تعليم الجيزة تحصد المراكز الأولى في مسابقة الملتقى الفكري للطلاب المتفوقين والموهوبين    عمال الجيزة: أنشأنا فندقًا بالاتحاد لتعظيم استثمارات الأصول | خاص    التعليم العالي تعلن فتح برامج المبادرة المصرية اليابانية للتعليم EJEP    الكويت ترحب بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعادة النظر بعضوية دولة فلسطين    تقرير إدارة بايدن يبرئ إسرائيل من تهمة انتهاك القانون الدولى فى حرب غزة    القاهرة الإخبارية: الإمارات تستنكر دعوة نتنياهو لإدارة قطاع غزة    في أقل من 24 ساعة.. «حزب الله» ينفذ 7 عمليات ضد إسرائيل    كرم جبر: على حماس أن تستغل الفرصة الراهنة لإحياء حلم «حل الدولتين»    محمود ناصف حكم مباراة الأهلى وبلدية المحلة.. وأمين عمر لمواجهة المصرى وبيراميدز    جوميز يركز على الجوانب الفنية فى ختام ثانى تدريبات الزمالك بالمغرب    إبراهيم سعيد ل محمد الشناوي:" مش عيب أنك تكون على دكة الاحتياطي"    فوزى لقجع ورضا سليم يتوسطان للصلح بين حسين الشحات والشيبى    إصابة 13 عاملا إثر حادث سيارة في الغربية    طقس معتدل في محافظة بورسعيد بعد العاصفة الترابية.. فيديو وصور    مصرع شخص صدمته سيارة طائشة في بني سويف    المهم يعرفوا قيمتي، شرط يسرا لوجود عمل يجمعها مع محمد رمضان (فيديو)    إحالة جميع المسؤولين بمديرية الصحة بسوهاج للتحقيق    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الكبير.. سعر الذهب والسبائك اليوم السبت 11 مايو 2024 بالصاغة    " من دون تأخير".. فرنسا تدعو إسرائيل إلى وقف عمليتها العسكرية في رفح    قرار عاجل من ريال مدريد بشأن مبابي    مباريات اليوم السبت 10-05-2024 حول العالم والقنوات الناقلة    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك يوماً يتجلّى فيه لطفك ويتسع فيه رزقك    مواعيد مباريات اليوم.. الأهلي ضد بلدية المحلة.. ونهائي أبطال آسيا وتتويج مرتقب ل الهلال    موازنة النواب عن جدل الحساب الختامي: المستحقات الحكومية عند الأفراد والجهات 570 مليار جنيه    عز ينخفض لأقل سعر.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 11 مايو بالمصانع والأسواق    الزراعة: زيادة الطاقة الاستيعابية للصوامع لأكثر من 5 ملايين طن    مأمورية من قسم الطالبية لإلقاء القبض على عصام صاصا    آبل تخطط لاستخدام شرائح M2 Ultra فى السحابة للذكاء الاصطناعى    خبير دستوري: اتحاد القبائل من حقه إنشاء فروع في كل ربوع الدولة    السياحة عن قطع الكهرباء عن المعابد الأثرية ضمن خطة تخفيف الأحمال: منتهى السخافة    حظك اليوم وتوقعات الأبراج السبت 11 مايو على الصعيد المهنى والعاطفى والصحى    برج الجدى.. حظك اليوم السبت 11 مايو: تجنب المشاكل    عمرو دياب يحيى حفلا غنائيا فى بيروت 15 يونيو    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    أبناء السيدة خديجة.. من هم أولاد أم المؤمنين وكم عددهم؟    الشعبة تكشف تفاصيل تراجع أسعار الدواجن والبيض مؤخرًا    تناول أدوية دون إشراف طبي النسبة الأعلى، إحصائية صادمة عن حالات استقبلها قسم سموم بنها خلال أبريل    زيادات متدرجة في الإيجار.. تحرك جديد بشأن أزمة الإيجارات القديمة    النائب شمس الدين: تجربة واعظات مصر تاريخية وتدرس عالميًّا وإقليميًّا    الحكومة اليابانية تقدم منح دراسية للطلاب الذين يرغبون في استكمال دراستهم    «أنصفه على حساب الأجهزة».. الأنبا بولا يكشف علاقة الرئيس الراحل مبارك ب البابا شنودة    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    النجم شاروخان يجهز لتصوير فيلمه الجديد في مصر    القانون يحمى الحجاج.. بوابة مصرية لشئون الحج تختص بتنظيم شئونه.. كود تعريفى لكل حاج لحمايته.. وبعثه رسمية لتقييم أداء الجهات المنظمة ورفع توصياتها للرئيس.. وغرفه عمليات بالداخل والخارج للأحداث الطارئة    المواطنون في مصر يبحثون عن عطلة عيد الأضحى 2024.. هي فعلًا 9 أيام؟    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    الإفتاء تكشف فضل عظيم لقراءة سورة الملك قبل النوم: أوصى بها النبي    مصرع شاب غرقًا في بحيرة وادي الريان بالفيوم    نتائج اليوم الثاني من بطولة «CIB» العالمية للإسكواش المقامة بنادي بالم هيلز    5 علامات تدل على إصابتك بتكيسات المبيض    لأول مرة.. المغرب يعوض سيدة ماليا بعد تضررها من لقاح فيروس كورونا    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دولة التلاوة ألا من عودة
نشر في أخبار السيارات يوم 19 - 05 - 2018

كان هذا العنوان بمثابة سؤال ألحّ عليّ كثيراً في السنوات الأخيرة، وعلي الأخص حين استمع إلي قراء أيامنا هذه، ممن يحلو لوسائل الإعلام إطلاق لقب »قارئ الإذاعة والتليفزيون»‬ عليهم، ولكنني لم أجد بينهم ولو قارئا واحدا يرقي بتجويده أو ترتيله لآيات الذكر الحكيم، لا.... بل لا يداني بأدائه المتواضع الذرا السامقة، التي حلقت فيها أصوات من زهت بهم دولة التلاوة المصرية في عصرها الذهبي من عباقرة القراء، ذلك العصر الذي أشرقت أنواره في أصوات مجموعة من القراء ظهرت مع سنوات القرن التاسع عشر الأخيرة، وآذنت أضواؤه بالمغيب عندما بدأ رحيل كبار قرائه منذ ستينيات القرن العشرين.
