الحصرى قمة الأحكام وعبد الباسط الصوت الجميل ومصطفى إسماعيل الفن الرفيع المستحيل والشيخ محمد رفعت جامع كل هؤلاء فى شهر أبريل عام 1959 صدر لأول مرة كتاب «ألحان السماء» للكاتب الصحفى الراحل محمود السعدنى.. سعى فيه إلى الكشف بالرصد والتحليل عن كنز ثمين، حبا الله به مصر، متمثلا فى ذلك الفن العظيم؛ فن قراءة القرآن الكريم وكبار شيوخ التلاوة.. ومن المفارقات أنه قبل موعد صدور الكتاب بعدة أيام كان المؤلف قد أصبح نزيل سجن القلعة متهما بالشيوعية!. على أى حال، صدر الكتاب - الذى لم يتمكن صاحبه من الإطلاع عليه أو الاحتفاظ بنسخة منه إلا بعد ذلك بسنوات- بمقدمة كتبها إمام الدعاة الشيخ محمد متولى الشعراوى، قال فيها إن هؤلاء الكبار قد ارتضوا أن يكون حظهم من المجتمع فى هذه المكانة، وارتضوا أن تكون مكانتهم عند الله، لأنهم الصدى الحلو من كلام الله، وحسبهم أنهم كانوا جنودا لكلمة الله.. (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).. فهؤلاء من جنود الحفظ، وقادة التحفيظ، ومنهم استقبل العلماء ما فسروا، وأخذ الفقهاء عنهم ما اجتهدوا، وأخذ الأدباء منهم ما دبجوا به عيون المقال، وفصل الخطاب، وهم الذين صححوا لكل لسان كيف يتكلم بالقرآن. ويضيف الشيخ الشعراوى فى مقدمة الكتاب قائلا: إن هذه الكتيبة من القراء الذين شدوا بألحان السماء، وبتأليف الله لهم، لم يكونوا مكررين لا أداء، ولا أصواتا، ولا لحنا، بل لكل واحد منهم نغم يخدم النص. فمنهم قمة الأحكام كالحصرى مثلا، ومنهم قمة الصوت الجميل كعبدالباسط، ومنهم قمة الفن الرفيع الرائع المستحيل الجميل كمصطفى إسماعيل، ومنهم جامع كل ذلك فى ائتلاف لا يرتفع فيه فن على فن كالشيخ محمد رفعت، فهو كل هؤلاء جميعا، ويزيد أنه عالم بما يقرأ، تستطيع أن تفهمه بمجرد نطقه للكلمة، ولمحبيه فى عصره حكايات عن هذا الفهم الرائع لما كان يقرأ فى مسجد فاضل بدرب الجماميز. وفى الختام يقول إمام الدعاة: «رحمهم الله جميعا، ورضى عنهم، وجعل منهم أسوة للجيل القادم، لا يستنكفون أن يكونوا كما تسميهم العامة «فقهاء» وهم فى الحق «فقهاء» بمفهوم الخاصة ورعى الله الأستاذ السعدنى وجعل ما قدم فيهم تاجا لما قدم فى سواهم، فسواهم خدم كلام الناس، وهؤلاء خدموا كلام الله.. بارك الله فيك يا محمود، وبارك منك، لتكون أسوة لإخوانك فرسان القلم، ليجعلوا من كتاباتهم جانبا لله، فذلك خير وأبقى». أما المؤلف الراحل محمود السعدنى فيوضح فى كتابه، فى طبعته الثانية، قائلا: لم أفكر فى إعادة طبع الكتاب إلا بعد رحلة السياحة الطويلة التى قمت بها مرغما خارج مصر، وبعد أن اكتشفت خلال الطواف بأنحاء العالم العربى كم هو ثمين هذا الكنز، الذى وهبنا الله إياه، متمثلا فى هذا الفن العظيم، فن قراءة القرآن الكريم. واكتشفت خارج الحدود السر وراء الطلب الذى تقدم به الملك محمد الخامس إلى السلطات الفرنسية وهو منفاه الإجبارى للسماح له بالاحتفاظ بعدة اسطوانات للشيخ عبدالباسط عبدالصمد. واكتشفت السر وراء استدعاء الشيخ الشعشاعى وزميله الشيخ شعيشع إلى بغداد لإحياء ليالى مأتم الملك غازى ملك العراق. واكتشفت السر وراء إصرار عثمان حيدر آباد أحد أمراء الهند العظام وأحد أثرياء العالم فى عصره على دعوة شيخ القراء الشيخ محمد رفعت لإحياء ليالى شهر رمضان فى قصره العظيم مقابل أى كمية من الذهب يطلبها الشيخ رفعت. وبعد عودتى إلى مصر، هالنى مدى الفرق الرهيب بين مشايخ الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وبين ما نسمعه الآن، خصوصا السادة المشايخ الذين احترفوا تلاوة القرآن فى جهاز التليفزيون.. أصوات ملساء وأخرى صلعاء، وأغلبها بلا نبض ولا إحساس. ويتساءل قائلا: ما الذى جرى؟ وكيف تغيرت الأحوال؟ ولماذا انحدر المستوى على هذا النحو الذى لم يكن يتوقعه أحد على الإطلاق؟ أين لجان الاستماع بأجهزة الإعلام؟ أين الأساتذة الكبار الذين كانوا حجة فى علم القراءات، كالشيخ محمد الصيفى، والشيخ محمد الفيومى، والشيخ منصور الشامى الدمنهورى؟ أين أصحاب الحناجر الذهبية التى كانت تحلق بأفئدة الناس إلى السماوات العلا كالشيخ منصور بدار، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ عبدالباسط عبدالصمد؟ أين المشايخ العظام الذين قدموا ألوانا من فن التلاوة كتب لها الخلود مع الأيام؟ أين الشيخ الشعشاعى، والشيخ عبدالعظيم زاهر، والشيخ أحمد سليمان السعدنى، والشيخ محمد صديق المنشاوى، والشيخ محمود على البنا، والشيخ فريد السنديونى، والشيخ محمود عبدالحكم؟. ويقول السعدنى بحسم: هناك أكذوبة ضخمة تتردد هنا وهناك اختلقتها وأشاعتها جماعات الإرهاب، التى ترفع شعارات دينية تقول إن الصوت الجميل يتعارض مع القراءة الشرعية، وهى أكذوبة بلا جدال، لأن سيد الخلق جميعا ونبى الإسلام ورسول الله إلى الناس جميعا سيدنا محمد بن عبدالله كان له رأى يختلف عن رأى جماعات الإرهاب. فقد عزم الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على تعليق جرس كبير فوق سطح أول مسجد أقيم فى الإسلام.. وبينما الصحابة منهمكون فى رفع الجرس فوق سطح المسجد، إذ جاء أحد الصحابة وقال للرسول عليه الصلاة والسلام : يا رسول الله، لقد رأيت فيما يرى النائم أننى أصعد على سطح هذا المسجد وأنادى المسلمين للصلاة بدعاء، وراح الرجل يردد الدعاء الذى رآه فى المنام: «الله أكبر.. الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمدا رسول الله.. حى على الصلاة.. حى على الفلاح.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله». وبدت السعادة على وجه الرسول الكريم وقال للرجل: نعم ما رأيت، وتهللت أسارير الرجل وتوجه قاصدا الصعود على سطح المسجد ليؤذن للصلاة، ولكن الرسول الكريم استوقف الرجل بحزم وقال له: دع بلال يؤذن، إنه أندى منك صوتا. هذا قانون من قوانين الإسلام وضعه الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه، قانون يمنع الجمع بين وظيفتين فى وقت واحد، فمن حق هذا المسلم أن يحلم وهو مأجور على حلمه الجميل، ولكن يؤذن؟ فلا وألف لا، لأن رفع الآذان وظيفة سيدنا بلال، ولسبب بسيط، هو أنه أندى صوتا، وبعبارة أخرى، صوته أجمل وأمتع!. وإذا كان هذا هو حكم رسول الله ونبى الإسلام، فمن هو هذا الذى من حقه أن يحكم بعد ذلك؟. ويمضى الكاتب الراحل ليقول إن الشيخ على محمود يرحمه الله كان يرفع الآذان من فوق مئذنة سيدنا الحسين، فيجتمع عشرات الألوف فى الميدان للاستماع إلى آذان الشيخ، واليوم نستمع إلى عشرات الميكروفونات عبر الشوارع والساحات، فنتمنى أن نهاجر بعيدا عن هذه الأصوات، كان الشيخ على محمود ينفذ وصية رسول الله، وهؤلاء السادة من أصحاب الأصوات القبيحة يتحدون رسول الله عليه الصلاة والسلام ويخالفون وصيته. ويختتم محمود السعدنى مقدمته للكتاب قائلا: على العموم، هذا هو كتابى «ألحان السماء» بين أيديكم، وأرجو أن أكون قد أديت الأمانة، كما ينبغى أن تكون، وأرجو أن يكون للعبدلله أجر المجتهد، وفى الإسلام للمجتهد المخطئ أجر واحد، وللمجتهد المصيب أجران.. وألف رحمة ونور على المشايخ الكبار الذين سبقونا إلى رحاب الله، ونسأل الله التوفيق للمشايخ الذين على قيد الحياة.