هناك صفحة فى تاريخ الفلسفة الإسلامية ينبغى أن تدرس بعناية لأنها تتعلق بمصيرها عندما انتقلت إلى أوروبا المسيحية عن طريق الترجمة، وكانت لها عندئذ حياة خصبة جديدة. يصدق هذا بصفة خاصة على فلسفة ابن رشد. فقد كان له فى أوروبا تلامذة وأتباع هم الرشديون اللاتينيون. كما كان له خصوم لا يستهان بهم، وعلى رأسهم القديس توماس الأكوينى، الممثل الأكبر للكنيسة الكاثوليكية. وظل الفيلسوف العربى يشغل الأذهان لفترة طويلة ويثير من الإعجاب والكراهية ما لم يثره أى فيلسوف آخر. وما زال الباحثون يتساءلون اليوم عن مدى تأثيره - إن كان له تأثير على الثقافة المسيحية فى العصور الوسطى، وعلى نشأة الفلسفة الحديثة، وحركة التنوير الأوروبية. باريس هى مهد الرشد اللاتينية. وعليها ينبغى التركيز. فقد ظهرت هذه الرشدية أول ما ظهرت بين أساتذة وطلاب كلية الآداب بجامعة باريس فى القرن الثالث عشر الميلادى، وذلك قبل أن تمتد إلى مراكز أوروبية أخرى، ويستمر نشاطها حتى القرن السادس عشر، أى على مشارف العصر الحديث، وبداية الفلسفة الحديثة. إلا أن مصير ابن رشد فى أوروبا تقرر حيث ظهر لأول مرة فى منفاه الباريسى. ونحن لا نعرف عن الرشدية اللاتينية فى هذه المرحلة إلا ما نسبه إليها خصومها. ويبدو أن هذا الجهل يرجع إلى حد ما إلى أن الرشديين اللاتينيين كانوا يتداولون آراءهم شفاهة وفى حلقات شبه سرية، أو «فى الأركان» كما يقول القديس توماس الأكوينى فى كتابه المعنون «وحدة العقل ضد الرشديين»، وهو الكتاب الذى فند فيه آراءهم وآراء أستاذهم العربى فيما يتعلق بالعقل أو النفس، وتحدى أحد ممثليهم دون أن يسميه أن يظهر فى العلن ويجاهر بآرائه ويواجه التفنيد. وليس من المؤكد أن أحدا من الرشديين قبل التحدى. فترة السعادة إلا أن هجوم الأكوينى على الرشدية وما رافقه وتلاه من انقلاب شامل على ابن رشد سبقته مرحلة سعيدة أولى حظى فيها الأستاذ العربى بالإعجاب والتقدير، وتمتع فيها تلامذته الباريسيون بقدر من التسامح. ومهمتنا هنا هى أن نتعرف على طبيعة هذا التحول وبيان أسبابه. بدأت ترجمة المؤلفات الإسلامية فى أواخر القرن الثانى عشر وشملت فى البداية مؤلفات ابن سينا والفارابى والكندى والغزالى، ثم امتدت إلى أعمال ابن رشد بداية من 1220 -1224، وشملت الكثير منها. ويدل قصر الفترة التى استغرقتها حركة الترجمة وغزارة ثمارها على أن أوروبا المسيحية تعرضت لما يشبه الطوفان أو الغزو الثقافى. لم تكن أوروبا قبل وفود الفلسفة الإسلامية تعرف من أرسطو إلا منطقه، وتجهل مؤلفاته الطبيعية والميتافيزيقية والأخلاقية. وعن طريق هؤلاء الفلاسفة، وبخاصة ابن رشد، أصبحت أوروبا تعرف لأول مرة فلسفة أرسطو فى مختلف جوانبها تقريبا، وتعرفها ميسرة عن طريق شرح مفصل شامل. ولم يكن لدراسة الفلسفة شأن يذكر فى جامعة باريس قبل وفود الفلاسفة العرب. كان المنطق يدرس مع مواد أخرى (النحو والجدل والخطابة) فى كلية الآداب كتمهيد ووسيلة للدراسة فى كليات عليا هى الطب والقانون واللاهوت. وكانت جميع المعارف فى الجامعة