في العصر النبوي
بدأت بواكير التغني بالقرآن في حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: »‬ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي يتغني بالقرآن ويجهر به»، والتغني بالقرآن لا يعني الغناء بما اتفق عليه في أيامنا هذه، وإنما يعني إعطاء الحروف حقها من إشباع المد وتحقيق الهمز وإتمام الحركات وتوفية الغُنّات وتفكيك الحروف، وذلك في إطار إيقاع خفيّ يتولد من النغمة التي يقرأ بها القارئ، ويجيئ المثل علي ذلك المعني للتغني بالقرآن من سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنته المطهرة، ففي حديث أورده البخاري في كتاب »‬المغازي» من صحيحه، وأخرجه مسلم كذلك في كتاب »‬الصلاة» من صحيحه، عن معاوية بن قرّة قال: سمعت عبد الله بن مغفّل المزنيّ يقول: »‬قرأ النبي صلي الله عليه وسلم عام الفتح في مسير له سورة الفتح علي راحلته، فرجعُّ في قراءته»، وقد حكي عبد الله بن مغفّل أن ترجيعه صلي الله عليه وسلم كان بمدّ الصوت في القراءة علي نحو...آ...آ...آ (صحيح مسلم: الجزء الثاني، كتاب الصلاة، ص192)، وقد أثبت مسلم كذلك في كتاب »‬الصلاة» من صحيحه حديثاً آخر عن استحسانه صلي الله عليه وسلم للتغني بالقرآن، جاء في ذلك الحديث أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لأبي موسي الأشعريّ: »‬لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود»، لذا صدحت بآيات القرآن الكريم، وعلي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، جوقة من كبار الصحابة شملت مع أبي موسي الأشعريّ (توفي سنة 44ه) كلاً من : عبد الله بن مسعود (توفي سنة 32ه) – عقبة بن عامر (استشهد يوم اليمامة سنة 12ه) – أُسيد بن حضير (توفي سنة 20ه) وسالم مولي أبي حذيفة (استشهد يوم اليمامة سنة 12ه).
في العصر الأول
شهدت تلاوة القرآن تحولاً هاماً في عصري الدولتين: الأموية والعباسية، فبعد أن كان حسن الصوت هو معيار التغني بالقرآن علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، صارت الألحان معيار التغني في ذينك العصرين، وقد أثبت عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري في الصفحة الثالثة والثلاثين من بعد الخمسمائة من كتاب »‬المعارف» مراحل ذلك التحول، فقال أولاً: »‬كان أول من قرأ بالألحان: عبيد الله بن أبي بكرة (توفي سنة 79ه)، وكانت قراءته حَزَناً، ليست علي شيء من ألحان الغناء، ولا الحداء، فورث ذلك عنه ابن ابنه عمر، وأخذ ذلك عنه الأباضيّ، وأخذ سعيد العلاف وأخوه (الهيثم العلاف) عن الأباضيّ قراءة ابن عمر»، هكذا وبإحكام مطلق ولغة شاعرة أرخ ابن قتيبة لقراءة القرآن بالألحان، ثم أثبت بعد ذلك الكيفية التي تمت بها قراءة القرآن بالألحان في عصر من تحدث عنهم من أعلام القراء، فقال : »‬وكان هارون الرشيد معجباً بقراءة سعيد العلاف، وكان يحظيه ويعطيه ويعرف بقارئ أمير المؤمنين، وكان القراء كلهم: الهيثم (يعني الهيثم العلاف) وأبان وابن أعين وغيرهم، يُدخلون في القراءة من ألحان الغناء والحداء والرهبانية، فمنهم من كان يدسّ الشئ من ذلك دساً رفيقاً، ومنهم من كان يجهر بذلك حتي يسلخه، فمن ذلك قراءة الهيثم (أي الهيثم العلاف): (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر)، سلخه من صوت الغناء كهيئة:
»‬أما القطاة فإني سوف أنعتها
نعتاً يوافق نعتي بعض ما فيها»
واختتم ابن قتيبة حديثه عن البدايات الأولي لقراءة القرآن بالألحان بالحديث عن تطور تلك البدايات علي أيدي بعض القراء، فقال عن ذلك مايلي: »‬وكان ابن أعين، يدخل الشئ ويخفيه، حتي كان (الترمذي محمد بن سعد)، فإنه قرأ علي الأغاني المولدة المحدثة، سلخها في القراءة باعيانها»، وسوف يتشعب الحديث هنا إلي شعبتين، تلم أولاهما بما ثار من خلاف حول نسب القصيدة من بحر البسيط، والتي مثل البيت السابق مستهلها، إلي شاعر بعينه، حيث نسبها أبو علي إسماعيل القالي في كتاب »‬الأمالي» إلي عُليل بن الحجاج الهجيمي (ص744)، بينما أسند أبو الفرج الأصفهاني القصيدة في الجزء الثامن من كتاب »‬الأغاني»، وعلي أصح الأقوال فيما رآه أبو الفرج، إلي عمرو بن عُقيل بن الحجاج الهُجيّمي (ص ص 258-259)، وإن كان مطلع القصيدة قد صحّف في رواية أبي الفرج ليصبح كما يلي:
»‬أما القطاة فإني سوف أنعتها
نعتاً يوافق منها بعض ما فيها»
بينما تتضمن الشعبة الثانية من الحديث ما تناقلته المصادر المختلفة عن اللحن والألحان التي وضعت للبيت السابق أو أبيات أخري من القصيدة، فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في الصفحة الحادية والأربعين بالجزء العاشر من كتاب »‬الأغاني»، أن الخليفة المعتضد صنع في البيت الأول من القصيدة لحناً من الثقيل الأول، والثقيل الأول هو أول أدوار الإيقاعات الأصول الثمانية، التي كانت متداولة عند العرب قديماً، وأطولها زماناً (غطاس عبد الملك خشبة: المعجم الموسيقي الكبير، جزء2، ص81)، هذا وقد أكد الأصفهاني كذلك أن كثيراً من المغنين صنعوا ألحاناً مختلفة لأبيات من القصيدة، التي مثل البيت السابق مستهلها، مما يجعل من تحديد اللحن الذي قرأ به الهيثم العلاف الآية رقم (79) من سورة »‬الكهف» أمراً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً.
