" سيلفان غونغهايم " أستاذ تاريخ العصور الوسطي في جامعة ليون بفرنسا، نشر كتابا بعنوان :" أرسطو في جبل سان ميشيل .. الجذور الإغريقية لأوروبا المسيحية "، يدحض فيه الأطروحة الراسخة التي يؤمن بها علماء الغرب والشرق علي السواء، والتي تؤكد إن العرب هم الذين نقلوا الفلسفة الإغريقية إلي أوروبا بدءا من القرن الثاني عشر الميلادي، وكانوا أحد الأسباب المباشرة في النهضة الأوروبية أو الرنيسانس . علي مدي عامين كاملين، هما عمر الكتاب، جري مداد كثير - ولايزال - في الساحة الثقافية والإعلامية في أوروبا، حول الاسهام العربي في الحداثة الغربية، ما بين مؤيد ومعارض وبين بين، وهو أمر يتجاوز الخلاف العلمي والفكري إلي مجال الإيديولوجيا والسياسة، أو بالأحري، يدخل في باب الحرب النفسية وزعزعة الثقة في نفوس العرب، خاصة المسلمين في أوروبا، فضلا عن أنه يطرح العديد من التساؤلات حول مشاكل " الأندماج " و" الإسلاموفوبيا " و" اليمين الأوروبي المتطرف " ؟ جبل سان ميشيل يقع في منطقة النورماندي، حيث وجدت مدرسة الترجمة العربية وقتئذ، وكانت بمثابة الجسر الذي نقل الثراث الإغريقي لأوروبا، أما الفيلسوف اليوناني " أرسطو " فقد ظهر في إيطاليا أولا في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر، بعد انقطاع دام ما يقرب من الألف عام هي عمر العصور الوسطي . وفي عصر النهضة الأوروبية استمر أرسطو في بعث حياة فكرية قوية في الجامعات الإيطالية والتعليم الاحترافي للفلسفة . وظهرت الاتجاهات الإنسانية الجديدة في أكاديمية فلورنسا علي سبيل المثال وسط هذا المناخ الأرسطي ، بل كان هناك تحالفا ضمنيا بين الأرسطية والنزعة الإنسانية. وبدءا من القديس " توما الأكويني " ، اعتبر الأرسطيون في جامعات إيطاليا الفيلسوف العربي " ابن رشد " الدليل الهادي والمفسر الأوحد لأرسطو ، لكن علي عكس الأكويني ، كانت لهم دوافع مختلفة بالنسبة للعديد من الموضوعات التي أتبع فيها أرسطو. هذا الفهم المغاير لأرسطو ، والبعيد عن الإيمان المسيحي ، عرف ب " Averrosism " أو "الرشدية الإيطالية " ، وقد صاحبت " الرشدية " دخول أرسطو إلي باريس في القرن الثالث عشر ، منذ " سيجر الباربانتي " . ولأن السلطة الدينية روضت تماما في " بادوا " بإيطاليا ، وضمنت " فينسيا " أيضا حرية التعليم بعد عام 1405 ، بعد مقاومة عنيفة لرجال الدين ، فلم تكن الجامعات في إيطاليا معنية بشكل كاف " بالمسيحية " فكانت سيادة العقل الطبيعي وإنكار الخلق والخلود الشخصي ووحدة العقل ، مع نتائجها اللاهوتية تدرس في الجامعات هناك التي كانت معادية لما فوق الطبيعة ، أكثر من الطبيعة الإيجابية والإنسانية التي كانت تؤمن بها المدن الشمالية في إيطاليا القرن الخامس عشر ، التي نصبت أفلاطون ضد أرسطو ، وأصبح الخلود الشخصي هو الراية التي حارب تحت ظلها الإنسانيون من أجل مزيد من القيم الفردية والشخصية ، مثلما فعل الأفلاطونيون تماما في فلورنسا ، التي أعلنت حملة دينية ضد " بادوا " الطبيعية. من هنا فإن المتنافسين الفلسفيين العظيمين في إيطاليا عصر النهضة، نهاية القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، هما : إنسانية دينية وإنسانية طبيعية ، حيث انتشرت الفلسفة الأرسطية الطبيعية التي أدت إلي الفصل بين اللاهوت والفلسفة في نهاية المطاف ، علي العكس تماما مما سعت إليه الفلسفة الأفلاطونية أو الإنسانية المسيحية ، وتلك نقطة هامة جدا لفهم الدور المحوري الذي لعبته الرشدية اللاتينية . ما يدحض مزاعم " سيلفان غونغهايم " وكتابه المفخخ، شهادة أهم الفلاسفة الرشديين في عصر النهضة الأوروبية، يقول (كونتاريني): " عندما كنت في بادوا ، هذه الجامعة ذائعة الصيت في كل إيطاليا ، فإن اسم وسلطان " ابن رشد " كانا الأكثر تقديرا ، فالكل كان موافقا هذا المبدع العربي ، واعتبروا آرائه نوعا من الوحي الإلهي ، وكان الأكثر شهرة من الجميع بسبب موقفه من " وحدة العقول " ، بحيث أن من كان يفكر علي العكس من ذلك ، لم يكن جديرا باسم المشائي أو الفيلسوف " .