تتجه فى نهاية المطاف نحو اللاهوت باعتبارها خادما له. ثم أخذ نظام التعليم الباريسى يتصدع عند دخول الفلسفة الإسلامية مع ما تحمله من العلوم الأرسطية فى مجالات الطبيعة والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) والأخلاق. فقد أصبح أساتذة الآداب لا يقتصرون على دراسة المنطق وهو الأداة الصورية أوالشكلية الخالية من المضمون - بل يتجهون إلى دراسة تلك العلوم لذاتها بما تحتويه من مضامين معرفية خاصة بها وفقا لمناهج عقلية مستقلة وبصرف النظر عن علوم الدين ودون مراعاة للمصالح اللاهوتية العليا. وسرعان ما تنبهت السلطات الدينية لخطر تلك الحرية المعرفية وتوالت أوامر الإدانة والحظر. ففى أوائل القرن، وفى سنة 1210 على وجه التحديد، قررت جمعية للأساقفة حظر استخدام كتب أرسطو فى الفلسفة الطبيعية ومؤلفات شراحها فى المدارس. وفى سنة 2015 نص فى اللائحة الخاصة بجامعة باريس على حظر تدريس كتابات أرسطو فى الميتافيزيقا والفلسفة الطبيعية وما عليها من شروح. إلا أن هذه المقاومة لم تحل دون دخول الفلسفة رسميا كجزء من مناهج الدراسة فى كلية الآداب. بل ان أساتذة اللاهوت أصبحوا هم أنفسهم يناقشون النظريات الفلسفية، ويمارسون التفكير الفلسفى لذاته. وفى هذا السياق أصبح ابن رشد بوصفه شارح أرسطو هو المرجع الرئيسى فى الدراسة. ويرى بعض الباحثين أن الرشدية اللاتينية نشأت فى ظل هذا التصدع الذى أصاب نظام التعليم. وإذا صح ذلك، كان معناه أن هذه الحركة كانت جزءا من اتجاه عام نحو الاستقلال المعرفى، وأنها نعمت لفترة بقدر من الحرية والتسامح. إلا أن فترة السعادة لم تدم طويلا. ففى النصف الثانى من القرن الثالث عشر دخلت الرشدية مرحلة ثانية تختلف عما سبقها. فقد رأينا أن السلطات الدينية كانت تستشعر خطر الفلسفة الوافدة بصفة عامة أرسطو والفلاسفة المسلمين جميعا - وإن كانت هذه المقاومة لم تحل دون اقتحام الفلسفة لنظام التعليم وترسيخ الاستقلال المعرفى، وطلب العلم للعلم. أما فى المرحلة الجديدة، فقد بدأت المقاومة الدينية تركز نيرانها على ابن رشد والرشدية وحدهما. إذا نظرنا فى طريقة تناول القديس توماس الأكوينى لمسألة وحدة العقل البشرى فى كتابه السالف الذكر، تبين لنا أنها مهما كانت وجاهتها لا يمكن أن تفسر ذلك الانقلاب الضخم الذى يشمل تلفيق اتهامات أخرى لا حصر لها. فقد رأى الأكوينى فى كتابه أن ابن رشد أساء فهم أرسطو، وأن التفسير الصحيح لأقوال الفيلسوف اليونانى يدل على أن العقل جزء لا يتجزأ من نفس كل فرد وأنه متعدد بتعددهم، وأنه يبقى بعد موتهم؛ ورأى بناء على هذا التفسير أن الأفراد يخضعون للحساب فى الآخرة. ومعنى ذلك بعبارة دقيقة أن ابن رشد شوه أقوال أرسطو فى مسألة خلود العقل (أو النفس أو الروح)، وأن الأكوينى رأى عن وجه حق أن يقدم شرحا آخر يتفق والإيمان بالبعث والحساب. ولكن الأكوينى يتجاوز ذلك النقد المحدود المنصب على مسألة بعينها، ويستخلص نتيجة عامة ليس لها ما يبررها، وهى أن ابن رشد «محرف لمذهب المشائين» (أى أرسطو