اختلف المؤرخون كثيراً حول اسم أول من قرأ القرآن بالألحان، وأيا ما كانت الحقيقة في ذلك، فإن كتب التاريخ والأدب، حفظت أسماء جماهير من القراء، ممن ترددت أسماؤهم وتلاواتهم في العصر الأول لدولة التلاوة، ذلك العصر الذي شهدته مدن وحواضر الدولتين الأموية والعباسية بالعراق والشام، والذي جاء متزامناً مع ما شهدته حواضر الدولتين من مدارس للتصوف، ولما كان الصوفية يجيزون السماع (أي الغناء)، فإن البعض منهم تطرفوا وصاحبوا تلاوة القرآن بألحان تعزف علي آلات موسيقية كالعود والمزمار والشاهين، ومن أسبابهم في ذلك ما ذكره أبو نصر السراج الطوسيّ في كتاب »‬اللمع» بالنص التالي: »‬إن مقصود القوم في السماع، الذي يسمعون من القرآن والقصائد والذكر وغير ذلك من أنواع الحكم، ليس كله لحسن النغمة ولطيب الصوت والتنعم والتلذذ بذلك» (ص369)، لقد أطلق ذلك التطرف في تنغيم القرآن موجة مضادة من التشدد تجاهه، ذهبت أولاً إلي حد تحريمه، حتي انتهت إلي إباحة التنغيم الصوتي دون مصاحبة موسيقية، ومن القراء الذين برعوا في تلاوة القرآن خلال العصر الأول لدولة التلاوة في حواضر العراق والشام نذكر المجموعة التالية: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المقرئ وأحد القراء السبعة (توفي 169ه) – صالح بن بشير المُرّي (توفي سنة 176ه) – يحيي بن المبارك بن المغيرة العدوي اليزيدي المقرئ صاحب أبي عمرو بن العلاء (توفي 202ه)- خلف بن هشام البزّار (توفي سنة 229ه) وسليمان بن داود بن بشر المقرئ البصري المعروف بالشاذكوني (توفي سنة 234ه)، وفيما يعد هنا دلالة هامة علي ارتباط قراءة القرآن بالألحان بما بلغته صناعة الغناء من كمال وإتقان، أن تذكر أسماء بعض المغنين ممن صنعوا ألحاناً لأبيات من قصيدة عمرو بن عقيل بن الحجاج الهجيمي التي سبق الحديث عنها، ومن أولئك المغنين الذين أثبتهم أبو الفرج الأصفهاني في حديثه عن القصيدة نذكر كلاً من: إبراهيم الموصلي (توفي سنة 188ه) – ابن جامع (توفي سنة 190ه) و إسحاق بن إبراهيم الموصلي (توفي سنة 235ه)، إن ما قدمته هذه المجموعة من الأعلام لفن الغناء معروف للكافة، لذا تعد إبداعاتهم الغنائية بمثابة الدليل علي التأثير المتبادل بين قراءة القرآن بالألحان والغناء، وهو ما يقوم دليلاً عليه ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في الجزء الثامن عشر من كتاب »‬الأغاني» كما يلي: »‬سمع محمد بن سعيد القاري مهديّة جارية يعقوب بن الساحر تغني صوتاً (أي لحناً) لمخارق بحضرته، وقد كانت أخذته عنه هو:
ما لقلبي يزداد في اللهو غيّا
والليالي قد أنضجتني كيّا
سَهُلت بعدك الحوادث حتي
لست أخشي ولا أحاذر شيّا
فأحسنت فيه ما شاءت، وانصرف محمد بن سعيد، وقرأ علي لحنه (يا يحيي خذ الكتاب بقوة)» (ص270)، والآية التي قرأها محمد بن سعيد بلحن مخارق للبيتين السابقين هي الآية الثانية عشرة من سورة »‬مريم»، إن ما تردد من قراءات للقرآن بالألحان بأصوات قراء العصر الأول لدولة التلاوة في حواضر العراق والشام، تشي بمقدرتهم علي قراءة القرآن بمختلف القراءات فضلاً عن تمكنهم من أصول فن الغناء.
في العصر الثاني
لم تلبث مراكز دولة التلاوة الحضارية كثيراً بالأطراف الشرقية للدولة الإسلامية، حتي انتقلت إلي قلب الدولة في مصر، وذلك بعد قيام دولة الفاطميين بها في سنة 358ه، حيث تضافر تأسيس الفاطميين للجامع الأزهر بالقاهرة في سنة 359ه،وما تبعه من مدارس كالمدرسة الحافظية بالإسكندرية، مع اهتمام الخلفاء الفاطميين بقراءة القرآن في شتي المناسبات، ليترجم ذلك في ظهور أعداد كبيرة من القراء بمصر، لم يجتمع مثيل لهم في أي بلد من أقاليم الدولة الإسلامية، حيث يكشف تصفح كتب التاريخ والتراجم، أن ظهور أعلام القراء لم ينقطع بأرض مصر خلال كل ما توالي عليها من دول بعد دولة الفاطميين، ففي دولة الفاطميين... كان الاهتمام بقراءة القرآن بالألحان عظيماً، ومما يقوم دليلاً علي ذلك ما ذكره المقريزي في الجزء الثالث من كتاب »‬المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»، حيث أثبت المقريزي الآتي في سياق وصفه لوقائع صلاة الجمعة الثانية من شهر رمضان علي أيام الفاطميين: »‬فيأتي الخليفة في هيئة موقرة من الطبل والبوق، وحوالي ركابه – خارج أصحاب الركاب – القرّاء، وهم قرّاء الحضرة، من الجانبين، يطربون بالقراءة نوبة بعد نوبة» (ص 170)، ومن مظاهر اهتمام الفاطميين بقراءة القرآن في مختلف المناسبات، ما كان يجري في الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف وهلال شهر رمضان ولياليه، من قيام مجموعة من القراء بقراءة القرآن في القلعة، إن ما قدمه المقريزي من وصف لما حدث في احدي ليالي رمضان بقصر الخليفة في القلعة، وذلك بالجزء الثاني من كتاب »‬المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»، يعد كافياً للاحاطة بالأهمية التي أولاها الخلفاء الفاطميون لقراء القرآن بالألحان، وبالهيئة التي كانت تقام بها تلك الاحتفالات، حيث ذكر المقريزي في معرض حديثه عن سحور الخليفة ما يلي: »‬وجلوس الخليفة بعد ذلك في الروشن (هي غرفة علوية أشبه بالمشربية) إلي وقت السحور، والمقرئون تحته يتلون عشراً ويطربون، بحيث يشاهدهم الخليفة، ثم حضر بعدهم المؤذنون وأخذوا في التكبير وذكر فضائل السحور وختموا بالدعاء، وقدمت المخاد (جمع مخدّة وهي الوسادة) للوعاظ، فذكروا فضائل الشهر ومدح الخليفة والصوفيات، وقام كل من بالجماعة بالرقص» (ص387)، ويؤكد المقريزي في حديث آخر تضمنه الكتاب المشار إليه قبلاً، وقام فيه بوصف ما يحدث في ليلة ختم القرآن من شهر رمضان، فيقول في ثنايا ذلك الآتي: »‬واستفتح المقرئون من الحمد إلي خاتمة القرآن تلاوة وتطريباً» (المرجع السابق)، ومن المهم أن يتوقف القارئ عند قول المقريزي في الجملة السابقة: (تلاوة وتطريباً)، وكذلك عند جملة: (يتلون عشراً ويطربون) في معرض وصفه لسحور الخليفة، حتي يدرك الكيفية التي كان الفاطميون يتلون بها القرآن في مناسباتهم واحتفالاتهم.
يكشف تواتر أخبار وفيات كبار القراء إبان دولة الفاطميين بمصر، حجم الرعاية والاهتمام الذي أولته تلك الدولة لقراءة القرآن وإقرائه، والقائمة التالية للقراء ممن عاشوا بمصر خلال عصر الدولة الفاطمية، الذي امتد فيما بين سنة 358ه وسنة 567ه، هي بمثابة الدليل علي ما تحقق لدولة التلاوة من مكانة بمصر خلال دولة الفاطميين، علماً بأن هذه القائمة استلت من كتاب »‬النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» لأبي المحاسن يوسف بن تغري بردي (توفي سنة 874 ه)، وأن جميع من سترد أسماؤهم بها ممن أقاموا بمصر وماتوا بها وهم: جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد الشيخ أبو محمد السراج القارئ البغداديء قرأ بالروايات وسافر إلي مصر (توفي 500ه) – الشيخ الإمام المقرئ أبو الحسين يحيي بن علي بن الفرج الخشاب، كان عالم مصر ومقرئها (توفي 504ه) – أبو العباس أحمد بن عبد الله بن الحطيئة الفاسيّ الناسخ المقرئ بمصر (توفي 561ه) – الشريف الخطيب أبو الفتوح ناصر بن الحسن الحسيني المقرئ بمصر (توفي 563ه) – أبو الجيوش عساكر بن علي المقرئ بمصر (توفي 581ه) والشهاب أبو الفضل محمد بن يوسف الغزنوي الحنفي المقرئ بمصر (توفي 600ه)، وبالطبع فإن هناك عشرات إن لم يكن مئات من صغار القراء، ممن لم ترق بهم مكاناتهم إلي الحد الذي يجعل كاتباً كابن تغردي بردي يفرد لوفياتهم أماكن في حوليات كتابه المشهور.
