كان ابن رشد غريبا في بلاده رغم رفعة مكانته من الناحية الاجتماعية والدينية والعلمية. اتهم بالكفر، وأحرقت مؤلفاته، وتعرض للنفي، ولم يعش طويلا بعد العفو عنه. وبرحيله اختتم تاريخ أكبر فلاسفة الإسلام، واختتم تاريخ الفلسفة الإِسلامية ككل. وقد هزم ابن رشد إذن في المعركة التي خاضها دفاعا عن الفلسفة ضد الغزالي والمتكلمين. ولكن كان من حسن حظه أنه تغرب مرة أخري عندما انتقلت مؤلفاته ومؤلفات غيره من فلاسفة اِلإسلام إلي أوروبا المسيحية عن طريق الترجمة إلي العبرية واللاتينية. وأصبح لفيلسوف قرطبة في المهجر حياة جديدة، وظهر له هناك تلامذة وأتباع هم الرشديون اللاتينيون وخصوم كبار من علماء اللاهوت والفلسفة المسيحيين، وعلي رأسهم القديس توماس الأكويني. وظل الجدل مشتعلا حول الفيلسوف العربي طيلة ثلاثة قرون علي أقل تقدير، بداية من منتصف القرن الثالث عشر حتي منتصف القرن السادس عشر. وقد ظهرت الرشدية اللاتينية أول ما ظهرت في القرن الثالث عشر بين أساتذة وطلاب كلية الآداب في جامعة باريس، ثم انتقلت إلي بادوا والبندقية في إيطاليا، وكانت لها امتدادات في مدن أوروبية أخري. ولقي ابن رشد إعجابا شديدا بوصفه «الشارح الأكبر» لأرسطو، ولكنه لقي أيضا كثيرا من العداء والجحود، وتعرضت أفكاره لكثير من التشويه وقرارات الحظر والتحريم. فهل انهزم ابن رشد مرة ثانية في المعركة الأوروبية؟ إرنست رينان كان هذا المفكر الفرنسي (1823-1892) هو أول من ألف كتابا عنوانه «ابن رشد والرشديون اللاتينيون» عن مصير ابن رشد والرشدية اللاتينية في أوروبا المسيحية في العصر الوسيط. وما زال لتأثير هذا المفكر بقايا ورواسب في الفكر الأوروبي - بل وفي الثقافة العربية- حتي يومنا هذا. فقد رأي بصفة عامة أن الفلسفة العربية التي دخلت أوروبا عن طريق الترجمة كانت عنصرا دخيلا أقحمته ثقافة أو عقلية سامية دينية في الأساس علي عقلية أوروبية آرية عقلانية وعلمية. كما رأي أن تلك الفلسفة كانت توفيقية خالية من عناصر الأصالة والابتكار، ونسخا مشوهة من فلسفات اليونانيين، وأن هذه العناصر ينبغي أن تلتمس بالأحري في مذاهب الفرق الدينية والكلامية. وبناء علي هذه الفكرة العنصرية التبسيطية ذهب رينان في مستهل كتابه إلي أن الفلسفة العربية بل وفلسفة العصور الوسطي المسيحية ليس لهما من أهمية بالنسبة للثقافة العلمية الحديثة إلا علي سبيل الدراسة التاريخية الصرف. هذا هو رأي رينان بصفة عامة. وأقول بصفة عامة لأن كتابه لا يخلو من بعض الآراء التي تناقض عنصريته. فهو في مستهل الطبعة الثانية من كتابه (الذي نشرت طبعته الأولي في 1852) يعرب عن ازدياد تقديره لابن رشد. بل ان الكتاب يتضمن في طبعته الأولي إعراب مؤلفه عن الإعجاب بمذاهب المتكلمين (وهؤلاء لم يكونوا آرييين)، وإشادته بأصالة الغزالي لأنه سبق ديفيد هيوم إلي إنكار السببية. وكان حريا به أن يراجع معتقداته العنصرية علي ضوء تلك الآراء. ولكنه لم يفعل. وهو إذن ينقض نفسه بنفسه دون أن يدري. ولكن من المؤسف أن عنصرية رينان المتهافتة قوية التأثير حتي يومنا هذا، فما زال بعض الكتاب الغربيين يكتب عن الفلسفة الإسلامية كما لو كانت عدوي أصابت الفكر الغربي. بل ان تهوين رينان من شأن هذه الفلسفة صدقه البعض عندنا: فهناك من يعتقد أن أصالة الفكر الإسلامي ينبغي أن تلتمس في علم الكلام أو في علم أصول الفقه. التحوير والتدوير ينبغي قبل الانتقال إلي باريس والرشدية اللاتينية أن ندقق النظر في طبيعة الفلسفة العربية التي انتقلت إلي أوروبا المسيحية عن طريق