رب يسر وأعن جاء فى تاريخ الخلفاء أن أبا نعيم أخرج في «الحلية» عن أبي صالح قال: لما قدم أهل اليمن زمان أبي بكر وسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست قلوبنا. ويشرح الإمام أبو حامد الغزالى فى كتاب آداب "السماع والوجد" من "إحياء علوم الدين"، أن الغناء أشد تهييجا من القرآن من سبعة أوجه على ما ذكر. ومن هذه الأوجه ما يشرح لنا لماذا لم يبك أبو بكر. فإن القرآن إذا كان محفوظا ومتكررا فلن يحرك ساكنا؛ وبالتالى فدموع أبى بكر لم تنزل "لما حصل له من الأُنس بكثرة استماعه". من الآراء الطريفة التى يذكرها الأستاذ محمود السعدنى فى كتابه "ألحان السماء" أن الشيخ محمد سلامة كان لا يخفى استنكاره للطريقة التى يقرأ بها الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، باعتبار أن قراءة القرآن تحتاج إلى صوت قوي ووقور، أما الصوت "الجميل" فليس مستحبا! وفي ظنى، وليس كل الظن إثمًا، أن أبا بكر الصديق لو سمع القرآن بهذه الأصوات "الجميلة" لرق قلبه ولان. الكتابة عن الشيخ عبد الباسط ممتعة، خاصة وأنا أكتب وأنا فى رحاب صوته الآن. وكتابتى فى حدود ما تيسر لى من المعرفة. من يدخل مسجد السيدة زينب سوف يجد على المقصورة عبارة منقوشة تقول: يا سيدة زينب يا بنت فاطمة الزهراء مددك. وكان المدد فى انتظار الشيخ عبد الباسط، الذى جاء إلى القاهرة فى عام 1950 بغرض زيارة السيدة زينب فى ذكرى يوم مولدها. يومها كان يحيى هذه الليلة الكبيرة أكابر القراء فى هذا الوقت، كان هناك الشيخ الشعشاعى ومصطفى إسماعيل وعبد العظيم زاهر وأبو العينين شعيشع وغيرهم. وفى أثناء إحدى الاستراحات تقدم قريب الشيخ عبد الباسط إلى إمام المسجد -وقتها- الشيخ على سبيع، ليطلب الإذن لقريبه ليقرأ ما تيسر له من آى الذكر الحكيم. جلس الشيخ عبد الباسط يومها مكان كبار المشايخ وانساب صوته بقول الله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما". وظل جمهور المستمعين، بمن فيهم المشايخ، يطلبون المزيد، فقد كان صوته بردًا وسلامًا على القلوب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ومع أن الشيخ كان مشهورا فى قريته وفى القرى المجاورة قبل هذا اليوم، إلا أن تلك الليلة كانت بمثابة الفتح المبين، والشهرة الكبيرة، ليس فى مصر المحروسة وحدها، بل فى العديد من بلاد الله. ليس هناك ذكر لليوم أو الشهر الذى ولد فيه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فقط العام 1927 الموافق لعام 1346 من الهجرة. بقرية المراعزة بمدينة أرمنت، محافظة قنا. التحق بالكتاب وهو فى السادسة من عمره، وأتم حفظ القرآن كاملا وهو دون العاشرة على يد الشيخ محمد الأمير. ويذكر، رحمه الله، فى مذكراته أنه أتم حفظ القرآن الذى كان يتدفق على لسانه كالنهر الجارى. وكان والده موظفا بوزارة المواصلات، وكان جده من العلماء، فطلب منهما أن يتعلم القراءات، فأشارا عليه أن يذهب إلى طنطا بالوجه البحرى ليتلقى علوم القرآن