العصر الذهبي
يثبت التقليب في مصادر التاريخ والتراجم، أن ظهور الأعلام من قراء دولة التلاوة، لم ينقطع بأرض مصر، فيما توالي عليها من دول بعد دولة الفاطميين، وإن كادت دولة التلاوة أن تنقطع بأرض مصر بعد الاحتلال العثماني لها في سنة 923ه (1517م)، وعقب الاحتلال الفرنسي لها في سنة 1213ه (1798م)، وذلك لإخراج العثمانيين الكثير من قرائها إلي حاضرة دولتهم، ولما لقيه الأزهر علي يد الفرنسيين من عنت وتضييق، لكن ذلك لم يقف حائلاً دون ظهور أسماء لبعض قراء، ممن خلدت حوليات ذلك العصر سيرهم، ومن تلك الأسماء اسما محمد الغّزي وعبد القادر الغزّي، المقرئيين بالأزهر الشريف، واللذين أعدما في تداعيات اغتيال كليبر: قائد الحملة الفرنسية بمصر بعد رحيل نابليون بونابرت عن مصر (عبد الرحمن الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، جزء 5، ص217).
جاء ظهور الأعداد الكبيرة من القراء بمصر بفضل نظام تعليمي متكامل، انطوي ذلك النظام علي ثلاثة عناصر أساسية، أولها مكاتب (أو كتاتيب) تقوم بتلقين الأطفال القرآن منذ نعومة أظافرهم، بينما يتمثل العنصر الثاني في مدارس علم القراءات، تلك المدارس التي أقيمت ببعض المدن الكبري مثل القاهرة والإسكندرية وطنطا وقوص، حيث عكف علماء القراءات ومشاهير القراء علي تلقين الموهوبين من صغار المكاتب، ممن يلتحقون بتلك المدارس، أحكام التلاوة وفنون التغني بالقرآن، ويأتي ثالثاً في تلك العناصر اعتماد تلاوة القرآن كفقرة أساسية في مختلف المناسبات والاحتفالات، مما جعل آيات القرآن تتردد في المآتم والأفراح وشتي المناسبات كإحياء الموالد وليالي رمضان، حتي غدا الطلب علي الموهوبين من القراء عظيماً، وانعكس ذلك الطلب فيما تحقق للقراء من ثراء ومكانة.
كادت دولة التلاوة تنقطع بمصر إبان الاحتلالات الأجنبية لها، حتي هبت رياح النهضة علي مصر في عهد محمد علي باشا ومع الثورة العرابية، فكان ظهور علماء في القراءات من أمثال محمد مكي نصر الجريسي (المتوفي بعد سنة 1308ه / 1890م)، إيذاناً ببعث روح الريادة من جديد في دولة التلاوة بمصر، ولتدخل في عصرها الثالث وهو عصر البعث والإحياء، الذي شهد ظهور مجموعة من القراء، فتحت بتلاواتها الطريق أمام عصر جديد، ولقد ضمت تلك المجموعة شيوخاً نذكر منهم كلاً من: الشيخ حنفي برعي – الشيخ حسين الصواف – الشيخ أحمد ندا – الشيخ علي محمود والشيخ محمد رفعت، وقد تحدث الكاتب والأديب عبد العزيز البشري عن دور الشيخ حنفي برعي في إحياء دولة التلاوة بمصر فقال: »‬وإذا كان فن التنغيم بآي القرآن الكريم قد بلغ اليوم أوجه، فلا شك في أن نهضته الحاضرة مدينة للمرحوم الشيخ حنفي برعي، فهو الذي استن هذه الطريقة الحديثة، فكانت جمهرة القارئين له فيها تبعاً» (عبد العزيز البشري: المختار، الجزء الثانيء ص44).
كان ظهور الشيخ حنفي برعي وجيله من القراء، إيذاناً ببدء عصر إحياء دولة التلاوة بمصر، والذي أعقبه – بعد سنوات قلائل – العصر الذهبي لتلك الدولة، وقد امتد ذلك العصر الذهبي لدولة التلاوة لقرابة عقود أربعة فيما بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن العشرين المنصرم، في تلك الفترة اكتملت العناصر الثلاثة المؤسسة للنظام التعليمي المتكامل الذي يلتقط الموهوبين من بين صبية المكاتب، ليتعهد مواهبهم بعد ذلك بالصقل والتنمية والتطوير، وتحقق كذلك مع اكتمال تلك العناصر وجود الإكسير اللازم لخلق العباقرة من بين أولئك الموهوبين، ألا وهو التأثير المتبادل بين فنييّ الغناء والتجويد، والذي لا يتحقق إلا بوجود عباقرة من الملحنين والمطربين، وهو ما تحقق في عصر الإحياء بإبداعات فحول الملحنين والمطربين من أمثال: الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب – الشيخ أبو العلا محمد – الشيخ درويش الحريري – الشيخ علي القصبجي – عبده الحامولي – محمد عثمان – كامل الخلعي – سيد درويش وزكريا أحمد، مما أثمر إثراء الفنيين من خلال التأثيرات المتبادلة بينهما.
زها العصر الذهبي لدولة التلاوة في مصر بعشرات من القراء الموهوبين، ممن تزامن ظهورهم في دولة التلاوة مع بداية عصر الإرسال الإذاعي بمصر، حيث ساهم ذلك الإرسال في وصول أصواتهم البارعة إلي المستمعين داخل مصر وخارجها، مما أضاف لقوي مصر الناعمة عنصراً جديداً وفاعلاً، حتي بلغ تأثير طريقة أداء القراء المصريين في قراء الدول الأخري حد المحاكاة والتقليد، لذا كان البعض من أهل العلم يقولون: »‬القرآن الكريم نزل بمكة، وقرئ في مصر، وكتب في استانبول»!.
