بينما يواصل النظام المصري بقيادة المنقلب عبد الفتاح السيسي سياسة الاقتراض المكثّف، تستعد القاهرة مطلع ديسمبر/كانون الأول لاستقبال بعثة صندوق النقد الدولي لإجراء المراجعتين الخامسة والسادسة من برنامج القرض الممتد، والحصول على شريحتين جديدتين قيمتهما نحو 2.4 مليار دولار. لكن خلف لغة "التفاؤل" الرسمية، يبرز سؤال جوهري: لمن تذهب هذه الأموال؟ الخبراء الاقتصاديون يجمعون على أن النظام لم يعد يقترض لتمويل التنمية، بل لسداد أقساط ديون سابقة أو لضخ سيولة في مشروعات عقارية وترفيهية لا تعود بأي إنتاج حقيقي. أي أن الدولة تسدد الديون بالديون، بينما تتآكل قدراتها المالية ويتسع العجز عامًا بعد عام.
خطاب حكومي يروّج ل"المؤشرات الإيجابية"… لكن الواقع مغاير
الحكومة أعلنت سلسلة إجراءات «استباقية» لإرضاء الصندوق، وتحدث رئيس الوزراء مصطفى مدبولي عن "تفاؤل شديد" قبل الزيارة، مشيرًا إلى تحسن الاحتياطي النقدي وزيادة الاستثمارات الخاصة، وهي لغة تتكرر منذ سنوات رغم استمرار نزيف الاقتصاد وارتفاع الدين الخارجي إلى 161.2 مليار دولار، والدين العام إلى 87% من الناتج المحلي.
بيع الأصول بدل تنمية الاقتصاد: استثمارات أم تصفية ممتلكات؟
تعوّل السلطة على ما تسميه "تدفق موارد أجنبية ضخمة"، لكن معظمها يأتي عبر بيع أراضٍ وأصول تابعة للدولة وليس عبر إنتاج أو صناعة:
صفقة "علم الروم" مع الديار القطرية بقيمة 29.7 مليار دولار، بينها 3.5 مليارات ثمن الأرض تدفع فورًا، وتخصّص الحكومة 350 مليون دولار منها لخفض الدين العام.
صفقة "رأس الحكمة" مع الإمارات التي سبق أن دخلت في الحسابات لتوسيع قرض الصندوق إلى 8 مليارات دولار.
ورغم أنّ الحكومة تصف هذه الصفقات بأنها "استثمارات"، فإن خبراء اقتصاديين يرون أنها تصفية للأصول العامة لتعويض نقص الدولار وتمويل سداد الديون، ما يعني أن "الإيرادات" ليست ناتجة عن نشاط اقتصادي بل عن بيع ممتلكات المصريين.
كما تخطّط الحكومة لرفع عدد الشركات المطروحة للبيع إلى 50 شركة حكومية، سعيًا لجمع ما يصل إلى ملياري دولار قبل نهاية العام.
تقليص الدعم ورفع الأسعار: المواطن يدفع ثمن الفشل
تنفيذ تعليمات الصندوق لم يتوقف عند بيع الأصول، بل يشمل:
رفع أسعار الوقود مرتين خلال 2024
زيادات تجاوزت 60% في أسعار البنزين و75% في السولار
تقليص تدريجي لدعم الطاقة والسلع
وهذه الإجراءات تأتي في الوقت الذي ترفع فيه الحكومة شعار "الحفاظ على الانضباط المالي"، بينما تواصل التوسع في المشروعات غير ذات الجدوى الاقتصادية مثل العاصمة الإدارية، والمحاور الخرسانية، ومجمعات ترفيهية عملاقة تُكلّف مليارات الدولارات.
قناة السويس والسياحة والتحويلات: تحسينات مؤقتة لا تُصلح اقتصادًا مثقلاً بالديون
تتحدث الحكومة عن تعافي قناة السويس بعد وقف الحرب على غزة وتوقع إيرادات تصل إلى 4.1 مليارات دولار هذا العام، بجانب ارتفاع الاحتياطي إلى 50.7 مليار دولار. لكن الخبراء يؤكدون أن هذه تحسينات ظرفية لا تغير حقيقة أن مصر أكبر دول المنطقة اعتمادًا على الديون قصيرة الأجل، وأن القطاع الإنتاجي الحقيقي – الصناعة والزراعة – يواصل التراجع لصالح اقتصاد قائم على الاقتراض وبيع الأصول.
كيف تنتهي الحلقة المفرغة؟ رأي الخبراء
يرى الاقتصاديون أن استمرار هذا النمط لن يؤدي إلا إلى تضخم الدين وارتفاع كلفة خدمته، مؤكدين أن الخروج من الأزمة لن يتحقق إلا عبر:
وقف التوسع في المشروعات غير الضرورية التي تلتهم القروض.
إعادة بناء الصناعة والزراعة بدل الاعتماد على العقارات وصفقات الأراضي.
تحرير الاقتصاد من قبضة الجيش التي تمنع المنافسة وتطارد المستثمرين.
رفع كفاءة الإنفاق العام ووقف هدر الموازنة على بنود غير إنتاجية.
فالمشكلة ليست في "نقص التمويل"، بل في سوء الإدارة وعسكرة الاقتصاد التي حولت مصر إلى دولة تُقترض لتسدد، وتبيع أصولها لتغطّي العجز، بينما يستمر النظام في سياساته دون رقابة أو محاسبة.