«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منهج الشك الديكارتي ردت فيه الروح بعد زلزال الماركسية وسقوط جدار برلين
نشر في القاهرة يوم 03 - 11 - 2009

تشهد الجامعات الأمريكية والأوروبية حاليا حالة انتعاشة للفكر الفلسفي ،تزامنا مع يوم الخميس من الأسبوع الثالث من شهر نوفمبر سنويا، والذي جعلته منظمة اليونسكو اليوم العالمي للفلسفة ،كما طرحت عدة جامعات برامج تعليمية تعيد الاعتبار إلي "الحكمة" فيما واصل الفلاسفة الجدد إبداعاتهم النظرية التي يثور حولها نقاشات في الصحف الكبري،وهنا يبرز السؤال عن مكانة الفلسفة في الوطن العربي خلال هذه المرحلة؟
وبمعني آخر: لماذا يستمر البعض من العرب والمسلمين في القرن الواحد والعشرين في التقليل من شأن الفلسفة ودورها في تحقيق التقدم للمجتمعات والانعتاق للأفراد؟
هل يمكن أن تعود الفلسفة إلي ماكانت عليه في ظل النهضة العربية واعتماد زعماء الإصلاح علي مناهجها في دعاويهم إلي التجديد والتحديث؟
ثمة حقيقة تاريخية هي أن نشوء وتشكل الجامعات العربية وخاصة في مصر ولبنان وسوريا وبغداد ودول شمال أفريقيا مع دولة الاستقلال شجع علي ميلاد حقبة فلسفية عربية، وقد فسر البعض هذا الاهتمام الكبير بالعلوم الفلسفية والحكمة والمنهج في ذلك الزمان إلي بروز التيارات الأيديولوجية وخاصة أدبيات حركات التحرر الوطني وصعود أنصار القومية العربية و تفجر الثورة الاشتراكية في روسيا واكتساح المبادئ اليسارية معظم أجزاء المعمورة وقد رافق ذلك ترجمة لفلاسفة الثورة الفرنسية ومنظري العقد الاجتماعي والتمييز بين السلطات والبديل الديمقراطي ومنظومة حقوق الإنسان وخاصة روسو ومونتسكيو وهوبز واسبينوزا وبرجسن وماركس وانجلز وسارتر... الخ.
شخصيات فلسفية عربية
هذا المناخ الملائم أنتج شخصيات مثقفة وكتاباً وأدباء وأساتذة عملوا علي الاشتغال بالفلسفة والعلوم الإنسانية والآداب والدراسات الدينية التنويرية والمقارنة ترجمة وتدريسا وتلخيصا ونشرا وتأليفا وقد اشتهر منهم عبد الرحمن بدوي وحسن حنفي وزكي نجيب محمود من مصر ومحمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري من المغرب وطيب تيزيني ومطاع صفدي وبديع الكسم وبرهان غليون من الشام وأبو يعرب المرزوقي وهشام جعيط واحميدة النيفر من تونس وحسام الدين الألوسي وعلي الوردي من العراق ومنير شفيق وعزمي بشارة وادوارد سعيد وهشام شرابي من فلسطين.
غير أن هذا الاهتمام لم يرتق إلي درجة الإقبال والاستقرار وهذا النشر لم يصل إلي درجة التوطين وهذا التأليف لم يصل إلي درجة التنظير والإبداع وهذه الترجمة لم تعانق التأويل والتأصيل. عندئذ ظل السؤال الفلسفي عن الواقع العربي محجوبا تحت أكوام الجواب وبقي مشروع بناء فلسفة للضاد مؤجلا وانتهي تفلسف العرب في عصر ما بعد تشكل دولة الاستقلال مجرد تعريب للفلسفة الغربية.. كما انتهي حضور الفكر الفلسفي في المؤسسات التربوية الثانوية والجامعية إلي نفس النقطة التي بدأ منها، فقد بدأ غريبا محاصرا ومرفوضا ،وهاهو الآن لايزال محل اتهام وتشكيك وتضييق من طرف الجمهور وساسة البلدان ورجال الدين ،ولم تعد الجامعة مجالا لخلق المبدعين والمنظرين والمثقفين العضويين بل مجرد مكان لإعادة إنتاج ماهو سائد ولتخريج العمال والموظفين والمدافعين بشدة علي الراهن .
