والسؤال اذن: بماذا يتميز العلم مستقبلاً حتى نتحدث عنه كما لو كان ظاهرة جديرة بالتنويه وهو ليس فى حاجة إلى تنويه؟ أنظر إلى وسائل الاعلام فى تغطيتها للقضايا العلمية مثل الخلايا الجذعية والاستنساخ والذكاء الصناعى والكومبيوتر، وهى قضايا تتميز بأن تناولها لا يقف عند حد علم بالذات بل يمتد إلى علوم أخري. ولهذا يلتزم علماء هذا الزمان بالكتابة بلغة يمكن أن يفهمها المتخصصون فى علوم أخري، ومن ثم يفيد القارئ أيا كان من هذا التبسيط اللغوى فى تناول القضايا العلمية المعقدة. ولكن هذا التبسيط لا يعنى السقوط فى السطحية الشعبية، إنما يعنى أن يكون العلم مفهوماً فى مجال أرحب من مجال صانعيه، بل يعنى ما هو أهم من ذلك وهو نوعية السؤال المثار. مثال ذلك: كيف تُغير منجزات العلم هذا العالم الذى نعيش فيه؟ كيف تغير هذه المنجزات الأسئلة التى تدور حول هويتنا؟ ما هى التغيرات المفاجئة التى قد تحدث فى كيفية ادراكنا للعالم؟ واللافت للانتباه فى هذه الأسئلة الثلاثة أن لا علاقة لها بما مضى أو بما هو قائم إنما لها علاقة بما هو قادم، اى بالمستقبل. ومن هنا يحق لى القول بأن الأولوية فى آنات الزمان الثلاث هى للمستقبل. هذا مجرد مدخل إلى كتاب صدر مع بداية هذا القرن تحت عنوان رئيسى " الخمسون سنة القادمة" وعنوان فرعى " العلم فى النصف الأول من القرن الواحد والعشرين" والذى اخترته عنواناً لهذا المقال. اشترك فى تأليفه خمسة وعشرون عالماً من تخصصات متباينة وتحت إشراف مفكر أمريكى اسمه جون بروكمن كان قد انشغل بالكتابة عن كبار المخترعين الذين بزغوا على مدار ألفى عام. ومن هنا كان انشغاله أيضا بما سيكون عليه العلم فى هذا القرن. إلا أنه لم يكن فى كل ما كتبه يريد أن يكون محصوراً فى حدود إخبار العلماء دون غيرهم من غير العلماء، بل يريد أن يتجاوز هذه الحدود. ومبرره فى هذا التجاوز هو التبشير بثقافة جديدة كانت عنواناً لمقال حرره فى عام 1991 وأطلق عليها مصطلح " ثقافة ثالثة". والسؤال اذن: ما الذى دفعه إلى صك ذلك المصطلح؟ كان الرأى الشائع أن ثمة ثقافتين هما العلم والآداب وأنهما لا يلتقيان. أما هو فكان يعنى بالثقافة الثالثة ثقافة الجمهور التى تضم العلماء والمفكرين الذين بفضل كتابتهم احتلوا المكانة التى كان يحتلها المثقفون التقليديون وذلك بسبب اهتمامهم بالكشف عن المعانى العميقة لحياتنا وعن إعادة النظر فى هويتنا. ومن هنا أصبح العلم فى الصدارة عند بنى البشر أجمعين. وفى هذا السياق كان السؤال المحورى الذى دارت حوله أجوبة العلماء المختارين: ما هو تأثير العلم على الانسان؟ وكانت الغاية من هذا السؤال الانشغال بمواجهة تغير الذهنيات بسبب الأدوات الجديدة غير المسبوقة التى هى " نحن". وتترتب على ذلك ضرورة تغيير الأسس التى تستند إليها الثقافة القائمة من أجل مواجهة التكنولوجيا التى تقوم بتغييرنا. ويترتب على ذلك أيضاً أن كل شئ سيصبح مغايراً، ومن ثم نعيد النظر فى طبيعتنا وفى طبيعة العالم الذى نعيش فيه. والجدير بالتنويه أن " الكسمولوجيا" أى علم الكون تأتى بديلاً عن " الميتافيزيقا". والسؤال اذن: ما الفارق بين المصطلحين؟ أبدأ بتحديد معنى مصطلح الميتافيزيقا. هو لفظ يونانى معناه " ما بعد الطبيعة" كان قد صكه أحد أتباع أرسطو بعد أن قرأ جملة مقالات بلا عنوان تتناول موضوعاً يأتى فى المرتبة التالية بعد كتاب " الطبيعة" لأرسطو فقال هذا التابع اذن نطلق عليها مصطلح ما بعد الطبيعة، وكان هذا العلم يتناول الوجود العام الذى يمكن أن يقال عنه إنه الله أو المطلق أو ما شئت من أسماء أخري. وراح الفلاسفة بعد ذلك يتخذون من هذا الوجود العام أساساً للبرهنة على وجود الله أو على إنكار وجوده. ومع القرن السابع عشر ظهر فيلسوف فرنسى اسمه بليز بسكال أبدى يأسه من الانحياز إلى الاثبات أو الإنكار، ومن ثم انتهى إلى الاستعانة بالقلب دون العقل لكى يتحرر من يأسه وقال عبارته المشهورة " للقلب حجج يجهلها العقل"، ومن ثم دخل العقل فى أزمة ومعه أزمة الميتافيزيقا. ومن هنا لم تعد الميتافيزيقا صالحة لكى يتناولها العقل إنما الذى اصبح صالحاً هو " الكسمولوجيا" أى علم الكون بعد نشأة نظرية " البج بانج" أى الانفجار العظيم الذى تطايرت منه ذرات تجمعت على هيئة جزيئات ومنها نشأ الكون الذى نعيش فيه. وبناء عليه تغيرت الأسئلة ولم يعد من بينها أسئلة تخص الله. مثال ذلك: ما هى طبيعة القوى القوية التى تتسبب فى تماسك الجزيئات؟ وما هى طبيعة القوى الضعيفة المسئولة عن تآكل النشاط الاشعاعي؟ ولماذا الالكترون أخف وزناً من البروتون أو النترون؟ ولماذا النيوترينو بلا وزن؟ ولكن اللافت للانتباه أن هذه الأسئلة تخص الفيزياء النووية كما تخص الكسمولوجيا، أى علم الكون. ومن هنا تداخل العلمان ومعهما تداخلت الأسئلة المذكورة. والسؤال بعد ذلك: ما هى التكنولوجيا المتطورة التى يكون فى إمكانها الاسهام فى الاجابة عن هذه الأسئلة؟ وأجيب بسؤال: ماذا لو فوجئنا فى مستقبل الأيام بتكنولوجيا متطورة يكون من شأنها تغيير الأسئلة المذكورة بحيث ننتهى إلى صياغة أسئلة جديدة تنقلنا إلى آفاق أرحب وأعمق؟ شرط واحد مطلوب وهو أن يظل العقل الانسانى منفتحاً على تغيير رؤيته بلا توقف. وهو لن يكون كذلك إلا إذا كان مطعما بمضاد حيوى يمتنع معه السقوط فى " السُبات الدوجماطيقي"، أى توهم امتلاك الحقيقة المطلقة؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة