اهتمَّ جيلٌ مؤسِّسٌ من الاقتصاديين العرب، ظهرَ أهمُّ إنتاجهِم العلمى فى السّتينيات حتى أواخرِ القرن الماضى، بدلالةِ الألفاظ ومعانى المُصطلحات. وأسعدنِى العملُ باحثا فى مطلعِ التسعينيات مع الاقتصادى العربى الرَّصين الدكتور يوسف صايغ فى مشروعٍ قادَه عن مستقبل الاقتصادِ الفلسطينى بعد مؤتمرِ مدريد. وتجدُه لا يكتفى بتدقيقِ مصادرِ المعلوماتِ ومراجعة أساليبِ التَّحليل، ولكنَّه كانَ شغوفا، كأكثرِ أبناءِ جيله، باللغةِ فلا يستخدمُ مصطلحا أجنبيا إلَّا وعرَّبه وبيَّنَ معناه. تذكّرت مع كتابة عنوان هذا المقال محاوراتِ الدكتور صايغ، كما استرجعتُ كتاباتِ الموسوعى الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله ومقالاتِه الرَّشيقة، ضمَّتها سلسلةٌ بعنوان «ألفاظٌ ومعانٍ». فمَا أقصده باقتصادِ السوق هو النظامُ المتبعُ للإنتاج وإدارة الموارد والاستهلاك وتوظيف الفائض، إذا تحقَّق، اعتمادا على آليات السوق المنظمة من عرض وطلب. أمَّا «الاقتصاديات» فالمقصودُ بها أساليب العلم المحتكمة إلى النظريات والنماذج والتطبيقات والخبرة العملية. وقد أضفت «السوء» للاقتصاديات، ليس تلاعبا بالألفاظ أو المقابلة بين استخدامات الفصحى والعامية الدارجة فى بعض البلدانِ العربية بنطقها كلمة السوء وهى تعنى السوق. فالسوء هنا هو كل ما يضر بأحوال المرء من قبح ونقص وفساد بسبب أفكار سيئة، أو لممارسات معيبة. ويكون السوق سوءا بمعنى الكلمة إذا غابتِ القواعد المنظمة، والرقابة الفاعلة، وغلبت عليه مثالب الممارسات الاحتكارية، وتراجع فضائل المنافسة، وهيمنة بيروقراطيات الدولة وسواعدها الجائرة على مجريات اقتصاد لا علم لها بشئونه وخصائصه. وهو ما فطنَ إليه العلامة ابنُ خلدون فى القرن الرابع عشر، فحذَّر بما فسَّره فى فصل كامل فى مقدمته الشهيرة بعنوان «فى أن التجارة من السلطان مضرّة بالرعايا ومفسدة للجباية». فتدخل الحكومات فى أعمال الاقتصاد يسلب المنتجين فرصَهم فى المنافسة؛ لما عرف عن بيروقراطيتها من ترهّل فى الإدارة، وضعف عن ملاحقة مستجدات الإنتاج من ابتكار وتطوير، وتردد فى اتخاذ قرارات بالمخاطرة، وبطء فى اتخاذ القرار، والخوف من مراجعة قرار خاطئ اتخذته حتى لو ظهرت بوادر فشله وخسارته. وإن استطاب لها مزاحمة أهل الاختصاص والحِرف والإنتاج فى أعمالهم خسرت الحكومة بذلك ثلاث مرات: الأولى، بإضاعة فرص الربح على أرباب الاقتصاد، فتقل حصائلها من الضرائب المفروضة على الأرباح والدخول؛ الثانية، بولوجها فى أنشطة كانت ستحقق ربحاً لولا تدخلها فحولتها خسارةً تتحملها ميزانية الدولة؛ الثالثة، فى أنها بتفضيلها دور اللاعب فى الأسواق ستجدها حتما مقصّرة فى دورها حَكما للسوق فلم تقم بتسوية ملعبها، ومتجاوزة فى دورها راعيا لحقوق عموم الناس بعدما صارت طرفا فى البيع