الترجمات العبرية واللاتينية، وأن نتبين بوضوح وضع ابن رشد في ذلك السياق. فمن المؤكد أن الطابع الغالب هنا هو التوفيق، والتوفيق بصفة خاصة بين أفلاطون وأرسطو مع بعض الإضافات المستمدة من أفلوطين (القرن الثالث الميلادي) ونظريته في الصدور أو الفيض. يصدق هذا بصفة خاصة علي الفارابي وابن سينا وبعض فلاسفة الأندلس مثل ابن طفيل. وكان الغرض من هذا التوفيق هو إثبات الانسجام بين الإسلام (الشريعة أو النقل) وبين الفلسفة (الحكمة أو العقل). أما كيف يؤدي التوفيق بين الفيلسوفين اليونانيين (مع بعض الإضافات الأفلوطينية) إلي تحقيق الغرض المذكور، فيمكننا أن نستعين في التوضيح ببعض الأمثلة، ومنها حالة الفارابي. يقول الفارابي في كتابه «الجمع بين رأيي الحكيمين»: «إن الفلسفة، [بمقتضي] حدها [أي تعريفها]، أنها العلم بالموجودات بما هي موجودة. وكان هذان الحكيمان هما مبدعان للفلسفة، ومنشئان لأوائلها وأصولها، ومتممان لأواخرها وفروعها، وعليهما المعول في قليلها وكثيرها، وإليهما المرجع في يسيرها وخطيرها. وما يصدر عنهما في كل فن إنما هو الأصل المعتمد عليه، لخلوه من الشوائب والكدر. بذلك نطقت الألسن، وشهدت العقول...» ويريد الفارابي أن يقول بعبارة آخري إن الحكيمين اليونانيين أحاطا فيما بينهما بكل ما ينبغي أو يمكن أن يعرف عن الموجودات وإن من غير الممكن الاستغناء عنهما أو تجاوزهما ما دام تعريف الفلسفة ذاته هو أنها العلم بالموجودات من حيث هي موجودة. ولكن الفارابي كان يدرك أن بين الفيلسوفين اختلافات بادية للعيان، وأن عليه أن يتصدي لها ويتغلب عليها. ومن الاختلافات التي لم يفصح الفارابي عنها أن أرسطو علي خلاف أفلاطون نظم المعارف الممكنة عن الموجودات في صورة نهائية علي هيئة علوم يستقل كل منها بمجاله وموضوعه وطريقة بحثه. ورغم أن أفلاطون أحاط في رأي الفارابي بكل تلك المعارف، فقد كان هذا الأخير يدرك أن لأرسطو الأفضلية بوصفه المنظم والمؤسس للعلوم. وكان الفارابي يدرك من ناحية أخري أن كفة أفلاطون ترجح كفة أرسطو من وجهة النظر الدينية. فالموجودات في المنظومة الأرسطية ترتكز علي قاعدة طبيعية محسوسة وتندرج بناء عليها في مراتب مختلفة من الكمال حتي تصل إلي الكائن الأسمي والأكمل أو الإله. إلا أن إله أرسطو يبدو في إطار هذا الترتيب الصاعد وفقا لمستويات الكمال كما لو كان مجرد علة غائية أو مثل أعلي. وليس في أرسطو ما ينص صراحة علي أن الله أحدث العالم أو خلقه بعد أن لم يكن، أو أنه علة فاعلة. أما أفلاطون، فهو ينص صراحة (في محاورة طيماوس) علي إله صانع ومشكل وحافظ للعالم. ومن ثم كان الأمر يقتضي في نظر الفارابي «الجمع» بين الفيلسوفين في إطار فلسفة واحدة تفي بمطالب العلم وبمطالب الدين في نفس الوقت، وبذلك يتحقق التوافق بين الحكمة والشريعة. والفارابي يجمع بين الفيلسوفين اليونانيين في كتابه السالف الذكر عن طريق التدليل علي أن الاختلافات بين الطرفين ظاهرية ولا تنفي اتفاقهما في حقيقة الأمر. ولكن عملية الجمع لا تقتصر علي ذلك. فهي في واقع الأمر لا تسوي بين الفيلسوفين ولا تقدم حلا وسطا بينهما، بل تنصب علي طرف واحد هو أرسطو، وتحوله لكي يتوافق مع أفلاطون ويخضع لمنطقه في التفكير. وهناك إذن تحوير وتدوير للمنظومة الأرسطية لكي يعاد توجيهها علي نحو أفلاطوني. وهو ما يعني إعادة تصنيف الموجودات في هذه المنظومة بحيث يبدأ الترتيب من أعلاها ويمتد من ثم إلي سائر مكوناتها. فبدلا من ترتيب الكائنات علي شكل سلم صاعد أو هرم بداية من القاعدة المادية إلي القمة