كلّما اصطدمتُ بعقل جامدٍ كالصخر، أو أشدّ قساوةً، كلما دهمتنى ظُلمةٌ صمّاءُ لا قِبَل لشموع العالم باختراقِها، كلّما راعنى أن عقلاً يحيا فى القرن الحادى والعشرين، لكنَّ بداوةَ الصحراء بنوقِها وخيامِها وقحَْطِها وجدْبِها ويباسِها لم تزل تعشِّشُ بين أركانه، كلما صادفتْنى أمخاخٌ كسولٌ تقول: لكى أعيشَ أنا؛ لابدَ أنت تموتَ أنت، أنا صحٌّ وأنت خطأ، أنا خيرٌ وأنتَ لا شكَّ ضلال، الله يحبُّنى أنا ويمقتُكَ أنت، (وهذا مضحكٌ لأن اللهَ خالقٌ الجميعَ يحبُّ الجميعَ، حتى عبادَه العاصين)، كلّما أحزننى استشراءُ النَقْلِ على حسابِ العقْل، وغيابُ النورِ لصالح العتمة، فكّرتُ فى ابن رشد! ويتردّد السؤال فى عُمْقى: ماذا لو أنه ظهر الآن بكل ثِقَلِه وفِكْره ونورِه ونارِه؟ أكنّا سنكتفى بحرق كتبه ونفيه إلى حيث يُنْفَون؟ أم كنّا سنحرق الرأسَ الذى أنتج تلك الكتبَ وذلك الفِكرَ وذاك النور؟ الإجابةُ يعرفُها الجميع. على أن قرعَ النواقيس، ولو فى الفراغ، الذى لا ينقل الصوتَ مهما علا وعَظُمَ، أكثرُ نُبْلاً من الصمتِ والاستسلام، حتى وإن توّحدتِ النتائجُ. لكنه لمن نكد الدهر وسوء الطالع بحق، أن يرتقى ابن رشد تلك المكانة الرفيعة لدى الغرب، بينما لا يكادُ الشابُّ العربىُّ الراهن يعرف عنه شيئًا! فضلاً عن سَيْرنا، بدأبٍ وإصرارٍ وعماء، على خطٍّ نقيض لكلِّ ما وصل إليه ابن رشد بالتأمل وإعمال العقل! تُرجمت شروحه لفكر أرسطو إلى اللاتينية فى القرن الثالث عشر، على يد الاسكتلندى ميشيل سكوت والألمانىّ هيرمانوس أليمانوس، وكانت شروحُه بمثابة البعث للأرسطية الحقيقية فى الغرب، ثم أقرَّ روجر بيكون أن سكوت هو صاحبُ التحوُّل الفعلىّ فى تاريخ أوروبا الغربية بسبب المقدمة الرُّشدية لأرسطو. عبر تلك الترجمات تسرب مبدأ المزاوجة بين العقل والإيمان إلى الفكر المسيحىّ فى أوروبا مما أطلق شرارة المذهب العقلانىّ الذى أدى بدوره إلى التحرر التدريجى من الفكر الأفلاطونى الذى كان أقل وطأةً فى الشرق المسلم عنه فى الغرب المسيحىّ. فى القرون السابقة لابن رشد كان ثمة تشويش فى استيعاب الأرسطية من قِبَل المفكرين المسلمين ولهذا تمَّ تشويهُ فكره على يد العديد منهم، وكان ابن رشد أولَ من استعاد أرسطو الأصل الذى تم اكتشافه من جديد فى الغرب عبر ترجمات شروحه. وفيما تلا من قرون أصبحت أعمال ابن رشد تُدرّس فى جامعات أوروبا؛ الأمر الذى أرهص لحركة انتصار الأرسطية وإزاحة الفكر الأفلاطونىّ الراسخ فى الغرب وقتئذ. ولذا يعتبر الغربُ الآن آفيروس، أو ابن رشد، واحدًا ممن لعبوا دورًا رائدًا فى إحياء تطوير الإسكولائيية المسيحية. وفى حين أخذ كثيرٌ من المفكرين المسلمين على فكر ابن رشد استغراقه الشديد فى العقلانية، إلا أن كتاباته ظلت منجمًا للأفكار