والشراء، ومهملة فى دورها فى تحصيل الإيرادات العامة بما انشغلت به عنها من انتحالها وظائف يجود فيها الإنتاج الخاص. وما زالت الأفكار السيئة تستشرى، بل ويُستدعى بعضها من مراقدها بعد ثبوت فشلها بحجج متهافتة من نوع أن نظريتها كانت صحيحة، ولكن أضاعتها تطبيقاتٌ سيئة أو ظروف غير مواتية. وما زالت اقتراحات تساق من حين إلى آخر تختلط فيها الأساطير بالأباطيل والاستخفاف بالعلم بدعاوى مضللة، مثل «التفكير خارج الصندوق»؛ بأساليبَ أقرب لإعادة اختراع العجلة، متجاهلة محاولات سابقة فاشلة وتجارب أخرى ناجحة جعلتها على استدارتها المتعارف عليها اليوم، ثم أتقنت صنعها والارتقاء بمستحدثات واختراعات بُنيت عليها. وتزداد مثل هذه الترهات فى أوقات الأزمات، التى تكررت وكثرت، فبدلا من التصدى لها بالعلم والجلد بما يتاح من موارد وانتفاعا بتجارب السابقين من الحاذقين يأتيك أحدُهم بما يعدُّه فكرةً لم يسبقه إليها الأوائل. وما أكثر هذه الأفكار التعسة التى لا تأتى إلا لمن طار مع الخيال «على غير قصد ولا مأرب»، كما جاء فى شطر بيت من شعر حافظ إبراهيم، ناصَرَ فيه نشدان الحقيقة، حتى لا يصير البرىء مع المذنب. وقد سقت من قبل أمثلة لأفكار مضللة أحالت اقتصادَ السوق المنشود حقلا لدراسة اقتصاديات السوء بأضراره على المجتمع وعموم الناس. وأعيد سردَ ما نوهت عنه من قبل من أمثلة لأفكار سيئة حذّرت منها لجنةُ النُّمو التى قادها البروفسور مايك سبنس الحائز نوبل فى الاقتصاد، وتشرفتُ بعضويتها، ومن أمثلتها: - تخفيض عجز الموازنة العامة وسداد الديون بالتضحية بالاستثمار العام فى التعليم والصحة والبنية الأساسية. - حل مشكلة البطالة بتعيينات لا يحتاج إليها الجهاز الإدارى للدولة. - التسعير الإدارى للسلع بزعم السيطرة على التضخم. - منع الاستيراد والتصدير لسلع معينة للتحكم فى الأسعار. - تجاهل التنمية الحضرية والريفية. - إهدار الأبعاد البيئية للمشروعات. - استهداف سعر الصرف بدلاً من التضخم، وعدم توافقه مع السعر العادل. - كبح القطاع المالى، وسوء الإشراف عليه. - تجاهل البعد النوعى لمخرجات التعليم والصحة. - إهدار الدعم، بتجاهل أن الدعم أولى به أن يكون لمستحق بعينه وليس لسلعة لا ضامن لوصولها مدعومة لمن يحتاج إليها. - تجاهل اعتبارات العائد والتكلفة للإنفاق العام، وغياب قواعد الاستدامة المالية بحجة تجاوز الأزمات العارضة، واستسهال قيام البيروقراطية بالمشروعات من خلال الاستدانة؛ ثم محاولة طرحها للبيع فى سوق غير راغبة فيها. وبالاعتماد على هذه الأفكار السيئة ومثيلاتها، ثم الاعتياد عليها، يكسبها مرور الزمن ألفة وحصانة فُيخشى المساس بها. فإذا بالاقتصاد يواجه مشكلات عدة، فإن تأخر حلها تحولت أزماتٍ، فإن عولجت خطأً تحولت كوارثَ؛ وتلك من معالم اقتصاديات السوء وليس اقتصاد السوق.