الإلهية، تصبح نقطة البدء هنا هي هذه القمة التي يحتلها إله أفلاطون الصانع أو المحدث للموجودات. أو لنقل يحول إله أرسطو من علة غائية تنزع سائر الكائنات نحوها وتحاكيها كل علي قدر طاقته، إلي علة فاعلة محدثة للكائنات أو موجدة لها؛ ومن ثم تتراتب سائر الكائنات في اتجاه النزول مما هو أعلي إلي ما هو أدني حتي تنتهي إلي الأجسام المادية. وهذه الأجسام التي تعد في المنظومة الأرسطية هي الأساس في الوجود وفي المعرفة العلمية اليقينية تصبح في النظام الأفلاطوني الجديد أحط الكائنات من حيث الحقيقة والمعرفة. ثم تضاف إلي هذا الترتيب النازل لمسة أفلوطينية أخيرة، فتستبعد فكرة الإحداث أو الإيجاد الإلهي أو الخلق ليحل محلها مفهوم صدور الموجودات عن الإله الواحد وانتشارها منه كما يصدر النور عن الشمس أو تفيض به. وبهذا التحويل للمنظومة الأرسطية أراد الفلاسفة التوفيقيون أن يثبتوا التوافق بين الدين والفلسفة. إلا أن هذا التوفيق يعني عمليا فرض أفلاطون وأفلوطين علي أرسطو. الأصالة والابتكار ويمكننا بعد هذا العرض السريع لفلسفة التوفيق بين أفلاطون وأرسطو أن نؤكد أولا أن هذه الفلسفة لم تكن اختراعا فارابيا أو إسلاميا أو ساميا. فلقد بدأت محاولات التوفيق قبل الفارابي وقبل ظهور الإسلام لدي فلاسفة يونانيين وثنيين ومسيحيين. ومن المؤكد فيما يتعلق بالفارابي بصفة خاصة أنه تأثر في مشروعه التوفيقي بفيلسوف يوناني وثني يدعي أمونيوس، والفارابي يذكره صراحة في كتابه السالف الذكر. أما فيما يتعلق بالأصالة والابتكار، فينبغي أن نشير إلي أن الفلسفات التوفيقية لم تكن معنية بالتجديد بقدر ما كانت معنية علي سبيل الأولوية بأداء مهمة كبري يمليها تعريف الفلسفة الذي استشهد به الفارابي نقلا عن أرسطو، وهو أن الفلسفة هي العلم بالموجودات بما هي موجودة. فبناء علي هذا التعريف لم يكن بمستطاع الفلاسفة التوفيقيين في تلك المرحلة من التاريخ تجاهل العلوم الأرسطية، بل كان عليهم التسليم بها واستيعابها، ولا سيما أن الثقافة التي نشأوا فيها كانت تخلو من المعارف العلمية المنظمة. كلا، ولم يكن بوسعهم بناء علي نفس التعريف تجاهل الموجودات كما أنبأت عنها الأديان السماوية. ورأوا أن من واجبهم وكانوا علي حق في ذلك أن يجدوا في المنظومة الكونية العلمية المنقولة عن اليونان مكانا مناسبا للكائنات والظواهر التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة: كائنات وظواهر مثل الإله الخالق، والنبوة، والمعجزات، وخلود الروح (البعث)، واليوم الآخر (الحساب). وما كان للفلسفة بوصفها العلم بالموجودات من حيث هي موجودة أن تتقاعس عن أداء تلك المهمة التاريخية الكبري بصرف النظر عن اعتبارات الأصالة والابتكار. الشارح الأكبر الفلسفة التي انتقلت من الشرق الإسلامي إلي أوروبا كانت إذن توفيقية بصفة عامة، وكان التوفيق يعني عمليا تعديل أرسطو بحيث يتوافق مع أفلاطون وأفلوطين. وينبغي الآن أن نفرد مكانا خاصا لابن رشد لأنه يختلف عن جميع سابقيه من الموفقين مسلمين وغير مسلمين. فابن رشد لم يحاول التوفيق بين أفلاطون وأرسطو أو أي فيلسوف آخر لكي يثبت توافق الفلسفة مع الدين. بل حصر مشكلة التوفيق بين طرفين لا ثالث لهما، هما الإسلام من ناحية وأرسطو من ناحية أخري، مع رد كل منهما إلي نواته الأساسية: الإسلام في مبادئه الأساسية كما نص عليها القرآن، وأرسطو الأصلي الخالص مما فرض عليه عبر العصور. وعندما استقبل ابن رشد في أوروبا المسيحية سمي «الشارح الأكبر». وهي تسمية تشير إلي ضخامة عمل الشارح واتساع