفى باشا النحاس) و كانت في قسم السيدات وقت هذا التسجيل كوكب الشرق (أم كلثوم) و كأن هذا المسجد سخر عبر صوته لتوحيد صفوف الشعب في بوتقة واحدة نحو قبلة تلاوة الشيخ (محمد رفعت) و كان الشيخ رفعت أداة الوحدة الوطنية بين المصريين مسلمين و أقباط حيث أجتمع الطرفين على حب الشيخ رفعت و كان الأقباط يحبون الإستماع له و هو بقرأ سورتي (مريم) و (آلعمران) و رويت قصصًا أسطورية عن إسلام العديد من الأجانب من خلال سماعهم لرفعت فهناك الجندي الكندي الذي كان متواجدًا ضمن القوات البريطانية و إستمع له عبر الإذاعة و طلب أن يقابله و عند مقابلته لرفعت بكى الجندي الكندي بكاءً شديدًا قائلاً: لقد عرفت الآن سر الألم الكامن في صوته الجميل. (مقطع من سورة يوسف) كان للشيخ (محمد رفعت) تسجيلاً واحدًا لأنشودة دينية لم يعرف الناس بأنه رفعت بناءً على رغبته حتى لا تتقلص شعبيته في قراءة القرآن و كان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب من أشد المتأثرين برفعت حينما سأله الأستاذ محمود السعدني عن علاقته برفعت في برنامج (ألحان السماء) بالإذاعة قال: كنت صديقه و عند قراءته للقرآن أكون خادمًا له تحت قدميه. كان الشيخ رفعت من أكثر القراء الذين لم ينتفعوا من القرآن كمصدر رزق بل جعل نفسه جنديًا من جنود كتاب الله مما أشعر الناس و هو خادمًا مخلصًا لكتاب الله بأن صوته من رياحين الجنة و هنا جاء الإختبار العظيم من الله لصوت رفعت ذو النفحة الشجية برياحين الجنة حينما جاء عام 1943 الذي حمل في جعبته إصابة الشيخ رفعت بسرطان الحنجرة الذي تسبب في إحتباس صوته مع وجود الزغطة التي تسببت في وهن القيثارة الإيمانية و كان في حاجة إلى المال و لكنه قابل هذا المرض بصبر من تعلق قلبه بالقرآن قائلاً: هذا قضاء الله و قدره و أنا راضٍ به. في عام 1949 قام الكاتب الكبير (أحمد الصاوي محمد) بنشر إكتتاب لعلاج الشيخ رفعت من خلال جمع تبرعات ممن أحبوه و تيموا بصوته في مجلة (المصور) و عند جمع المال و عرضه على الشيخ رفض رفعت بأدب جم قائلاً: (أعتذر عن قبول هذه التبرعات ..وإن مرضي بيد الله وهو القادر على شفائي وإني لأشكرك وأرجو أن تشكر كل الذين جمعوا لي هذه التبرعات على روحهم الطيبة وحبهم لي). عند سماع الكاتب (أحمد الصاوي محمد) رسالة الشيخ رفعت كتب في الأهرام الآتي: (يثني على عفة الشيخ رفعت وأخلاقه وتأثير القرآن عليه في سمو نفسه). (مقطع من سورة هود) في عام 1950 تحديدًا يوم الإثنين 9 مايو يوم ميلاد الشيخ رفعت توفي إلى رحمة الله تعالى وسط بكاء كل من عانقوا الأثير ليتعلموا عن حق و إتقان قراءة كتاب الله لدرجة أن أحد الجزارين بالسيدة زينب أقسم أنه لن يُدفن الشيخ رفعت إلا في القبر الذي خصصه له و عند سماع مفتي سوريا لخبر وفاة الشيخ رفعت بكى بشدة و قال: رحم الله الشيخ رفعت فبصوته جدد شباب الإسلام. حينما سُئل إمام الدعاة الشيخ (محمد متولي الشعراوي) عن أفضل المقرئين في برنامج (من الألف إلى الياء) عام 1989 من مقدمه (طارق حبيب) قال الشيخ: (إذا أردنا أحكام التلاوة فعلينا بالحصري و إذا أردنا الصوت الجميل فعلينا بعبد الباسط عبد الصمد و إذا أردنا النفس الطويل و الفن الأصيل فعلينا بمصطفى إسماعيل و إذا أردنا أن نجمع بين كل هؤلاء بمنتهى الائتلاف فعلينا بالشيخ رفعت). الآذان بصوت الشيخ رفعت