عندما نضيء الشمعة 127 فى ذكرى ميلاد الأسطورة أم كلثوم التى مرت علينا أمس، فلابد أن نطرح السؤال: هل كانت كوكب الشرق بخيلة كما أساءوا إليها ؟ هل كانت عصبية وكئيبة بالصورة التى قدموها؟، هل كانت ناكرة للجميل وغير بارة بوالديها؟، وهل...؟ وهل....؟ عموماً لن نعيد سرد اسكتشات التفاهة والسطحية التى أساءوا بها لصاحبة العصمة لغرض يعلمه الله وحده، ومن أجل الحق والحقيقة نقدم الصورة الحقيقية للفلاحة المصرية الذكية التى صنعت مجدها وأحبت وطنها وضحت من أجله فى عز هزيمته وانكساره، من خلال الكاتب الكبير مصطفى أمين الذى عرفها عن قرب وكتب لها فيلم «فاطمة» وله معها قصص وحكايات كثيرة، يرويها فى كتاب «مسائل شخصية» فيقول: - الناس عرفوا أم كلثوم الفنانة، وأنا عرفت أم كلثوم الأخرى، عرفوا الأسطورة وعرفت الإنسانة، أشاعوا أنها بخيلة وعرفتها كريمة، عرفوها فوق المسرح والأضواء مسلطة عليها، وصوتها يملأ الدنيا متعة وهناء، وعرفتها فى غرفتها الصغيرة فى الطابق العلوى من بيتها منزوية فوق كنبة صغيرة تبكى فى صمت، تحدثت الدنيا كلها عن جريمة هدم فيلا أم كلثوم فى الزمالك، وأصبحت ألسنة الناس مشانق يُعلق فيها ورثة أم كلثوم العاقون الذين باعوا الفيلا، وقد يذهل الناس إذا عرفوا أن أم كلثوم لم تعتبر «فيلتها» أثرًا تاريخيًا يجب الحفاظ عليه، وأخبرتنى أنها تريد هدم الفيلا وبناء عمارة من عدة طوابق وضع رسوماتها المهندس محمد رياض مدير بلدية القاهرة فى ذلك الوقت، واختارت أم كلثوم أن تقيم فى شقة بالزمالك تملكها ابنة عبد الفتاح يحيى باشا رئيس الوزراء السابق، وبدأت مفاوضات استئجارها، وفجأة قامت ثورة 23 يوليو، وبعد فترة ذاعت شائعات أن الثورة تفكر فى تأميم العمارات فعدلت أم كلثوم عن هذا المشروع ! وننتقل مع الكاتب الكبير مصطفى أمين فى المقال بما يدحض فيه شائعة بخل أم كلثوم فيقول : «شاع فى مصر كلها أن أم كلثوم بخيلة شحيحة، فى الوقت الذى كانت تدفع فى الخفاء مرتباتٍ شهرية لعشرات الأسر، وكم من مهندسين وأطباء وقضاة ساعدتهم حتى وصلوا إلى مناصب مرموقة، وحدث مرة أن جاءنى أحد أفراد فرقتها وقال لى: «هل يرضيك أن أذهب لأم كلثوم لأقترض منها خمس جنيهات إطعم بها زوجتى وأولادى فترفض أن تقرضنى»، طلبت أم كلثوم بعد خروج الموسيقى من عندى وسألتها عما ذكره، فأكدت ما قال، فسألتها معاتبًا «كيف تفعلين هذا؟»، فقالت: «لأننى بخيلة»، فقلت: «أنا أعرف العكس ومن أهم صفاتك الوفاء لمن عملوا معك»، ضحكت وقالت: «من مصلحتى أن يقول الناس عنى إننى بخيلة حتى يبتعد عنى النصابون والأفاقون، لقد علمت أن هذا الموسيقى كان يسهر فى بيت فريد الأطرش وخسر على مائدة القمار ثلاثمائة جنيه، فأردت أن أؤدبه ليعرف ذل لعب القمار، وبعد خروجه من عندى اتصلت بزوجته وأخبرتها بأننى سأرسل لها مع سائقى خمسين جنيهًا بشرط ألا تخبر زوجها، وتتركه يدوخ ويتعذب ويشحذ حتى يعرف مرارة عقاب لاعب القمار» ! وأشاع هذا الموسيقى قصة بخل أم كلثوم لكل من يقابله، وأنا أعلم أنها إذا سمعت عن فنانة مريضة أسرعت إليها ونقلتها إلى المستشفى ودفعت مصاريف العلاج وتحذرها أن تفتح فمها وتقول لإنسان ما فعلت! وعن الصورة البشعة التى قدموها عن أم كلثوم فى تعاملها غير البار بأسرتها، نرجع إلى الفقرة التالية التى كتبها مصطفى أمين وقال فيها: «لم تكن أم كلثوم تعيش فى بيتها وحدها قبل أن تتزوج، كانت تقيم معها أمها إلى أن تُوفيت، وأختها سيدة التى انتقلت لشقة مستقلة، وأخوها خالد إلى أن كبر أولاده واستأجر لهم شقة فى الزمالك، وكانت تقيم معها فى الطابق العلوى ابنة أختها سعدية وزوجها الذى كان وكيلًا للنيابة وأصبح بعد ذلك مستشارًا، وكانت متعة أم كلثوم فى طفل سعدية الأول الذى غمرته بحبها وأحاطته برعايتها، فكان شيئًا هامًا فى حياتها، فقد أبرز أمومتها وسيطر على اهتمامها، ورُزقت سعدية بمولود آخر أسمته «أحمد»، وإذا بأم كلثوم تجن بأحمد الصغير وتعشقه، وكانت تحس بهذه الأمومة مع أبناء شقيقها دسوقى ومحمد وسعدية وسكينة وممدوح ورفعت.. كانت تعاملهم كبناتها وأولادها، وكانت تفرح إذا رُزق واحد منهم بولد وتصيح وهى تحدثنى: «أصبح لى حفيد، إياك أن تنشر الخبر حتى لا يسمونى «ست كلثوم بدل أم كلثوم»! ونسرع الخطى مع كاتبنا الكبير مصطفى أمين فى الفقرة التى كشف فيها حقيقة أم كلثوم الكريمة فيقول: «ذات يوم شعرت أنها على فراش الموت بعد جراحة خطرة فاستدعتنى وهى تفيق من التخدير وقالت: «أشعر أننى سأموت، وأريد أن أكتب وصية لسنية أعطيها ثلث ثروتى حسب الشرع الإسلامى»، ونجت أم كلثوم من الموت الذى كانت تتوقعه، وعاشت بعد ذلك 33 سنة.. وذات يوم قالت لى: «احضر حالًا.. حدثت فى بيتى مصيبة»، ذهبت إليها فوجدتها فى حالة ثورة غاضبة وهى تقول: «سنية تحب موظفًا صغيرًا عند زوج سعدية، رأته وهو يحمل دوسيهات القضايا كل يوم إلى زوجها فأحبته وقررت أن تتزوجه، وأنا كنت أتمنى أن تتزوج من وكيل نيابة أو قاضٍ لا من موظف صغير جدًا لن يسعدها»! وحاول مصطفى أمين أن يقنع أم كلثوم بنظرية القلب وما يريد، لكن أم كلثوم كان لها رأى آخر تبحث به على سعادة سنية التى كانت ستكتب لها ثلث ثروتها، وحاول مصطفى أمين أن يجعل سنية تتراجع عن هذه الزيجة لكى لا تفقد ثلث ثروة أم كلثوم، لكنه فشل أمام كيوبيد الذى جعل سنية ترفض الثروة فى مقابل أن تتزوج من أحبت وقالت: «أنا لا تهمنى الثروة» وفضلت الموظف الصغير على المليون جنيه، وخضعت أم كلثوم لإرادة أمينتها، وأقامت مع عبد الحميد فى بيت أم كلثوم التى تزوجت الدكتور حسن الحفناوى الأستاذ بكلية الطب عام 1954، وكان الدكتور الحفناوى يعامل زوج سنية كسائق سيارة أم كلثوم، وبدأ التصادم وأصر الدكتور الحفناوى على طرد زوج سنية التى فضلت أن تغادر البيت مع زوجها، واستدعت أم كلثوم قريبة لها من طماى الزهيرة اسمها إحسان وعينتها أمينة خاصة لها بعد خروج سنية مع زوجها الذى عينه مصطفى أمين موظفاً براتب مجزٍ فى «أخبار اليوم». ويحدثنا أستاذنا مصطفى أمين عن كرم أم كلثوم الحاتمى عندما تمت مصادرة كل أمواله بعد سجنه فطلب منها أن تقرضه مائتى جنيه قد لا يستطيع أن يردها قبل عشر سنوات، وقد لا يستطيع أن يردها أبدًا، فأرسلت له خمسمائة جنيه، وقالت: إنها مستعدة أن ترسل له خمسة آلاف! وسعت بكل ما تملك من طاقة لكى يتم الإفراج عنه لكنها فشلت مع الرئيس عبد الناصر ونجحت مع الرئيس السادات، وذهبت ليشكرها بعد الإفراج عنه ويعيد لها الخمسمائة جنيه فرفضت أن تسترد المبلغ وغضبت غضبًا شديدًا، فهل كانت أم كلثوم بخيلة يا بخلاء المعرفة؟! ويكشف لنا مصطفى أمين فى فقرة أخيرة عن أم كلثوم الكريمة فيقول: «كنت أتحدث إليها كل يوم تقريبًا، وذات يوم قالت إنها تريد أن أعد لها وصية بشرط ألا يعرف بأمرها أحد، وقالت إنها تريد أن توصى بثلث ما تملك لسنية، ولأولاد أخيها خالد، ولإحسان التى تعمل أمينة لها وكل شرطها ألا يعرف إنسان بهذه الوصية، فقلت: «هذا يلزم أن يجىء مندوب من الشهر العقارى إلى بيتك لتوثيق الوصية»، واجتمعت مع شوكت التونى المحامى وكتبنا الوصية، وإذا بأم كلثوم تمرض وتطلب أن تؤجل الوصية إلى أن تشفى، وماتت أم كلثوم دون أن توقع الوصية. من كتاب «مسائل شخصية»