نجوم العصر الذهبي
اهتم قلة من الكتاب بالكتابة عن مشاهير قراء العصر الذهبي لدولة التلاوة، وكان الأديب الساخر الكبير محمود السعدني (رحمه الله) أول من أدلي بدلوه في هذا المجال، عندما أصدر في إبريل 1959م، الطبعة الأولي من كتابه الرائد »‬ألحان السماء»، الذي ترجم فيه – وباسلوبه المميز –لعدد من مشاهير قراء القرآن الكريم، ممن عشق السعدني إبداعاتهم، إلا أن السعدني أغفل توثيق حكاياته الساحرة عمن فتن بأصواتهم من كبار القراء، ولعل ذلك يرجع إلي أسلوب السعدني في الكتابة، حيث ينطلق في حكاياته الشيّقة متحرراً من أمثال القيود التي يتطلبها التوثيق، لذلك حرصت عندما شرعت في إعداد كتابي الذي أسهمت به في مجال التأريخ لقراء العصر الذهبي لدولة التلاوة، علي أن أجعل التوثيق عماد إسهامي في هذا المجال، حيث وثقت – وقدر استطاعتي – كل ما يتعلق بمن ترجمت لهم من قراء، من أحداث وحكايات ووقائع، لذا سوف أعرض هنا نبذة صغيرة، مما تضمنته، ترجمة نجوم القراء الخمسة عشر، ممن أدرت حولهم كتابي »‬نجوم العصر الذهبي لدولة التلاوة»، والذي صدر بالعدد رقم (561) في سلسلة »‬كتاب اليوم»، وجاء صدور الكتاب في شهر أغسطس من عام 2011م، وسوف تتوالي هذه الأنباذ هنا وفقاً للسياق الذي وردت به تراجم نجوم القراء في الكتاب.
الشيخ أحمد ندا
هو مؤسس دولة التلاوة الحديثة بلا جدال، ولد بالقاهرة في عام 1868م، تميز صوته بشدة القوة، حتي قيل إن مساحة صوته تقرب من ثلاثة دواوين كاملة أي أربعة وعشرين مقاماً، حقق الشيخ من شهرته الثراء وارتفاع المكانة الاجتماعية، وقد روّعت القاهرة برحيله عن الدنيا في مساء الأربعاء 20/7/1932م، حيث تزامن رحيل الشيخ مع وفاة شاعر النيل: حافظ إبراهيم في الخامسة والنصف من صباح الخميس 21/7/1932م، لتشيع القاهرة علمين من أعلامها في نهار يوم واحد من أيامها التي لا تنسي.
الشيخ محمد رفعت
لا يجد المرء بين ما أطلق علي الشيخ محمد رفعت من ألقاب خير من لقب »‬بلبل الفردوس»، ذلك اللقب الذي جعله الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل عنواناً لمرثيته التي نشرت بصحيفة »‬الأهرام» في يوم الأحد 21/5/1950م، ولد الشيخ محمد رفعت بحييّ المغربلين بمدينة القاهرة في يوم الاثنين 9/5/1882م، وقد فقد الشيخ بصره وهو بعد في الثانية من عمره، وعندما أتم الشيخ حفظ القرآن في التاسعة من عمره، أخذ فنون القراءات والتجويد علي يد أعلام مقرئي القرآن، ثم تعاقد في عام 1918م علي وظيفة قارئ السورة بمسجد الأمير مصطفي فاضل باشا بدرب الجماميز، لتنطلق من جنبات هذا المسجد الصغير تلاوات الشيخ، التي سحرت الجميع، حتي الأجانب ممن كانوا يستمعون إلي تلاوات الشيخ من شرفة علوية بالمسجد، هذا وقد أهملت الإذاعة المصرية كثيراً في تسجيل تلاوات الشيخ، ربما بسبب الخلاف حول المقابل، وقد ضاعت فرصة تسجيل تلاوات الشيخ تماماً، عندما أصيب بمرض الفواق، ليحتجب عن الناس، حتي وافته المنية في فجر يوم الثلاثاء الموافق 9/5/1950م.
الشيخ محمد الصيفي
ولد محمد محمد الصيفي الشهير بالشيخ محمد الصيفي بقرية البرادعة التابعة لمركز قليوب بمحافظة القليوبية في عام 1885م، حفظ الشيخ القرآن كاملاً بمكتب قريته، ثم التحق بالأزهر، حيث حصل علي شهادة العالمية في عام 1911م، واتجه بعد إتمام دراسته بالأزهر لتلاوة القرآن في الاحتفالات والمناسبات، حتي أقر قارئاً للسورة في عام 1915م بمسجد السيدة فاطمة النبوية –رضي الله عنها – بحي الدرب الأحمر، ثم جاءته الشهرة عندما اشترك مع الشيوخ علي محمود ومحمد رفعت وعبد الفتاح الشعشاعي، في إحياء ليالي المأتم الثلاث بعد وفاة الملك أحمد فؤاد الأول في يوم الثلاثاء 28/4/1936م، تلك الليالي الثلاث التي بدأت في مساء الخميس 30/4/1936م، ونقلتها الإذاعة المصرية علي الهواء مباشرة إلي مستمعيها داخل مصر وخارجها، وقد توفي الشيخ الصيفي – الذي لقب بشيخ القراء – في يوم الأربعاء الموافق 28/9/1955م.
الشيخ علي محمود
ولد الشيخ علي محمود، الذي استحق لقب إمام القراء من المنشدين، في عام 1880م بكفر الزغاري من قسم الجمالية المجاور لمسجد الإمام الحسين (رضي الله عنه) بالقاهرة، فقد الشيخ بصره في مرحلة الطفولة، لذا اتجه لحفظ القرآن وتجويده، ولجمال صوته وإحكام تلاوته وعمق إحساسه بالموسيقي، انطلق الشيخ في مجاليّ التلاوات القرآنية والإنشاد الديني، فاعتمدته الإذاعة عند افتتاحها كمغن أو منشد، حتي فتحت مشاركته في إحياء مأتم الملك أحمد فؤاد الأول الطريق أمام تلاواته في الإذاعة، وقد توفي الشيخ علي محمود – رحمه الله – وشيعت جنازته في يوم الأربعاء 22/12/1943م.
الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي
ولد الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي – صاحب أجمل الأصوات الجهيرة – بقرية شعشاع بمحافظة المنوفية في 20/3/1890م، وما إن أتم الصبي عبد الفتاح حفظ القرآن، حتي ألحقه والده بمدرسة التلاوات الملحقة بمسجد الشيخ أحمد البدوي بمدينة طنطا، تلقي الفتي عبد الفتاح فنون التجويد في جوار السيد البدوي – رضي الله عنه – علي يد الشيخ إسماعيل الشافعي، الذي كان معلماً لتجويد القرآن وقارئاً مشهوراً، لينطلق صوت الشاب عبد الفتاح بعد ذلك في قري ومدن وسط الدلتا، حتي استقر به المقام – وبعد أن ذاعت شهرته – بالقاهرة في عام 1916م، وجاء اعتماد الشيخ عبد الفتاح بالإذاعة بعد مشاركته في إحياء ليالي عزاء الملك فؤاد الأول في قصر عابدين، حيث اجتذب صوته جماهير المستمعين داخل مصر وخارجها، وقد أقر قارئاً للسورة بمسجد السيدة زينب – رضي الله عنها – بالقاهرة منذ عام1939م وحتي وفاته في الحادي عشر من شهر نوفمبر عام 1962م.