فما الذي يجري في ساحات العقل والفلسفة في عالم اليوم؟ما التيارت الفلسفية الجديدة وعلاقتها بالعرب والمسلمين؟
ثمة ظواهر فكرية وفلسفية لابد أن يتوقف المراقب للإنتاج العالمي عندها وهي:
الشك الديكارتي
أولا:عودة منهج الشك إلي العقل بعد الزلزال الذي ضرب الماركسية، وظهور النيو-ليبرالية ، وهما نقيضان، الأمر الذي دفع المفكرين إلي التعاطي مع المرحلة الجديدة لاسيما بعد سقوط جدار برلين ،وانتقال الصراع من القطبين الكبيرين إلي بؤر توتر جديدة في العالم ،ومن جديد بدأت تطرح أسئلة ظلت مدفونة تحت كثبان الإيديولوجيات لفترة طويلة مثل: ما خصائص العلاقات بين الدولة والمجتمع؟ولماذا ينتج العنف المجتمعي وعلاقته بالعنف الدولي؟ولماذا يكرهوننا؟وما حدود الدولة بما في ذلك الدولة الديمقراطية؟ كيف تعالج الفوارق الاجتماعية داخل نظام ليبرالي؟ هل تتناقض الليبرالية مع حرية الأقليات والمجموعات؟ وعن التجديد الذي عرفته الفلسفة السياسية في الفترة الأخيرة، يقول فيليب راينو أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس: "لم تعد الفلسفة السياسية اختصاصا مهمشا داخل الجامعة. والآن يمكن القول إنها تلعب دورا أساسيا في الحياة الثقافية في أوروبا وفي أمريكا بالخصوص"..". في الستينات كانت الفلسفة تبرز إراديا كما لو أنها مباشرة سياسية، وكما كان يقول التوسير هي كانت "تدخلا سياسيا في النظرية وتدخلا نظريا في السياسة".
ثانيا:إن النزعة السجالية للفلسفة فقدت فتنتها في حين اكتسبت الأعمال التي تنجز في مجال النقد الداخلي للتجربة الديمقراطية الحديثة، أهمية كبيرة. وإذا ما نحن أردنا توضيحا أفضل لهذا الأمر، فإنه بإمكاننا أن نقول إن فلاسفة مرحلة الستينات كانوا يرغبون في القطع مع الميتافيزيقيا لكي يتمكنوا من "قلب" النظام الاجتماعي. أما فلاسفة اليوم فهم بالأحري يجهدون أنفسهم ل"تأسيس" قيم مشتركة بين الديمقراطيات حتي لو أدي بهم ذلك إلي نقد نواقصها. .وهم لا يتراجعون أبدا أمام تحليل المشاكل المطروحة علي مستوي الجدل السياسي العادي والعلاقات بين الحريات والحقوق الاجتماعية، ظروف دولة القانون، حماية الهويات الجماعية الخ.." ".."، وميزة هذا المفهوم الجديد للفلسفة السياسية أنه أتاح للفلاسفة التدخل في الجدل العام حول موضوع ليس فقط سياسيا أو نضاليا".
