السيدة أم كلثوم أكبر من أى إساءة من حاقد أو جاهل بها، استسهل التعاطى مع ما يسيء لشخصيتها الأسطورية بوقائع مغلوطة ومُلفقة، فها نحن نكشف عن خطبة نادرة جداً ألقاها الكاتب والمحامى الكبير فكرى أباظة الشهير بالضاحك الباكى فى حفل تكريمها بمعهد الموسيقى العربية عام 1932، وكان شيخ الصحفيين قريباً منها لما يقرب من 60 عاماً، فقال فى خطبته ما يُخجل الجهلاء : سيداتي - سادتي : اسمحوا لى أن أكرم نفسى قبل أن أكرم الآنسة أم كلثوم، قد يدفع أحدكم دفعاً فرعياً بعدم الاختصاص ويقول : «ما بال فكرى أباظة يحشر نفسه حشراً فى عالم الغناء والموسيقى وهو مخلوق لا علاقة له بالفن ولا الموسيقى»، ويل للمصريين إنهم كثيرو النسيان، محسوبكم المتواضع هذا وضع ولحن وغني، أربعين قطعة موسيقية هزت أوتار القلوب، وتغلغلت فى حنايا الضلوع، فلست دخيلاً على عالم الألحان والأنغام ومن حقى فنياً أن أكرم ملاك الفن ورسول الألحان فى هذا الزمان، لأنى أعرف أم كلثوم من عهد الطفولة المندمج فى عهد الصبا، وغالطنى الزمن فأصبحت الآن أزيد عنها بعدة سنوات، والله يرى من مصلحة هذه الأمة أن يقصر فى عمرى وأن يزيد فى عمرها، والله جميل يحب الجمال. قال لى أحد أصدقائي: «كيف اعتزمت أن تكرم أم كلثوم»، فقلت: «كما كانوا يكرمون يوليوس قيصر، والإسكندر، ونابوليون بونابرت»، فقال: «ويحك.. أولئك كانوا غزاة فاتحين فتاكين»، فقلت: «ويحك أنت، أم كلثوم هى ست الغزاة وست الفاتحين الفتاكين، أولئك كانوا يغزون المدن ويفتحون الأمصار ويفتكون بالأرواح والأجسام، سل مصلحة الإحصاء فى كم ألف ألف قلب غزت أم كلثوم، وكم ألف ألف نفس فتحت أم كلثوم، سل مصلحة الإحصاء عن أسراها وجرحاها، سل الإنصاف والعدل أيهما أجدر بالتكريم أهو الغازى المُخرب الهدام أم الغازى المعمر المتربع على عرش القلوب، انتِ فوق الجميع يا آنسة أم كلثوم، والله لو سمعك قيصر والإسكندر وبونابرت لصاروا مثلنا أسرى وصرعى وجرحى، فإن ظفرتم بأم كلثوم على الأرض فثقوا أنها هبطت عليكم من السماء! كم كتبوا الفصول الطوال عن سر نجاحها فى فن مناجاة الأرواح، وكم تناقشوا وتعاركوا عن صاحب الأثر فى نبوغها وسموها، قال قائل: «إنه المؤلف»، وقال قائل «إنه الملحن»، وقال ثالث «إنه الأستاذ المدرس»، وقال رابع «إنه الاستعداد والصوت الرخيم»، كذبوا جميعاً، سر نجاحها الأول أنها ابنة بارة، ابنة تُقُبِّل يد الأبوين بخضوع وخشوع وقدسية، ودعوات الأبوين كانت المؤلف والملحن والمدرس والصوت الرخيم، وكانت العبقرية، وكانت فخر مصر والأقطار العربية، وعقل هذه الفتاة أكبر من تجاربها، منحها الله عقلاً أكثر مما صقلها بالتجربة، فكرموها لذكائها الفطرى، فعلى صغر سنها أصبحت ريحانة للمجالس وعطر المنتديات، تزهر بخفة ظلها فى مجالس الفرح والسمر، وترسل النكتة المُحكمة من البديهة الحاضرة، وإذا ما جلست فى ندوة للأدباء والشعراء استطاعت أن تستدعى من ذاكرتها روائع المتنبى وأبى تمام وأبي فراس، هى فتاة خارقة للعادة، وأقول لكم الحق: إنى أخشاها إجلالاً وإكباراً. اسمعى يا آنسة: حفلة التكريم هذه لها مغزاها وخطرها لم يقم بها من ينضوون تحت لواء صوتك وصولجانك، إنما قام بها معهد الموسيقى الجليل المتزن الرصين، فهذه شهادة من الخبراء، فهل لا تزالين تطمعين وتطمحين يا معبودة الجماهير، ويا معبودتي أنا، اسمحى لى بالغزل العلنى من مصرى مفتون بمعجزة ربانية أقسمت أن تخلص لفنها فدان لها الفن وانقاد، وأقسمت أن تخلص لوطنها فارتفع فى عالمها وساد، لكِ التهنئة يا بلبل النيل من صديق قديم على الوفاء مقيم! فكرى أباظة القاهرة - 28 مايو 1932