«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أرسطو والإسلام

الفلسفة فى رأى ابن رشد «هى صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة». وذلك أن عمل الفلسفة هو ما دعا إليه الشرع من نظر فى الموجودات والاستدلال من حسن صنعتها على حكمة الصانع العظيم. وعمل الفلسفة هو إذن وضع تصور للكون يقوم على دليلين توجد نواتهما فى القرآن الكريم: دليل العناية (بالكائنات وتسخيرها لخدمة الإنسان) ودليل الاختراع (إيجاد الكائنات).
ولكن ما هى الفلسفة التى يعنيها ابن رشد ويرى أنها تحقق مقصد الشرع؟ من المؤكد أنه لا يعنى كل المذاهب الفلسفية. أهو يعنى إذن فلسفة أرسطو التى يحث على معرفتها لأن صاحبها هو واضع المنطق (آلة المعرفة») ومؤسس العلوم المعنية بالموجودات على اختلاف مراتبها؟ فهل تكون فلسفة أرسطو هى الحكمة الموافقة للشريعة؟ وبعبارة أخرى: هل تتضمن فلسفة أرسطو ما يدل على اختراع الله للعالم وعنايته به؟
مسألة فيها نظر
أجاب المرحوم محمد عابد الجابرى عن السؤال بالإيجاب. ورأى فيما يتعلق بدليل العناية أنه «ينسجم تماما مع نظام الكون ... [لدى أرسطو]» (مقدمة كتاب ابن رشد، «الكشف عن مناهج الأدلة فى عقائد الملة»، ص 81). وهى إجابة تنطوى على تسرع وتبسيط مخل لأن ما يصفه الجابرى بالانسجام التام ليس من الحقائق الواضحة الثابتة. فتفسير نصوص أرسطو ذات الصلة كان وما زال موضع خلاف بين شراحه. وابن رشد لم يتوصل إلى إثبات ذلك الانسجام إلا كنتيجة نهائية لجهود مضنية فى شرح أرسطو، وينبغى أن نتمهل حتى نرى كيف أجرى بحثه ومدى نجاحه فيه.
الرأى الشائع بين شراح أرسطو منذ القدم هو أن المنظومة الكونية الأرسطية لا تتضمن ما يدل على الاختراع أو العناية، فإله الفيلسوف اليونانى مكتف بذاته منصرف عما سواه ولا تأثير له على الكائنات الأخرى إلا بوصفه موضوعا للحب والشوق أو غاية تنزع نحوها وتتشبه بها.
ولكن هذا الرأى الشائع ليس هو الرأى الوحيد. فمن الشراح من رأى أن أرسطو كان يؤمن بأن الله خلق العالم. وهناك فريق ثالث رأى أن أرسطو جمع بين الرأيين فى مؤلفات مختلفة: الإله الذى يحرك بوصفه غاية؛ والإله الذى يحرك لأنه سبب فاعل. وابن رشد من هذا الفريق الأخير. إلا أنه كان يدرك الصعاب والشكوك التى تكتنف الموضوع ومحاولة التقريب بين أرسطو والإسلام.
من القاعدة إلى القمة
فى بداية البحث فى الوجود عند أرسطو تندرج الكائنات فى ترتيب صاعد من القاعدة إلى القمة. هناك فى أسفل السلم المواد الأولى، وتليها الأفراد المشكلة من هذه المواد (النباتات والحيوانات بما فيها الحيوان الناطق، ومصنوعات الإنسان)؛ وهذه الأفراد مرتبة بدورها بحسب حظها من كمال تشكيلها أو صورها. فهناك قطع الجماد، فالأفراد الحية التى تكون صورها على شكل نفوس: النباتات التى لها نفس نباتية، فأفراد الحيوان التى لها نفس حيوانية، فأفراد الحيوان الناطق (الإنسان) ذوى النفس العاقلة، فالأجرام السماوية التى يعتقد أرسطو أنها بدورها «حيوانات» بمعنى أنها حية ولها نفوس أو عقول مفارقة تقترب من العقل الأسمى الموجود فى القمة (الإله).