الشيخ منصور الشامي الدمنهوري
ولد الشيخ محمد منصور محمود الشامي بمدينة دمنهور في يوم الأحد الموافق 12/8/1906م، أتم الصبي محمد منصور حفظ القرآن في كتاب الشيخ أحمد غزال بدمنهور، ثم تلقي علم القراءات وفن التجويد وبعض المعارف في الفقه والشريعة بمسجد الشيخ أحمد البدوي – رضي الله عنه – بمدينة طنطا، وعندما عاد إلي دمنهور – بعد انتهاء دراسته في طنطا – عين قارئاً للسورة بمسجد سيدي ضحوة في دمنهور، فلما ذاعت شهرته في دمنهور، انتقل إلي الإسكندرية، لتضمه الإذاعة المصرية إلي قرائها المعتمدين في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر 1936م، ونظراً لإقامة الشيخ بالإسكندرية، فإن الإذاعة درجت علي توزيع تلاواته بين قاعات البث الإذاعي في القاهرة والإسكندرية، واستمر ذلك النظام حتي وفاة الشيخ – رحمه الله – في دمنهور يوم الخميس 17 رمضان سنة 1378ه والموافق 26/3/1957م.
الشيخ عبد العظيم زاهر
»‬صاحب الصوت الذهبي» كما وصفه محمد سعيد لطفي باشا: مدير الإذاعة المصرية، ولد بقرية مُجُول – وهي إحدي قري مركز بنها – في يوم الاثنين 22/2/1904م، حيث حفظ القرآن في مكتب (كُتّاب) قريته، ولجمال صوته.... ألحقه والده بأول معهد – افتتح – بالقاهرة في شارع الشيخ ريحان – لقراءات القرآن، وبصوته الذي ينتمي لفئة الصادح (أو التينور)، التي يبلغ متوسط مساحتها الصوتية ثماني عشرة درجة موسيقية، بهر الأسماع عندما انطلق صوته – ولأول مرة –عبر أثير الإذاعة في صباح الثلاثاء 20/4/1937م، ويبلغ تألق صوت الشيخ عبد العظيم زاهر المنتهي في أدائه لأذان الصلاة، ذلك الأداء الذي خلدته السينما المصرية، عندما استعانت بتسجيل للأذان بصوت الشيخ في فيلم (في بيتنا رجل)، هذا وقد رحل الشيخ عبد العظيم زاهر – رحمه الله – عن عالمنا في يوم الثلاثاء الموافق 5/1/1971م.
الشيخ محمد فريد السنديوني
لا يجد المرء بين قراء العصر الذهبي لدولة التلاوة من أشجي المستمعين بصوته كما أشجاهم محمد فريد السنديوني، الذي ولد بقرية سنديون – التابعة لمركز قليوب بمحافظة القليوبية – في 16/9/1916م، وأتم في مكتب سنديون حفظ القرآن بقراءة حفص علي يد الشيخ محمود أبو زيد، ولما ذاعت شهرة قراءاته في القري المجاورة لسنديون، انتقل إلي القاهرة لدراسة الموسيقي بالمعهد الملكي للموسيقي العربية، وليحترف الغناء بالإذاعة المصرية في مطلع عام 1939م، ثم يبدأ بعد ذلك ومنذ شهر يونيو في عام 1939م في تلاوة القرآن عبر برامج الإذاعة، هذا وقد انتقل الشيخ السنديوني إلي مدينة يافا بفلسطين، ليقرأ القرآن عبر برامج إذاعة الشرق الأدني خلال الفترة من عام 1944م وحتي عام 1948م، وعندما قفل الشيخ عائداً إلي مصر بعد ضياع فلسطين، لم يجد من الإقبال في دولة التلاوة ما يكفي لحياة كريمة، فقام بافتتاح مقهي في حي شبرا لتدبير رزقه، حتي توفي رحمه الله تعالي في شتاء عام 1952م.
الشيخ أبو العينين شعيشع
ولد أبو العينين أبو شعيشع أبو العينين إبراهيم في عام 1922م بمدينة بيلا بمحافظة كفر الشيخ، وكان أبو العينين هو الأخير بين اثني عشر طفلاً رزق بهم والده الموظف البسيط بإدارة الري في بيلا، وقد ظهرت مواهب الصبي أبو العينين في تلاوة القرآن أثناء دراسته بالمدرسة الابتدائية، ومن العجيب أن من اكتشف مواهب الصبي أبو العينين في تلاوة القرآن، هو ناظر المدرسة وصاحبها منير جرجس، الذي لعب دوراً هاماً في توجيه تلميذه لحفظ القرآن في مكتب الشيخ يوسف شتا بمدينة تلا، وليحترف أبو العينين قراءة القرآن بعد إتمام حفظه وتجويده، لتلعب الصدفة دورها في مستقبل فتي بيلا الذي بلغ مبلغ الشباب، فقد ذهب في عام 1940م لقراءة القرآن في مأتم الشيخ محمد الخضري، وهو أحد كبار علماء الأزهر، فاستمع إليه هناك الشيخ عبد الله عفيفي بك، وهو إمام الملك فاروق، فاصطحبه للإذاعة وقدمه إلي محمد سعيد لطفي باشا: رئيس الإذاعة آنذاك، فجاءت إذاعة الشيخ أبو العينين الأولي بالإذاعة في صباح الأربعاء 3/7/1940م، ولقد امتدت رحلة الشيخ أبو العينين شعيشع مع تلاوة القرآن وإقرائه لأكثر من نصف قرن، حتي لقي وجه ربه – راضياً مرضياً عنه بإذن الله – فجر يوم الجمعة 22 رجب 1432ه والموافق 24/6/2011م.
الشيخ كامل يوسف البهتيمي
لم يغرّد صوت بالقرآن في العصر الذهبي لدولة التلاوة كما غرّد به صوت الشيخ كامل يوسف البهتيمي، ولد محمد زكي يوسف الشهير بكامل يوسف البهتيمي في عام 1922م بقرية بهتيم من قري محافظة القليوبية، حفظ الصبي محمد زكي القرآن في مكتب القرية، وعندما ذاع في بهتيم الحديث عن جمال صوته، ألحقه والده بمدرسة عثمان باشا ماهر بحي القلعة في القاهرة، ليغرد صوته بآيات القرآن في سهرات القاهرة عند مطلع الأربعينيات، فكان من الطبيعي أن ينضم إلي كوكبة قراء الإذاعة، حيث أذيعت تلاوته الأولي عبر أثير الإذاعة في صباح يوم الخميس 29/6/1944م، ويمكن القول بأن ما تميزت به تلاوات الشيخ البهتيمي من ألق ساحر، إنما يرجع في المقام الأول إلي تميزه في الإنشاد الدينيء هذا وقد توفي الشيخ البهتيمي في فجر يوم الخميس 6/2/1969م.