وعن المواضيع التي تشغل المهتمين بالفلسفة السياسية في أواخر القرن العشرين، يقول بيار هاسنير وهو باحث فرنسي كتب الكثير عن مشاكل العنف والتطهير العرقي: "اليوم، علينا أن نميز بين الدول الشمولية، والحركات الشمولية، والانفعالات الشمولية. بالتأكيد، نحن نشهد انحسارا بالنسبة إلي الدول الشمولية في نهايات القرن الحالي ذلك أنه لم يتبق منها إلا القليل "كوريا الشمالية علي سبيل المثال لا الحصر". غير أن الحركات الشمولية، أي تلك التي تتوحد فيها مطامح علمية مع مطامح دينية، مثلما هو الحال بالنسبة إلي طائفة "أوم" اليابانية وبالنسبة إلي التطرف الأصولي في العالم الإسلامي فإنه يمكن القول إنها ما زالت تحتفظ بفعاليتها. أما الانفعالات الشمولية مثل الرغبة في إخضاع شعب أو بلد للمراقبة المطلقة، فهي لا تزال قائمة، إن النزعة الشمولية لا تزال تمثل بالنسبة إلي الفلاسفة أكبر خطر يواجه الديمقراطية الليبرالية"
الحكمة والرقي
ثالثا:برزت فكرة التحضر الشامل لكل البشر وليس فئة منه لان بقاء فئة خارج إطار التحضر والديمقراطية يؤدي في نهاية الأمر إلي إيقاع الاذي بباقي الأمم،وهنا تقوم الفلسفة بدورها النقدي ،ويري لوك فوري أستاذ الفلسفة في جامعة باريس أن السؤال المطروح بحدة في نهايات القرن العشرين، ومطلع القرن الواحد والعشرين هو: هل بامكاننا أن نظل مؤمنين بفكرة الرقي؟
ويجيب: الشيء الوحيد الذي جاءت به الفلسفة هو الفكرة البسيطة التالية : العقل يحكم العالم وبناء عليه فإنّ التاريخ البشري ّ(أو الكوني) هو عقلاني تماما..هكذا قال (هيجل) فالعقل (أي عقل التنوير) الذي خلق الحريات هو الذي خلق السلاسل والأغلال أيضا!(ميشيل فوكو)...لماذا هذا التناقض بين العقل والوحشية؟
يري فوري أن شرعية طرح السؤال المذكور تنبع من الكوارث التي شهدها القرن العشرين والتي هشمت واحدة بعد الأخري كل نظريات التفاؤل بالتقدم والرقي التي قامت عليها فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر من هنا هو يعتقد أن المهمة الأساسية للفلسفة السياسية راهنا هي البحث في أسباب سقوط الأوهام والأحلام المتعلقة بالرقي والتقدم.
هذا البحث يرتبط بالحربين العالميتين والحرب الباردة فضلا عن 650صراعا دارت في القرن العشرين ،وهو ماذهب إليه سيجموند فرويد حين راح ينشر مؤلفاته التشاؤمية عن مستقبل الحضارة الغربية، بل وراح يتحدث عن "غريزة الموت" التي تسكن في أعماق الإنسان فرداً كان أم جماعات وتدفعه لأن يشتهي الانتحار أو التدمير الذاتي اشتهاء كما ذكرنا. ثم نشر كتابيه الأساسيين في أواخر عمره: مستقبل وهم ما سنة 1927، ثم توعك في الحضارة أو مرض الحضارة سنة 1930.
صراع الحضارات وحوار الأديان
إن البحث في أسباب مرض الحضارة "وصراع الحضارات وحوار الأديان" هو غاية الفلسفة في القرن 21 يقول الفيلسوف الفرنسي أندري كومت سبونفيل" علينا أن نفكر علي نحو أفضل حتي نحيا علي نحو أفضل. وهذا هو ما يسميه أبيقور بالتفلسف من أجل الخير أي من أجل خلاصنا علي حد تعبير سبينوزا، وهذه هي الفلسفة الوحيدة ذات الجدوي، فنحن لا نتفلسف لتمضية الوقت ولا من أجل اللعب بالمفاهيم: إننا نتفلسف إنقاذا لذواتنا وأرواحنا.
وبالرغم من سقوط الأنظمة الشمولية فيما كان يسمي بالاتحاد السوفيتي، وأيضا في أوروبا الشرقية، فإن بيار روزانفالون وهو مؤرخ وعالم اجتماع فرنسي يعتقد مثلما هو الحال بالنسبة إلي بيارها سينران أن البحث في ميكانيزمات الدولة الشمولية يظل الموضوع الأساسي بالنسبة إلي الفلسفة السياسية، ويضيف بيار روز انفالون قائلا: "منذ عشرين سنة تقريبا، بدأت الفلسفة السياسية تخرج من المطهر. والآن لها منتخباتها المتعددة والمتنوعة ومجلاتها وقواميسها. لكن مع ذلك، أعتقد أنها بالغت في التصاقها بالجامعات، وبالمجال المهني، مقتصرة علي تاريخ الأفكار الفلسفية وعلي التعليق علي أطروحات الفلاسفة الكبار، وإذا ما كان ضروريا عقب هيمنة الثقافة الماركسية، إعادة ربط الصلة بالفلاسفة الكلاسيكيين، فإنه يتحتم الآن اكتساب الإلهام الذي تميز به المؤسسون مثل هانا آراندت ولوفور اللذين حاولا التفكير حول المسائل الموضوعية للدولة، وعلي الفلسفة السياسية الأكاديمية ألا تقبر وتلغي الفلسفة السياسية الحية".