ورغم أن أرسطو يرى أن المواد الأولى هى البداية المطلقة للسلم الصاعد، فإنه يؤثر البدء بالأفراد المشكلة ذات الصور المحددة بوصفها محور الموجودات. وسبب ذلك أن أرسطو يريد البحث فى الوجود «كما نعرفه»، أى من حيث هو متاح لنا بوسائلنا المعرفية الطبيعية. ومن ثم كان التركيز على الأفراد المشكلة، فمن السهل الإشارة إليها هنا والآن والتعرف عليها عبر التغيرات التى تعتريها فى المكان والزمان. وهى فى رأى أرسطو تحتل مكانة «الجوهر» فى مقابل سائر الموجودات، فهذه الأخيرة إما أعراض تعتمد فى وجودها على الجواهر أو أنها تعرف عن طريقها بوصفها كائنات أعلى.
والجوهر بهذا المعنى محور لأقوالنا الإخبارية فى المنطق حيث نصف الأفراد بطرق مختلفة، فنسند إليها (أو تحمل عليها) أعراضا من أنواع مختلفة منها ما هو كم (مثل قولنا: «خالد طويل القامة»، أو كيف («خالد أسمر البشرة») أو علاقة («خالد زوج زينب»). والجواهر هى الموضوع الأساسى فى علم النفس لأنها تمثل أمامنا فتكون موضوعا لملكاتنا: الحس والذاكرة والخيال والعقل؛ وهى الموضوع الأساسى فى علم الطبيعة لأنها محور التغير والحركة.
والوجود من حيث هو وجود ليس إذن شيئا غير أنواعه المتعددة مرتبة بناء على الجواهر. وأرسطو يستخدم هنا عبارة غريبة ولكنها مفهومة، فيقول: «الوجود يقال على أنحاء متعددة». يريد أن يقول إن الوجود من حيث هو وجود ليس شيئا سوى تلك الأنواع المختلفة: أى الجوهر وما يعتمد عليه أو يعلوه من موجودات.
والأمر شبيه بذلك فيما يتعلق بمفهوم الواحد. فالواحد بدوره يقال على أنحاء متعددة. وليس هناك واحد فى ذاته. الوجود فى ذاته أو الواحد فى ذاته لا يفضلان العدم: فكرتان لا دلالة لهما إلا إذا قيلتا على أشياء متعددة محددة. ولذلك يرفض أرسطو جميع المذاهب التى تضع الوجود أو الواحد فى ذاته فى قاعدة الموجودات أو محورها، وهو ما قال به فلاسفة سبقوه أو جاءوا بعده. ومعرفة الوجود والموجودات تتحرك إذن فى اتجاه واحد صاعد من القاعدة إلى القمة، أو مما نعرفه إلى ما لا نعرفه.

الفجوة القائمة بين الإسلام وأرسطو
قد يبدو لأول وهلة أن هذا الترتيب قريب من التصور الإسلامى وموافق له. فمفهوم الأشياء المشكلة وفقا لصور على درجة أو أخرى من الكمال قريب من مفهوم الأشياء التى تتميز بحسن الصنعة (بحسن صورها) بحيث يمكن الاستدلال منها على حكمة الصانع.
إلا أن هذا القرب البادى لأول وهلة لا يعنى أن ثمة تطابقا بين التصور الإسلامى والمنظومة الأرسطية كما شُرحت حتى الآن. فهذه المنظومة التى تتمحور حول جوهر أرضى لا تتضمن أى دليل على تدخل إلهى. وصحيح أنها تتألف من درجات بحسب حظها من كمال الصور، ولكن هذا النزوع نحو الكمال يبدو كما لو كان مركوزا فى طبيعة الكائنات لأسباب طبيعية حرص أرسطو على حصرها، وليس من بينها أى علل عليا. وهناك إذن بين المنظومة الكونية الأرسطية وبين التصور الإسلامى فجوة تحول دون الاستدلال من الموجودات على اختراع الله لها وعنايته بها.