والقراءات. وقد راجع القرآن وحفظ الشاطبية، وهى: متن "حرز الأمانى ووجه التهانى فى القراءات السبع"، المعروفة عند الناس ب"متن الشاطبية" للإمام أبى القاسم الشاطبى الأندلسى. وأتمها على يد الشيخ المُتقن محمد سليم حمادة. وانهالت الدعوات من كل مدن وقرى محافظة قنا بمساعدة شيخه محمد سليم الذى زكاه فى كل منزل ينزله، وشهادته كانت محل ثقة الناس. وكانت الاحتفالات فى الصعيد تماما كما فى القاهرة بالموالد والليالي، وعادة ما تكون ميدانا للقراء يتبارون فيه. وكان للصعيد قراؤه ومنهم: الشيخ صديق المنشاوي وهو والد الشيخين محمد ومحمود صديق المنشاوي، وغيرهم من القراء أصحاب الصيت. بدأ الشيخ عبد الباسط فى احتراف قراءة القرآن عام 1940، ويذكر الأستاذ محمود السعدنى أن أولى لياليه كانت فى قريته، فى مأتم أحد أقاربه، وقرأ عشر ساعات كاملة بعشرة قروش فضية. ومع نهاية عام 1951 طلب الشيخ نور الدين علي محمد حسن الملقب بالضبّاع، شيخ عموم المقارئ المصرية وقتها، من الشيخ عبد الباسط أن يتقدم لاختبارات الإذاعة، غير أن الشيخ عبد الباسط أراد أن يرجئ الأمر لحين إنهاء ارتباطاته، وكذلك ترتيب أموره للإقامة بالقاهرة. إلا أن الشيخ الضباع كان قد حصل على تسجيل الليلة الزينبية التى سبق وذكرناها، وكان يومها أحد الحاضرين، وقدمه للجنة الاستماع بالإذاعة وكانت تضم الشيخ الضباع نفسه، والشيخ محمود شلتوت، قبل أن يتولى إمامة الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا. انبهرت اللجنة بالأداء الجميل والمُحكم وتم اعتماده ليكون أحد النجوم النيّرة للإذاعة المصرية. مما جعل الشيخ، وفى خلال بضعة أشهر من التحاقه بالإذاعة، يأتى وأسرته للإقامة الدائمة بالقاهرة، من أرمنت إلى مصر المحروسة، وعلى وجه التحديد إلى حى السيدة زينب بنت فاطمة الزهراء، صاحبة المدد. هناك العديد من الطرائف الواردة فى سيرة الشيخ عبد الباسط، فهناك أحيانا إشارة لدى من يكتب عن سيرته للمقارنة بينه وبين الشيخ محمود الطبلاوى، فعبد الباسط قُبل فى الإذاعة دون أن يحضر الاختبار، بينما الشيخ الطبلاوى تقدم إلى الاختبار تسع مرات ولم ينجح إلا فى المرة العاشرة. ومن الحكايات الطريفة، أيضا، أن صوت عبد الباسط كان أحد أسباب انتشار ورواج الراديو فى مصر. فالناس كانت تنتظر تلاوته مساء يوم السبت من كل أسبوع. وقد سجل القرآن برواية حفص عن عاصم للإذاعة مع الأربعة الكبار: الشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمود علي البنا والشيخ محمد صديق المنشاوي. وما زالت هذه التسجيلات تذاع إلى الآن في إذاعة القرآن الكريم. وشخصيا فقد تربيت على هذه الأصوات السليمة، وفى البداية كنت أتدرب مع صوت عبد الباسط، لأنه صوت قريب من صوت الأطفال. ثم اخترت أن أُكمل الطريق مع صوت الشيخ مصطفى إسماعيل. وكل من يدرس أحكام التلاوة وعلم القراءات يعرف فضل المصحف المرتل لهؤلاء الخمسة، وفضل المصحف المعلم الذى سجله الشيخ محمود الحصرى، فى ضبط