وتقول ايفلين بيزييه وهي أستاذة قانون عام وعلوم سياسية في جامعة باريس «لست متأكدة تماما من أنه بامكاننا أن نتحدث عن "تجدّد" في مجال الفلسفة السياسية. لكن أنا لا أعارض ذلك... هناك ثبات للموضوعات الأكثر كلاسيكية وهذا في حد ذاته إثراء للمعارف. وهكذا، فإن الأمر لا يقتصر فقط علي نقد الأنظمة الشمولية، والذي لم يفقد فاعليته منذ سقوط جدار برلين وحتي هذه الساعة، وإنما هو يولد كل يوم مجالات جديدة للبحث ".." وأنا أعتقد أن التفكير في الشمولية، يسمح لنا بأن نجدد النقاش حول الديمقراطية ذلك أن الديمقراطية لم تصبح الأفق الذي لا يمكن تجاوزه ولكنها تظل حسب تعبير كلود لوفور، في حالة استكشاف دائم".
العودة إلي الجامعة والمدرسة
ولعل أهم مايميز الفلسفة الجديدة هو العودة إلي مقاعد الطلاب في المدارس والجامعات ،بغرض تأسيس وعي نقدي رافض للمسلمات والبديهيات،
وكان شعار الفيلسوف البلجيكي "التربية من أجل الحياة"، لذلك اهتمّ بالطلاب واعتبر المدرسة، والعائلة، والمصنع، والثكنة، والسجن وأحيانا المستشفي؛ هي الممرّ الحتمي الذي يسلكه المجتمع السلعي ليغرس قيمه الاستهلاكية للسيطرة علي مصائر الأفراد من أجل تأبيد مصالحه، يطرح "بحث في فنّ العيش" لراؤول فانجييم أهمّ مبادئ حركة رفض مجتمع الاستهلاك رفضا جذريا، ذاك المجتمع الذي يرعي كلّ أشكال القهر الاجتماعي، سالكا طريق التأكيد والاستنساخ..في متن الكتاب دعوة إلي النضال من أجل تحرير الإنسان ودفاع مستميت عن البيئة.
وقد اعتبر كثير من النقاد أنّ كتاب جي ديبور الذائع الصيت "مجتمع الفرجة"، وكتاب "البؤس في أوساط الطلاب" لمصطفي خياطي، و"بحث في فنّ العيش إلي الأجيال الجديدة، لراؤول فانيجيم الموجّه للشباب العالمي الصادر سنة 1967، هي الكتب الثلاثة التي كان لها الأثر الأكبر في تبلور أفكار الحرية الشاملة، بل ذهب البعض إلي القول بأنها هي التي أشعلت فتيل الثورة الطلابية التي اندلعت سنة 1968، والتي شارك فيها فانيجييم بكلّ حماس مع حركة"مبدعي الأوضاع"التي كان من أبرز وجوهها حتي انفصاله عنها سنة1970 .