لاهوت أرسطو
غير أن مذهب أرسطو يتضمن فى بعض أجزائه انتقال محور التركيز إلى المستوى الأعلى، إلى الإله. وهنا يوجد ما يوصف بأنه «لاهوت أرسطو». ففى الكتاب الثامن والأخير من كتابه عن الطبيعة يدخل أرسطو هذا البعد اللاهوتى عندما يؤكد ضرورة البحث عن الأسباب البعيدة للجواهر الأرضية وللحركة الطبيعية الدائمة فى الزمان. ومعنى ذلك أن نظام الطبيعة بأسره أصبح يعتمد على قاعدة ميتافيزيقية مفارقة للطبيعة. وفى هذا الجزء يقدم أرسطو برهانه على وجود مبدأ أول لحركة الطبيعة. فهذه الحركة لا بد أن ترجع فى نهاية المطاف إلى محرك لا يتحرك، لأنه لو كان متحركا لاقتضى الأمر سببا آخر لحركته، وهلم جرا إلى ما لا نهاية. ولا بد إذن من التوقف عند محرك واحد ساكن منذ الأزل وإلى الأبد (هو الإله). وبذلك أصبح هرم الموجودات يرتكز على قمته الثابتة أبدا وإن كانت الحركة التى تبثها تسرى نزولا من أعلى الأجرام السماوية حتى أدنى الكائنات الأرضية.
وهذا البعد الميتافيزيقى سبب آخر لجاذبية أرسطو بالنسبة لفلاسفة مؤمنين مثل ابن رشد. ومن ثم كان البحث عما إذا كان انتقال محور الاهتمام على هذا النحو يفى بالمطالب الدينية الأساسية. وصحيح أن بعض الشراح نبه إلى أن مفهوم المحرك الأول مقصور من هذه الناحية، لأنه ينصب على التحريك، ولا يمس خلق الموجودات أو العناية بها. يقول ابن سينا: «قبيح أن يصار إلى الحق الأول من طريق الحركة ومن طريق أنه مبدأ الحركة... فإن القوم [يقصد أرسطو وأتباعه] لم يوردوا أكثر من إثبات أنه محرك ليس أنه مبدأ للموجود. واعجزاه!» (ابن سينا، شرح كتاب اللام، فى عبدالرحمن بدوى، «أرسطو عند العرب»، ص 23). إلا أن هذه الشكوك لم تثن بعض الشراح، ومن بينهم ابن رشد، عن التدقيق فى طبيعة التحريك، فلعله يفضى إلى النتائج المرجوة. يصدق هذا بصفة خاصة على أقوال أرسطو كما ترد فى الكتاب الموسوم بحرف «اللام»، وهو جزء شهير من أجزاء كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو.

الإله القائد
الواقع أن بعض أقوال أرسطو فى كتاب اللام مخيبة للآمال. فهو ينص صراحة على أن المحرك الأول «يحرك كما يحرك المشتهى والمعقول». ويعلق ابن رشد (فى تفسيره للكتاب المذكور) على ذلك بقوله: «هذا المحرك [الأول] إنما يحركنا على نحو ما تحركنا الأشياء المشتهاة اللذيذة ولا سيما المعقولة التى نرى أن فعلها خير». ويزيد الأمر شرحا عندما يرى أن هذا المحرك الأول يحرك كما «يحرك المحبوب المحب له من غير أن يتحرك المحبوب». وهذه الفكرة كما نص عليها أرسطو وشرحها ابن رشد نفسه جديرة بأن تقنع الباحث بأن إله أرسطو لا يحرك إلا بوصفه غاية منشودة لا بوصفه سببا فاعلا.
بل إن أرسطو لم يكتف بتلك الأقوال بل قدم برهانا حاسما ينفى به فكرة السبب الفاعل. حدث ذلك عندما تناول طبيعة أفعال الإله، وأهمها عقله أو تعقله. فالإله فى نظره عقل وفكر صرف، وهو يستمد حسنه وكرامته من هذه الصفة التى تعد أكثر صفات الإله ألوهية. إلا أن هذه الصفة فى رأى أرسطو مثار «تحيرات» (= مشكلات)؛ فليس من الواضح «على أى حال تكون» أى على أى نحو يكون تعقل الإله. ويصوغ أرسطو مصدر الحيرة على شكل معضلة: كيف يفكر الله؟ إما أنه لا يفكر فى شىء أو أنه يفكر فى شيء ما. فإذا قلنا إنه لا يفكر فى شىء، كان ذلك معناه أن لا كرامة له – فكرامة الله فى عقله وتفكيره – ويكون شأنه شأن النائم. أما إذا قلنا إن الله يفكر فى شىء، كان ذلك معناه أنه يعتمد فى تعقله على شىء آخر ويستمد كرامته وكماله من غيره. وهو محال. وبناء على ذلك يخلص أرسطو إلى أن الإله يتعقل ويفكر ولكنه لا يعقل إلا ذاته. فالمعقول فى هذه الحالة ليس غير العاقل -على حد تعبيره.
