في الوقت الذي تعاني مصر حالياً من أزمة بناء سد "النهضة" الأثيوبي الذي يستقطع كميات هائلة من نصيب البلاد من مياه نهر النيل، فإن الفقر المائي يهدد باطن الأرض وبخاصة في منطقة الصحراء الغربية التي طالما تحدث خبراء الجيولوجيا والري عن إمكانية الاستفادة من المياه الجوفية لسد العجز المائي المتوقع حدوثه خلال سنوات ملء خزانات سد "النهضة"، لكن حتي المياه الجوفية باتت مهددة هي الأخري بالنضوب، بعدما أظهرت دراسة أمريكية أجرتها وكالة "ناسا" الأمريكية عبر الأقمار الصناعية احتمال نضوب طبقات المياه الجوفية عالمياَ والتي تمثل حوالي 35% من المياه التي يستهلكها البشر في جميع أنحاء العالم نتيجة استنزافها بمعدلات تنذر بالخطر. الدراسة الأمريكية التي استمرت حوالي 10 سنوات في الفترة من عام 2003 إلي 2013، أشارت إلي أن المياه الجوفية في العالم العربي التي يعتمد عليها نحو 60 مليون شخص تعد من أبرز المناطق التي تعاني ضغطا يسبب لها النضوب السريع في مواردها المائية، مع وجود علامات ضئيلة أو معدومة علي إعادة شحنها وتكوُّن المياه فيها مُجدداً. في هذا السياق، يقول الدكتور حسام الدين عبدالرحمن عميد كلية الزراعة بجامعة أسيوط، إن نتائج هذه الدراسة متوقعة، لافتاَ إلي ضرورة الأخذ بأسباب الحيطة والحذر في التعامل مع مصادر المياه الجوفية، خاصة في المناطق المكتظة سكانياً والتي تعتمد فيها النشاطات السكانية علي استخدام المياه الجوفية بشكل أساسي، مشيراَ إلي أنه كلما كانت المياه الجوفية علي مسافة صغيرة من سطح الأرض، كانت نسبة الأملاح بها أعلي، وكلما تم التعمق داخل الأرض، كانت درجة نقائها أعلي. وانتقد الدكتور حسام في تصريحات ل"آخرساعة" بعض السياسات الزراعية التي تعتمد علي زراعة المحاصيل المستهلكة للمياه بشكل مرتفع في الأماكن التي تعتمد علي المياه الجوفية، ففي الوادي الجديد تتم زراعة الأرز وهو من المحاصيل ذات الاحتياج المائي المرتفع للغاية، رغم أن مصدر المياه الوحيد في هذه المنطقة هو المياه الجوفية. يواصل: يمكن هنا إلغاء زراعة الأرز في الوادي الجديد وزراعته في مناطق أخري مثل مدن وجه بحري التي تتوافر فيها الأمطار بكثرة وهي قريبة من نهر النيل، علي أن تكون الزراعات التي تعتمد علي المياه الجوفية بشكل أساسي، هي زراعات احتياجاتها المائية قليلة أو زراعات تأخذ احتياجاتها من المياه الجوفية القريبة من سطح الأرض ونسبة الملوحة فيها عالية، وهو ما يمكن تحقيقه عبر التقدم العلمي في مجال التغييرات الوراثية في كل المحاصيل تقريباَ، بحيث يتم إنتاج تهجينات مختلفة من كل المحاصيل الزراعية بصفات محددة مسبقاَ، لإيجاد أصناف تتحمل الجفاف والحرارة والملوحة وندرة المياه. وبالإضافة إلي كل ما سبق يمكن إنشاء شبكات تنقيط ويطبق هذا الموضوع في المدن القائمة علي المياه الجوفية أو في الأراضي التي لا يوجد بجانبها مصدر جيد للتدفق المائي بشكل يجنبها حدوث تسرب للمياه في أعماق التربة، ويعطي النبات احتياجاته من المياه بحساب لكي لا يكون هناك إهدار واستنزاف منظم للمياه. في المقابل، عارض صلاح عبدالمغيث أستاذ المياه الجوفية بمركز بحوث الصحراء هذه الدراسة، وأشار إلي أنها غير مبنية علي أسس واقعية، ولا يمكن الاعتداد