والمعلومات لفلاسفة المسيحية ومحركًا لتحرير عقول المثقفين الغربيين على مدى قرون أربعة منذ ق12 حتى ق16، وظلَّتْ أعمالُه مثارًا لجدل وسجالات حادة بين إسكولائيى أوروبا فى مواجهة الكنيسة من أجل تعديل تعاليمها. تأثرت أدبياتُ اللاهوتية فى القرون الوسيطة بالرشدية، مثل دراسات توما الإكوينى. واعتبره كثيرٌ من مستنيرى الفكر من مسيحيى أوروبا واحدًا منهم إلى حدّ أن (أسْبَنوا) اسمه فجعلوه »آفين رويز« Avén Ruiz، غير أن آراءه كانت غيرَ مقبولةٍ من قِبل المسيحية الأرثوذوكسية الكلاسيكية؛ حيث كانت معظمُ نظرياته معاكسةً لتعاليم الكنيسة المتطرفة. لكن ذلك لم يلغِ الأثرَ البالغَ الذى لعبته أفكارُه على لاهوت مسيحيةِ العصر الوسيط. وعلى الجانب الآخر، درَسَ بعضُ المسيحيين أعمالَه على نحو منفرد لاقتناص أخطائه، مثلما فعل آرنولد فيلا نوفا (1240- 1311)، حين استنكر اعتمادَ الفكر المسيحىّ على تعاليمَ مُلحدةٍ كهذه. ومن أجل تأكيد قوله، قام بتحريف أفكار ابن رشد. فى ذات الوقت قامت مجموعة من الباحثين، فى ق13، وقائدهم سيجر باربنت، بإعلان ولائهم التام لابن رشد، ما أثار هياجَ الكنيسة وغضبتها. كذلك أخطأ بعضُ الدارسين الأوروبيين فَهْمَ فكرِ الرجل، ما أدى إلى اختلاق خطٍّ فلسفىٍّ يسمى بالرُّشدية Averroism وهو ما كان يدلُّ، أول الأمر، على اتجاهٍ فكرىٍّ يذهب إلى أن الفلسفةَ حقٌ والدينَ الموحَى به باطلٌ. تلك الرشدية رفضها الإكوينيون، وبطبيعة الحال كان سيتبرأ منها ابن رشد نفسُه لو عاصرها. سوءُ تأويلِ ابن رشد هذا هو ما دعا الكنيسةَ لاتهام المذهبِ كاملاً بتدنيس المقدَّس ومن ثَمَّ استنكاره عالميًّا. على أن معتقدَ ابن رشد عن خلود المادة وعن اتصال الله بالموجودات عبر وسيط العقل الفعّال ظلَّ العاملَ الحيوىَّ فى المعتقد الأوروبىّ حتى فجْر عصر العلم التجريبىّ الحديث. وظل ابن رشد والرشدية مادةَ جدلٍ فى الدوائر الأكاديمية الأوروبية لمئات السنين. وبالرغم من ظهور الكثير من المفكرين فى العالم العربى والإسلامى مثل ابن خلدون وغيره، فقد ظل ابن رشد الأشهرَ ولُقِّبَ ب »الشارح« فى العالميْن العربىّ والغربىّ. ونظرًا لامتلاكه عقلاً منطقيًّا فارقًا، آمن ابن رشد بمقدرة العقل على سبْر الأسرار الكبرى للكون، سوى أنه جاء متأخرًا جدًّا عن أن يتمكن من إحداث إحياء حقيقىّ للفلسفة فى بلاد الشرق الإسلامية نظرًا لسيادة نظريات الغزالى. فيا من قلتَ يومًا: »والحقُّ لا يضادُّ الحقَّ، بل يوافقُه ويشهدُ له«، رجاءً لا تأتِ الآن، فلم نعد أهلاً لك! المَراجِع: • “Moorish Culture in Spain”, Burckhardt, T. George Allen & Unwin, Ltd., London, 1972. • ” Islamic Contributions to Civilization”, Cobb, S.,Avalon Press, Washington, 1963.