وبذلك ينتهى تفكير أرسطو فى أفعال الله وصفاته إلى طريق مسدود من وجهة النظر الدينية. فهو يعنى أن الإله لا علم له بما يحدث لسائر الموجودات. وتلك فى نظر ابن رشد «شنعة». وهى شنعة تترتب عليها شناعات أخرى، لأن جهل الإله بالموجودات يعنى أنه غير قادر على اختراعها أو العناية بها.
ومع ذلك فإن آراء أرسطو الصريحة وبرهانه على أن تفكير الإله وعلمه لا يخرج عن نطاق ذاته لم يثن بعض الشراح - ومن بينهم ابن رشد - عن مواصلة البحث عن مخرج من الأزمة. وسبب ذلك أن كتاب اللام يتضمن فقرة يبدو أنها تفتح بابا للحل. فى هذه الفقرة يشرح أرسطو موضوع «الخير» و«الجودة» فى «الكل»، أو الكون. فالكون يؤلف كلا مرتبا حسن الترتيب، وهو بهذا المعنى جيد وخير. والسؤال إذن هو: ألم يرجع هذا الخير أو ما هو مصدر هذه الجودة؟ أهو فى الترتيب أم فى شىء متميز بذاته؟ أم هو فى الاثنين معا؟ وهنا يضرب أرسطو مثلا بحالة الجيش، فالجودة فى الجيش ترجع إلى انتظام الجند فى رتب متعددة ولكنها ترجع إلى القائد أيضا، بل إنها ترجع بدرجة أكبر إلى القائد. فخير القائد لا يرجع إلى ترتيب الجيش الذى يوجد دونه بل إن جودة الجيش ترجع فى المقام الأول إلى قائده. والقائد لا يعتمد على الجيش بل يعتمد الجيش عليه. فالجنود فى الرتب الدنيا يتشبهون بقائدهم وما فيه من خير ويعملون من أجله. وعلى غرار ذلك يضرب أرسطو مثلا بما يشاهد من نظام وترتيب فى المدينة ورئيسها، وبما يشاهد من ترتيب ونظام فى البيت (بما فيه من بشر أحرار وعبيد وحيوانات) وعلى رأسه رب البيت. فالخير الذى يوجد فى هذه المنظومات جميعا يرجع إلى ما فيها من ترتيب، ولكنه يرجع بدرجة أكبر إلى رأس المنظومة.
وبناء على ذلك يرى ابن رشد أن آراء أرسطو هذه تزيل الشكوك حول موضوع العناية وتدل على أن الإله يشمل الكون بعنايته.
ومن الواضح إذن أن ابن رشد يعتقد أن الإله عند أرسطو ليس غاية مشتهاة فحسب، بل إنه سبب فاعل أيضا. وهو فى كتاب «تهافت التهافت» يوضح هذه الفاعلية بما يفعله الملك الأول فى مملكته؛ فهو يصدر الأوامر لولاته فيؤدى هؤلاء أدوارهم إذ يصدرون بدورهم أوامرهم إلى جميع الناس. وهناك إذن تكليف من القائد وامتثال وطاعة من الجميع.
فكيف استطاع ابن رشد أن يستخلص هذه النتائج من تشبيهات أرسطو؟ العلاقة بين الرئيس والمرءوسين (فى الجيش أو المدينة أو البيت) تقتصر كما حددها أرسطو على أن هؤلاء الأخيرين يتشبهون برئيسهم ويعملون من أجله، وهو ما يعنى أن أرسطو ما زال ثابتا على موقفه من أن الإله غاية تتجه إليها الموجودات بحكم كمالها وتنتظم فى كيان شامل. وصحيح أن القائد البشرى يأمر ويطاع. ولكن أرسطو لم يشر من قريب أو بعيد إلى هذا الجانب من التشبيه.