الشيخ محمود خليل الحصري
هو أول من سجل القرآن مرتلاً من قراء العصر الذهبي لدولة التلاوة، ولد محمود خليل الحصري في 27/9/1917م بقرية شبرا النملة في محافظة الغربية، حفظ الصبي محمود خليل القرآن في مكتب شبرا النملة، وأتم تجويده وترتيله بأكثر من قراءة في المسجد الأحمدي بطنطا، وأثر عنه إتقان تلاوة القرآن بالقراءات العشر الصحيحة، وقد عمل حسن صوته وتبحره في علم القراءات علي فتح الباب أمام تلاواته لتتردد في إقليم وسط الدلتا وحتي القاهرة، ومن ثم إجازة صوته بين قراء الإذاعة المصرية، والتي أذاعت أول تلاوة له في صباح يوم الأربعاء 27/12/1944م، وليتم إقراره بعد ذلك في عام 1955م قارئاً للسورة بمسجد الإمام الحسين بالقاهرة، ولسعة علمه بالقراءات عين في عام 1960م شيخاً لعموم المقارئ المصرية، وقد طاف الشيخ الحصري بدول كثيرة قارئاً للقرآن وسفيراً له، حتي وافاه الأجل – رحمه الله –مساء يوم الاثنين 24/11/1980م.
الشيخ مصطفي إسماعيل
ولد الشيخ مصطفي محمد المرسي إسماعيل في يوم السبت 7/6/1905م، بقرية ميت غزال بمحافظة الغربية، أتم الصبي مصطفي حفظ القرآن بأكثر من مكتب بالقرية وهو في الثانية عشرة من عمره، وعندما اكتشف جده جمال صوته، طلب إلي عالم قراءات من أبناء القرية يدعي إدريس فاخر أن يعلمه فن التجويد وأحكام القراءات، وعندما بهر الفتي أسماع أهل قريته والقري المجاورة، وازدادت شهرته بتلاوة القرآن في مسجد قريب من مسجد السيد أحمد البدوي بطنطا، انتقل إلي القاهرة في مطلع أربعينيات القرن الماضي، حيث بهر الأسماع في مناسبات القاهرة واحتفالاتها بصوته الباذخ المساحة وقدرته الفائقة علي الانتقالات المقامية، وقد جاءت الإذاعة الأولي لتلاوات الشيخ مصطفي إسماعيل في برامج الإذاعة المصرية عبر برنامج الاحتفال بالذكري السنوية لرحيل الملك فؤاد الأول، والذي أقيم في مساء يوم الاثنين الموافق 24/4/1943م، وبقدر ما لقي الشيخ مصطفي إسماعيل من تكريم الدولة والمستمعين، كان عرضة لهجوم البعض من القراء جراء الغيرة والحسد، وهو ما تسبب في تأخر اعتماده كقارئ بالإذاعة، ولقد لقي الشيخ مصطفي إسماعيل من التكريم في مصر وخارجها الكثير، وكانت آخر تلاواته في مسجد البحر بمدينة دمياط، وذلك قبل صلاة الجمعة في يوم الجمعة 22 من المحرم سنة 1391م والموافق 22/12/1987م، حيث دهمته جلطة في المخ خلال عودته من دمياط إلي الإسكندرية، لتصعد روحه إلي بارئها بعد ظهر الثلاثاء 26/12/1987م.
الشيخ محمود علي البنا
ولد الشيخ محمود علي البنا في يوم الجمعة 17/12/1926م بقرية شبرباص في محافظة المنوفية، وبعدما اتم الصبي محمود حفظ القرآن في مكتب القرية، ألحقه والده بالمعهد الديني الملحق بمسجد المنشاوي المجاور لمسجد الشيخ أحمد البدوي بمدينة طنطا، بدأ الفتي محمود رحلته مع تلاوة القرآن بتقليد كبار قراء الإقليم ممن يقرأون القرآن في المناسبات المختلفة، فلما أشتهر بجمال صوته وقدرته علي تقليد مشاهير القراء، بدأت الدعوات تنهال عليه لإحياء المناسبات في طنطا وما حولها من مدن، وقد ارتبط الشيخ محمود بجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، التي انتقل إليها بعد سنوات ثلاث قضاها طالباً بمعهد المنشاويء ويقول البعض إن حفلاً أقامته الجمعية للاحتفال برأس السنة الهجرية، وذلك في عام 1948م، كان فاتحة تعامل الشيخ مع الإذاعة، ولكن التلاوة الأولي المؤكدة للشيخ التي قدمتها الإذاعة، هي التلاوة التي أذيعت في صباح السبت 12/2/1949م، وقد عمل الشيخ محمود علي البنا – رحمه الله – كقارئ للسورة في عدد من كبريات المساجد، مثل المسجد الأحمدي بطنطا ومساجد الملك والرفاعي والحسين بالقاهرة، حتي رحل عن دنيانا في يوم السبت 20/7/1985م.
الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد
هو أول من أنجبه صعيد مصر من نجوم العصر الذهبي لدولة التلاوة، ولد عبد الباسط محمد عبد الصمد في عام 1927م بنجع المراعزة في مدينة أرمنت (بمحافظة الأقصر حالياً)، أتم الصبي عبد الباسط حفظ القرآن بمكتب الشيخ الأمير في أرمنت، وعندما بدأ في تلاوة القرآن بمدينة أرمنت، عمت شهرته مدن محافظة قنا، التي كانت أرمنت تابعة لها آنذاك، حتي جاءته الفرصة للشهرة والاعتماد بالإذاعة، يوم أن انطلق يغرد بآيات القرآن، بصوت سحر أسماع القاهريين وضيوفهم، في إحدي ليالي مولد السيدة زينب رضي الله عنها، فجاءت تلاوته الأولي عبر أثير الإذاعة في صباح الأربعاء 28/3/1951م، وعندما سافر الشيخ عبد الباسط في ركب الحج لتلك السنة (1370ه / 1951م)، تشرف بتلاوة القرآن في الحرمين: المكي والمدني، والتقي في الحج بالملك عبد العزيز آل سعود، الذي أهداه طاقما للزي السعودي، وقد أقر الشيخ عبد الباسط قارئاً للسورة في مسجد الإمام الشافعي، ثم نقل منذ عام 1985م لقراءة السورة في مسجد الإمام الحسين، حتي وافاه الأجل-رحمه الله – في يوم الخميس 30/11/1988م.
الشيخ محمد صديق المنشاوي
ولد الشيخ محمد صديق السيد تائب المنشاوي في 20/1/1920م، بمدينة المنشاة من محافظة سوهاج حالياً، وهو الابن الأكبر لوالده القارئ المعروف الشيخ صديق المنشاوي (رحمهما الله)، أتم الفتي محمد صديق المنشاوي حفظ القرآن علي يد الشيخ محمد النمكيء وهو محفّظ شهير بالمنشاة، وأخذ الفتي محمد صديق أصول الإنشاد الديني عن والده الشيخ صديق المنشاوي، فانطلق يترنم بآيات القرآن بصوت جميل تزينه رنة حزن شفيف، ومما جعل مدن الصعيد تتخاطف تلاواته فيما ينعقد بها من مناسبات، حتي أذاعت الإذاعة أول تلاواته في حفل نقلته الإذاعة من مدينة إسنا في إحدي ليالي شهر رمضان 1373ه، وجاءت تلاوته الأولي من دار الإذاعة بالقاهرة في مساء الأحد 13/6/1954م، ويعد صوت الشيخ محمد صديق المنشاوي من الأصوات النادرة التي جمعت عناصر القوة والعذوبة والإحساس، بقدر وافر من كل عنصر، وقد لقي الشيخ محمد صديق المنشاوي (رحمه الله) وجه ربه في يوم الجمعة 20/6/1969م، وكان رحيله ورحيل القارئ الفذ الشيخ يوسف كامل البهتيمي قبله في 6/2/1969م، نذير شؤم لبدء تقوض أركان دولة التلاوة في مصر.