نطاقه. وذلك أن الفيلسوف العربي قدم لأوروبا لأول مرة شرحا يشمل جميع مؤلفات أرسطو (باستثناء كتاب السياسة) ويدور في كل حالة علي ثلاثة مستويات متفاوتة من حيث الإيجاز والإسهاب. ولعل من أطلقوا عليه تلك التسمية كانوا يشيرون أيضا إلي أن شروحه تفتح نوافذ علي شراح أرسطو السابقين يونانيين ومسيحيين ومسلمين بل وعلي علماء الكلام المسلمين. ولعلهم كانوا يعنون بالإضافة إلي كل ذلك أن ابن رشد أتي في شروحه الكبيرة بطريقة جديدة ممتازة في الشرح اتبعها القديس توماس الأكويني من بعده، وهي إيراد النص الأرسطي الأصلي كلمة بكلمة ثم مناقشته والتعليق عليه بالتفصيل، وذلك بدلا من تلخيص النص أو إعادة صياغته مع ما قد يستتبعه ذلك من تحريف. إلا أننا ينبغي أن نفهم صفة «الشارح الأكبر» علي ضوء ما تقدم من عرض للفلسفات التوفيقية. فالاستشهاد الحرفي بالنص الأرسطي قبل تفسيره كان علامة من بين علامات أخري علي مشروع ابن رشد الرامي إلي إظهار أرسطو الأصلي الخالص بعد تنقيته من العناصر الدخيلة. ولقد تمكن ابن رشد من تحقيق هذا الهدف بقدر ما كان ذلك ممكنا بالنسبة لشارح لا يعرف اليونانية. وابن رشد هو الشارح الأكبر لأنه واجه التحدي الأكبر عند تجريد أرسطو من العناصر الدخيلة، وهو محاولة التوفيق بين الدين في مبادئه الأساسية (وهي مبادئ تنتمي لعالم الغيب وإن كانت تنص علي التدخل الإلهي في عالم الشهادة) وبين منظومة علمية تقوم علي دراسة الأشياء المشاهدة وتفسيرها بأسبابها الطبيعية ويبدو أنها لا تتسع لعلة غيبية إلا بوصفها غاية مشتهاة أو مثلا أعلي. فهل كان من الممكن حل هذه المشكلة الجسيمة؟ لقد حاول ابن رشد أن يمد جسرا عقلانيا بين العالمين (عالم الغيب وعالم الشهادة، عالم الشرع وعالم أرسطو) عندما رأي أن مقصد الشرع هو الحث علي النظر في الموجودات والاستدلال من حسن صنعتها علي عناية الصانع الحكيم واختراعه لها. فالإشارة إلي «الموجودات» وإلي «الاستدلال» تعني أن ابن رشد خطي بالشرع خطوة ذكية نحو أرسطو الذي عرف الفلسفة كما رأينا بأنها العلم بالموجودات، ووضع علم المنطق وحدد فيه شروط الاستدلال الصحيح (القياس البرهاني). وابن رشد عندما عرف مقصد الشرع علي ذلك النحو المعرفي العقلاني كان في الواقع يعارض ويستبعد تعريفات ممكنة أخري تقيم اِلإيمان علي أسس غير عقلية. كما أنه وضع شروطا للتأويل من شأنها أن تتيح للتفكير العقلاني حرية تكاد تكون كاملة. ولم يبق إذن أمام محاولة التوفيق كما رآها ابن رشد إلا التدليل علي أن فلسفة أرسطو (العلمية الخالصة) تتضمن دليلين إسلاميين أساسيين هما: دليل العناية ودليل الاختراع. فهل نجح ابن رشد في هذا التدليل؟ لقد حاول، وإن اعترف بقصور عمله في هذا المجال. فلنعلق الحكم إذن في الوقت الحاضر. ويكفي أن نلاحظ أن ذلك علي أي حال هو شرح ابن رشد لأرسطو كما استقبلته أوروبا المسيحية. والغريب أن هذا الشرح كان له من الآثار ما يفوق تأثير كثير من المذاهب الفلسفية «المبتكرة». وإلا فلماذا أقض ابن رشد المضاجع الأوروبية طيلة قرون فانهالت عليه اللعنات من جميع الجهات، من الكنيسة الكاثوليكية وغيرها من الأطراف بما في ذلك الشعراء والمصورون؟ ولماذا قيل عنه إنه هو الشيطان عينه أو إن الشيطان تلبسه، وإنه المسيح الدجال؟ ولماذا اتهم بالإلحاد وإنكار النبوات؟ ولماذا يصفه بعض الكتاب المعاصرين بالصدمة، فكأنه كان زلزالا لاتزال موجاته تنتشر عبر القرون؟ وما هو الضرر الذي يمكن أن يحدثه شرح مجرد شرح؟ ذلك ما أرجو بحثه في فرصة أخري. لمزيد من مقالات د.عبدالرشيد محمودى