بل وقد يقال إن أرسطو لو خطر له أن يطرح فكرة القائد الإلهى الذى يصدر الأوامر لأثار عليها الاعتراضات ولرفضها فى النهاية كما حدث فى تناوله لموضوع التعقل أو العلم الإلهى. وهنا ينبغى أن ندرك بوضوح أن أرسطو يفكر وفقا لمنطق صارم يجافى أى تدخل إلهى، لأن مثل هذا التدخل يترتب عليه أن يكون الإله عرضة للنقص والافتقار والانتقال من حال إلى حال. ويبدو أن هذا المنطق الصارم ينطبق على لاهوته كما ينطبق على فلسفته الطبيعية، ويقوم على التنزيه المطلق فى الحالتين.
فكيف توصل ابن رشد إلى أن وجود الإله فى مركز القيادة من الكون يعنى أنه يشمل الموجودات بعنايته؟ كيف وجد فى أقوال أرسطو الصريحة وفى منطقه السائد منفذا إلى فكرة العناية؟

اجتهادات ابن رشد
لا تفسير لذلك سوى أن ابن رشد أعاد تعريف فكرة العلم الإلهى. فصحيح أن الإله كما رأى أرسطو لا يعرف إلا ذاته ولكنه فى رأى ابن رشد يعرف من ثم الموجودات لأنه موجدها أو علة وجودها. وهو حل مبتكر وثمرة لاجتهاد ابن رشد وليس من عمل أرسطو.
يرى ابن رشد إذن أن العلم الإلهى مباين لعلم البشر، فليس بين نوعى العلم من صلة سوى اشتراكهما فى اسم واحد مع اختلاف المعنى. فالعلم فى حالة البشر يتوقف على سبب خارجى. ومثال ذلك أن المائدة التى أجلس إليها تؤثر على حواسى فأدركها، وهى إذن سبب علمى بها. أما العلم الإلهى، فلا يتوقف وجوده على وجود شيء آخر، لأنه هو سبب وجود الأشياء. والله عليم بجميع الأشياء لأن علمه بها هو ذاته إيجاد لها.
وبهذه النظرية عن العلم الإلهى ينفتح الباب أمام حلول أخرى لأفعال وصفات إلهية أخرى. وذلك أن القول بأن الله عليم بالموجودات لأن علمه سبب وجودها يعنى ضمنا أن الله بسبب علمه الخلاق مريد وقادر وحافظ للموجودات ومعنى بها.
اعترافات الفيلسوف
ونعود إذن إلى السؤال الذى بدأنا به: ما هى الفلسفة التى رأى ابن رشد أنها تلبى مقصد الشرع وأنها الأخت الرضيعة للشريعة؟ أهى فلسفة أرسطو؟ كلا، فهذه الفلسفة، إن كانت تقترب من الإسلام فى بعض الجوانب (الوحدانية مثلا)، فإنها لا تفى بجميع مطالبه، وبخاصة ما تعلق منها بدليل العناية الإلهية. ومن الممكن أن يقال إذن إن الفلسفة التى كان ابن رشد يعنيها هى فلسفة أرسطو ولكن بعد تنقيحها باجتهادات ابن رشد. ويخيل إلى أن ابن رشد كان ينتوى إجراء تلك التنقيحات، وأنه كان يريد إنشاء نوع من الأرستطاليسية المنقحة وفقا لمطالب الإسلام. وقد شرع فى ذلك عندما أعاد تعريف مفهوم العلم بحيث يشمل الإيجاد والعناية. فهل كانت تلك الجهود ناجحة؟ أعتقد أنها كانت مقحمة على أرسطو. ولكن ابن رشد نفسه لم يكن راضيا تمام الرضا عن أدائه فى هذا المضمار، وكان يدرك أن الأمر يستحق مزيدا من البحث. فموضوع العناية وفقا لرأيه فى «الكشف عن مناهج الأدلة» لا تتسع له عدة مجلدات. وهو يقول: «وليس قصدنا ذلك فى هذا الكتاب. ولعلنا إن أنسأ الله فى الأجل، ووقع لنا فراغ أن نكتب كتابا فى العناية...». ونحن نعلم أنه لم يؤلف هذا الكتاب. إلا أن هذا لا ينال من عظمة إسهامه؛ وكثيرة هى الدروس التى خلفها للفكر البشرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.