أسباب التراجع
بلغت دولة التلاوة أوج تألقها بمصر خلال عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين المنصرم، وكان ذلك بفضل مجموعة من نجوم القراء، التي ترجم لها قبلاً في هذه الدراسة، ممن جملوا أصواتهم الفائقة الحسن بترديد آيات الذكر الحكيم، فسحروا آذان المسلمين – وما زالوا – في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا بعقدي الستينيات والسبعينيات، وقد خرجت فيهما – وعبر الوسائط المستحدثة آنذاك لنقل وحفظ الصوت والصورة – أصوات لا تقارن أو ترقي بأي حال لأصوات مجموعة النجوم السابقة الذكر قبلاً، وكان الكاتب الراحل محمود السعدني أول من رصد ظاهرة تراجع أصوات القراء بمصر، حيث أثبت ذلك في كتابه »‬ألحان السماء»، وقد عزا السعدني مسئولية ذلك إلي اختيارات »‬لجنة اختبار القراء» بالإذاعة، التي لم تسلم اختياراتها لقراء الإذاعة الجدد من الهوي والغرض، بينما أرجع الشيخ أبو العينين شعيشع تراجع أصوات القراء الجدد إلي عوامل التلوث والاعتماد في الغذاء علي (الفراخ البيضاء) والأطعمة والمشروبات المعلبة (عبد الحفيظ سعد: مذكرات شيخ القراء أبو العينين شعيشع، الأهرام المسائيء 7/9/2009م، ص10)، لقد تكرر الحديث مؤخراً عن أسباب تراجع أو انهيار دولة التلاوة في مصر، مما يمكن القول معه بأن تلك الأسباب تنحصر – وعلي وجه الإجمال- في مجموعة من الأسباب، يتمثل أولها في اختيارات لجنة اختبار القراء بالإذاعة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، والتي جانب البعض منها الصواب، مما جعل كاتباً كمحمود السعدني يقول في كتابه »‬ألحان السماء» ما يلي: »‬والآن... لا أحد يدري إلي أين نسير؟ بعد أن أصبحت التلاوة بالواسطة»! (ص29)، ويجيء ثانياً في تلك الأسباب صعود جماعات الإسلام السياسي منذ أواخر الستينيات، وقد رفع أنصارها – علي اختلاف ما يتخذون من أسماء- راية تحريم الغناء والموسيقي، وأعلنوا كراهة قراءة القرآن خارج المساجد والمنازل، وناصبوا الطريقة المصرية في التلاوة العداء، بزعم عدم شرعيتها ومجانبتها صحيح السنة، ويتلخص ثالث تلكم الأسباب في انحسار الإنشاد الديني في الاحتفالات الدينية، مما أضاع مكوناً من أهم مكونات القارئ المتميز، بينما يتبلور رابع تلك الأسباب في تراجع دور مدارس علم القراءات في صقل مواهب المتميزين من طلبة مكاتب تحفيظ القرآن، وإعدادهم لاحتراف التلاوة، وذلك من خلال تلقينهم أحكام التلاوة وفنون التجويد، ويعد دور الفضائيات والإذاعات والعائدين من دول النفط في الدعاية لمدرسة التلاوة الخليجية ونجومها خامس تلك الأسباب، وأما سادس تلك الأسباب... فقد تكفلت به جماهير المستمعين إلي القرآن في المساجد والسرادقات، ممن شوهوا التلاوات بصياحهم وهتافاتهم السخيفة، وهبطوا بآداب الاستماع إلي كلام الله إلي منازل الصخب والشغب، ويأتي سابعاً في أسباب تراجع أو انهيار دولة التلاوة بمصر... تدهور الاقتصاد المصري، وذلك جراء ما خاضت مصر – منذ خمسينيات القرن العشرين – من حروب وما تعرضت له من حصار ومكائد، مما أفقدها الكثير من عناصر قوتها الناعمة، والتي كانت مدرسة التلاوة المصرية في الطليعة منها.
معالم طريق
إن العناصر السبعة السابقة التي عملت – مجتمعة – علي تراجع مدرسة التلاوة المصرية عن موقع الريادة والتأثير، وذلك خلال قرابة ثلاثة عقود مضت، تعد في واقع الأمر بمثابة أضواء كاشفة لمعالم الطريق الذي يقود هذه المدرسة إلي الخروج من أزمتها التي طال أمدها، وهو طريق قوامه عناصر عدة، ذات تأثيرات مثبطة لعناصر الهدم السابقة، لعل أهمها وأولها هو خروج الاقتصاد المصري من عثرته التي طالت، لأن الاقتصاد القومي يعد بمثابة الركيزة والأساس لكثير من العناصر المؤسسة لدولة التلاوة،والتي يعد الاهتمام بمدارس القراءات ونشرها في ربوع مصر من أهمها وأكثرها تأثيراً في تعليم القراء الجدد قواعد الطريقة المصرية في التلاوة، ويأتي ثانياً بعد ذلك إسناد مهمة تحفيظ القرآن في المكاتب إلي ذوي الأصوات الجميلة من دارسي علوم القراءات والتجويد، وهو عنصر مرتبط بالعنصر السابق له، مما يمكن القول معه بدمجهما في عنصر واحد، حيث يكمل أحدهما الآخر، ويعد تحويل وجهة المسابقات المرتبطة بالقرآن الكريم من الحفظ فقط إلي الحفظ والتجويد أحد تلك العناصر، بينما يجئ تالياً في تلك العناصر دور وسائل الإعلام في اكتشاف المواهب الجديدة من القراء، وهو دور يتطلب خروج تلك الوسائل – من مرئية ومسموعة ومقروء-إلي التجمعات السكانية البعيدة عن العاصمة، من قري ونجوع، وذلك بدلاً من الاكتفاء بالإعلان عن قراء استوديو مسجد التليفزيون، ويأتي أخيراً في العناصر المؤسسة لطريق عودة دولة التلاوة المصرية إلي سابق مجدها، ولعله يكون أولاً لا آخراً، فض الاشتباك القائم بين أتباع الجماعات الدينية المتطرفة وبين الغناء والموسيقي والإنشاد الديني، ويوم أن تستعيد مصر هذه العناصر – مجتمعة – سوف تخرج الإذاعة المصرية علي مستمعيها بقارئ فذ جديد من أبناء إحدي القري المصرية، يمثل بصوته الجميل وطريقته المصرية المحببة والمميزة في التلاوة، إشراقه لعصر جديد تستعيد فيه طريقة التلاوة المصرية جماهيرها في مشارق الأرض ومغاربها، تلك الجماهير التي أدمنت الاستماع للغريب من طرق التلاوة، تماماً كما أدمنت التهام »‬الفراخ البيضاء» وتقليد كل وافد عبر الحدود.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.