أحكام التلاوة. وكان الشيخ عبد الباسط يحب صوت الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل، ويذكر أنه كان يسير عشرات الكيلو مترات يومي الثلاثاء والجمعة ليستمع للصوت الشجى للشيخ رفعت فى الراديو، كانت أجهزة الراديو في ذلك الوقت قليلة ولا يملكها الكثير من الناس. فى عام 1952 تم تعيين الشيخ عبد الباسط قارئا للسورة بمسجد الإمام الشافعى، ثم قارئا لمسجد الحسين عام 1985 خلفا للشيخ محمود على البنا، وأصبح أول نقيب للقراء عام 1984 وظل في هذا المنصب حتى وافته المنية فى 30 نوفمبر 1988 والموافق لعشر بقين من ربيع الآخر 1409. طاف الشيخ عبد الباسط معظم بلاد المسلمين وغيرها، ورتل القرآن فى مكة والمدينة، وفى المسجد الأموى الكبير. كما قرأ القرآن بأكبر مساجد إندونيسيا، وافتتح مسجد "كتشاوا" بالجزائر وقرأ بساحة الشهداء، وذهب إلى العراق والمغرب وليبيا وفلسطين وماليزيا والهند وباكستان وبورما وجنوب إفريقيا وكينيا ومعظم الولاياتالمتحدةالأمريكية وإنجلترا وفرنسا التى ارتدى فيها لأول وآخر مرة فى حياته البدلة وهو يمشى فى شوارع باريس. كان يقول، رحمه الله: إن القارئ للقرآن لا يملك آلة موسيقية ولا تختًا، اللهم صوتَه وأحكام التجويد والقراءة. ذلك الصوت الساحر الذى أسر الناس فى كل تلك البلاد. مر الشيخ عبد الباسط بمرحلتين صوتيتين فى حياته، فالتسجيلات الأولى كانت بطبقة صوتية تعرف لدى المتخصصين فى الموسيقى بال(Alto) وهى أعمق أصوات النساء وأخفضها. لكن الغالب على حياته هو صوت ال(Tenor) وهى أعلى أصوات الرجال. وبعض التحليلات تكتفى بهذه الطبقة الصوتية لوصف صوت الشيخ عبد الباسط بشكل عام. بعبارات بسيطة يمكن وصف صوت الشيخ عبد الباسط،عموما، بأنه كان صوتا ذهبيا صادحا ونقيا. وكانت مساحة صوته واسعة، فيعتمد فى أدائه على الركزات فى الجوابات العالية، دون أن يعصيه صوته أو "يخس" منه مرة واحدة. ويظهر هذا فى المصحف المجود. وكان يملك نفسا طويلا يستطيع أن يؤدى به أكثر من آية. والتسجيلات الأخيرة له تظهر صوته أرفع من صوته المعتاد، لكن، مع ذلك، كان صوته يلمع أكثر فأكثر وكأنه يذهب ليكتشف منطقة ومساحة جديدة فيه. وكان طول نفسه يجعله يتحرك بطلاقة لا بين المقامات فحسب، ولكن بين القراءات أيضا وبتمكن كبير، فيقول من سورة يوسف، مرة: (هيت لك، ومرة: هئت لك، ومرة: هيْت لك). وتلك هى القراءات السبع المتواترة كاملة لهذه الكلمة. وفى كل مرة كان المستمع يطلب الإعادة، وفى كل مرة يأتيه الشيخ من حيث لا يحتسب. فهو يحكى قصة سيدنا يوسف ويصورها بصوته. فكان، مثل الشيخ رفعت، لديه موهبة فطرية على تطويع صوته حسب المشاهد القرآنية. وكان الشيخ عبد الباسط يرى أن قارئ القرآن هو فنان بالأساس. ومطربه المفضل هو محمد عبد الوهاب، خاصة حين ينشد: فى الليل لما خلى. وكان يرى أن أم كلثوم معجزة، مثل الشيخ رفعت، لن تتكرر. وهكذا يمكننا أن نقول عن الشيخ عبد الباسط إنه، أيضا، لن يتكرر وتلك سنة الله فى خلقه.