بها إلا عند تقييم الطبقات المائية الضحلة القريبة من سطح الأرض، أما المياه الجوفية العميقة الموجودة في الوادي الجديد والصحراء الغربية، فلا يمكن تقييمها بهذه الأسلوب. وأوضح أن المياه الجوفية تتواجد علي أعماق مختلفة، وهي نوعان، إما مياه متجددة أو غير متجددة، لافتاً إلي أن الطبقات المائية الجوفية قد تتواجد علي أعماق قريبة تتراوح ما بين 50 إلي 150 مترا، وهذا النوع من المياه يتمركز علي طول وادي النيل شرقاَ وغرباَ ويعتبر متجددا وفرصة نضوبه قليلة نظراّ لتجدده سنوياَ إما عن طريق مياه النيل أو من مياه الأمطار، أما النوع غير المتجدد فهو موجود فقط في الوادي الجديد، ومنطقة الصحراء الغربية، وهو عبارة مياه جوفية شديدة العذوبة مخزنة بكميات هائلة، تصلح لزراعة جميع أنواع المحاصيل. يتابع: علماء الجيولوجيا يعلمون أماكن تواجد المياه الجوفية في مصر ومقياس عمقها ودرجة ملوحتها، لكن الذي يغيب عن العلم هو كميات المياه الجوفية المسموح باستخدامها، فهذه تحتاج إلي دراسات مكثفة في كل منطقة علي حدة، لأنها تختلف من مكان إلي آخر، مطالباً وزارة الري وجميع المسؤولين عن المياه الجوفية في مصر بدراسة الموارد المائية للأرض المستهدف زراعتها قبل البدء في حفر الآبار، معتبراَ أن هذا الأمر مطلب علمي وقومي، لتفادي حدوث نضوب مبكر في مواردها أو انخفاض منسوبها أو زيادة نسبة التمليح بها. بينما أوضح محمد سليمان إبراهيم أستاذ الأراضي والمياه الجوفية بكلية الزراعة بجامعة سوهاج أن المياه الجوفية تواجه مشكلة تتمثل في كونها مصدرا غير متجدد، مشيراَ إلي أنه من الأفضل أن يتم عمل تجمعات سكانية حول هذه الموارد المائية واستغلالها في مشروعات صناعية، فهناك العديد من الدراسات التي تثبت أن العائد المتواضع من المتر المكعب من المياه جراء استغلاله في الزراعة من الممكن أن يتضاعف بصورة كبري إذا ما تم استغلاله في الصناعة، مشيراً إلي أن معظم الدراسات التي تتناول حجم المياه الجوفية في مصر غير دقيقة، فهناك بعض الأبحاث التي تقول إن كمياتها تتراوح ما بين 200 مليار متر مكعب، لكنها تبقي مجرد كميات تقريبية. أما الدكتور عصام السيد علي، أستاذ المياه الجوفية قسم الجيولوجيا بجامعة المنيا، فأكد وجود أكثر من خزان مائي في مصر والذي يعد منطقة لتجمع المياه الجوفية، فهناك خزانات مائية تتواجد في منطقة وادي النيل والدلتا تسمي بالخزان الرباعي، يتم الاستفادة من مواردها سواء من ضخها عبر طلمبات مياه أو عبر حفر الآبار، وهناك أيضا الخزان الرملي النوبي والذي تستقي منه منطقة الصحراء الغربية بأكملها مع امتداده لمنطقة ليبيا والسودان وتشاد. يتابع: يتم تحديد المياه الجوفية ومدي مناسبتها في الأراضي المستهدفة للاستصلاح عبر الدراسات "الهيدروجيولوجية" التي تتم في هذه المناطق والتي يسبقها دراسات استكشافية "جيو - فيزائية" لدراسة طبيعة التربة، ليمكن تحديد بعد ذلك ما إذا كانت هناك مياه جوفية من عدمه واحتساب كمياتها، حيث يتم وضع مجسات خاصة لمعرفة ما إذا كان هناك مياه جوفية بالفعل بين المكونات الأرضية ثم بعد ذلك تتم عملية الحفر البئري والتي يتوازي معها تحديد كمية الضخ المناسبة لطبيعة الخزان الجوفي للاستفادة منه أكبر فترة زمنية ممكنة.