وأتباعه). وهو ما يعنى أن شرح ابن رشد لأرسطو لا يعول عليه بصفة عامة وينبغى رفضه برمته. ومن الواضح أن تلك النتيجة تنطوى على ظلم بين لابن رشد؛ فمن المعروف أن الأكوينى ومعاصريه والأجيال التالية له مباشرة من علماء اللاهوت اعتمدوا على ابن رشد فى فهم أرسطو والإفادة من طريقته فى الشرح. ومن الواضح أيضا أن هذه النتيجة الجائرة التى تعنى الانقلاب الشامل على ابن رشد ليس لها ما يفسرها أو يبررها فى اتهامه بفكرة العقل الكلى، وأن هذا الاتهام مهما كانت وجاهته لم يكن إلا ذريعة للانقلاب الشامل على فيلسوف قرطبة والتخلص منه بصفة نهائية، أو اتخاذه كما قال بعض الباحثين كبش فداء يضحى به لإفساح المجال لتقديم شرح بديل لأرسطو، وهو ما فعله الأكوينى فى الواقع. وتدل طريقة الأكوينى فى نقد ابن رشد على أنها لا تفسر الانقلاب على ابن رشد لأنها هى الانقلاب ذاته، أو لنقل إنها مظهر ومظهر رئيسى من مظاهره. فقد تزامن حكمه الجائر مع صدور قائمة الاتهامات التى وجهها أسقف باريس إلى الرشدية (1270)، وهى القائمة التى تلتها قائمة أخرى مطولة. ولم يكن اتهام ابن رشد بفكرة العقل الكلى وهو الاتهام الذى يتمتع بقدر من الوجاهة إلا وسيلة لنسج اتهامات وإصدار إدانات أخرى لا حصر لها وتخلو من الوجاهة. ولم يكن تصرف الأكوينى إلا علامة وعلامة رئيسية - على اصطفاف واحتشاد الثقافة المسيحية الأوروبية بغية إقصاء ابن رشد أو»نفيه» مهما كان الثمن. وهى حملة ظلت تتسع على مر القرون، وانضوى تحت لوائها فئات أخرى من غير رجال الدين مثل الشعراء والمصورين ومزيفى المقالات المنحولة على ابن رشد. ونحن إذن بإزاء ظاهرة فريدة فى تاريخ الفكر الإنسانى، وهى إجماع ثقافة بأكملها أو ما يشبه الإجماع على استبعاد فيلسوف هى مدينة له لأنها تلقت العلم على يديه، وعلى وضع شرح جديد لأرسطو يغنيها عن شرحه. وغنى عن الذكر أن اضطهاد الفلاسفة شائع فى تاريخ الفلسفة، وتنكر الفلاسفة لسابقيهم أو معلميهم ليس بالحدث النادر فى هذا التاريخ. ولكننا هنا بإزاء ثقافة كاملة تشن حربا شاملة على فيلسوف، وتسعى إلى نفيه تماما. ومثل هذه الظاهرة فى حاجة إلى وصف وتفسير. لماذا استشعرت الثقافة المسيحية أن شرح ابن رشد على أرسطو يمثل تهديدا شاملا لها بصرف النظر عن اتهامه فى مسألة أو أخرى، وأنها فى حاجة إلى شرح أرسطو على نحو مختلف؟ كأنما أصابها فيلسوف قرطبة بجرح عميق، فصارت تحاول مداواته. وليس من المجدى تقديم تفسيرات جزئية أو سطحية لتلك الظاهرة كما هو دأب الباحثين حتى يومنا هذا. فمما يقال فى هذا الصدد أن ابن رشد كان «صدمة» بالنسبة لأوروبا المسيحية، أو أنه كان «مقلقا» لها. إلا أن هذه الأقوال تصف أعراض الأزمة، ولا تحدد أسبابها. كلا، وليس من الصحيح ما يتظاهر به بعض الأوروبيين من أن ابن رشد لم يكن له تأثير يذكر فى تاريخ الفلسفة الأوروبية. وكيف يكون ذلك، والجرح الغائر أمر ثابت، والهوس الثقافى الناجم عنه مؤكد؟ لا بد من فحص الأزمة بدقة حتى نصل إلى أعماقها. وللحديث بقية. لمزيد من مقالات د.عبدالرشيد محمودى