ورغم أن راؤول فانيجييم فيلسوف ومؤرخ أديان متخصص في القرون الوسطي، لكنه كان شديد الالتصاق بقضايا عصره وهمومه، إذ توجّه سنة 1995 إلي الشباب مرّة أخري في كتاب تحت عنوان "إعلام إلي تلاميذ المدارس والمعاهد"، حاول أن يدقّ فيه ناقوس الخطر لما ينتظر التعليم بعد نشر اللجنة الأوروبية لتلك المذكرة "المفزعة" حول التعليم الجامعي التي طلبت من الجامعات التصرّف كمؤسّسات محكومة بقانون السوق التنافسي، وهو ما عارضه فانيجييم ونبّه لما يترتّب عنه من شرور،وفي 2003 أصدر "لا شيء مقدّس، كلّ شيء قابل للمناقشة، تأمّلات حول حرية التعبير"، مؤكّدا عدم وجود أي استعمال قبيح أو مضرّ لحرية التعبير، وإنما استعمال غير كاف فقط. لا يري حدودا لحرية التعبير؛ فهي في نظره خاصية أساسية للنوع البشري،ويستمرّ في "كتاب الرغبات" الصادر سنة1979في دعوة الناس إلي المتعة الشاملة، المجانية ليتجاوزوا إلي غير رجعة الحضارة السلعية الآفلة في نظره،ومن بين أكثر من عشرين كتابا نشرها راؤول فانيجييم، يبقي "كتاب الرغبات" أهمّ أعماله ، ليس بسبب كتابته الأنيقة فحسب، بل لما يطرحه من أفكار تمجّد الجمال، وتناضل من أجل عالم خالٍ من العنف ومن ديكتاتورية التبادل السلعي. وقد ذهب إيف ميشو أستاذ الفلسفة بجامعة "روان" الفرنسية في نفس الطريق ، وله ثلاثة كتب منشورة عن العنف في حضارتنا المعاصرة، وهو من المنادين بعدم التعميم
في مناقشة ظاهرة العنف ، بل تناول مسألة العنف في بيئته ، بحيث أنّ تناولنا للعنف في المدرسة أو النادي هو بالضرورة غير تناولنا للإرهاب العالمي، مع الإلحاح علي تناول المسألة من زوايا مختلفة.. وهو يؤكّد أنّ العنف يتمظهر في كلّ مكان، بقدر ما هو غير موجود في أي مكان، وعلي سبيل المثال وجدت في فرنسا سنة2000 نزعة إلي التركيز علي العنف الداخلي وانعدام الأمن، إلاّ أنّ العنف الدولي الأشدّ تقليدية أو عولمة العنف "نموذج 11سبتمبر"
كان أكثر خطورة.
رابعا:تهتم الفلسفة الحديثة بالربط بين السياسي والديني ، وهي تقع في صميم أعمال ريجيس ديبراي منذ صدور كتابه القيم "نقد العقل السياسي" (جاليمار 1981). لقد قاده تفكيره حول السياسي إلي الاهتمام عن كثب بالحدث الديني، عِلما أنّ أطروحته المركزية تبين أنّ كلّ مجتمع يتأسّس حول مبدأ غير مرئي، يوحِّد بين أفراده، أمّا كتابه الأخير "اللحظة الأخوّية" (فهو في نفس الوقت حصاد جيد لأعماله السابقة حول قداسة السياسي و تفكير مُلهم حول علاقة " الدين المدني بحقوق الإنسان" ومفهوم الأخوّة، الضارب جذوره في الحداثة كما في القدم علي السواء.
وهو يطرح سؤالا مهما: ما الشيء الذي يستطيع أن يحوّل جمعا من "الأنانيات" إلي "نحن" فريدة ؟ كيف يمكن لنا أن نكوّن جمْعا وما الذي يسمح لشخصية معنوية أن لا تندثر مع الأشخاص الذين تتجسّد فيهم ويكونون جزءا منها؟ ذاك هو السؤال الذي ظل يطرحه، منذ ثلاثين سنة. لا تأتي اللُّحمة بسهولة، لأنّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان كما يقال. ومع هذا، فنحن نعاين وجود مجامع وأمم وقبائل ونوادي وفرق ومحافل وكنائس. فما الذي يجعل من قِطع متفرّقة، بُنية ً هندسية مستقرة ودائمة؟ يبدو لي أنه السموّ أو التعالي، المتموقع خارج المعطي الحيني. فلكي يوجد انتماءٌ، لا بدّ أن تكون هناك نقطة امّحاء، ثقْبٌ بنّاء، فراغ قممي، قد يكون أحد الأجداد أو الآباء، نصّ، حدث، أسطورة، أمل. نقطة الهروب هذه، المؤمِّنة للتماسك والدوام، هي ما يعبّر عنه بالمقدّس. إنّي أري فيها حاجة لا تتغير لأشكال تعبير غاية في التنوّع، لأنّ كلّ مجموعة إنسانية تنتج قدسياتها الخاصة: فليس نفس الشيء أن نتجمَّع تحت أقدام نصب أثينا، أو نصب المسيح أو تمثال لنكولن أو لينين.
إنّ رسالة المسيح ، وهو قائل للسامرية « ليس علي هذا الجبل، ولا في بيت المقدس، يجب عبادة الإله، بل في الفكر وفي الحقيقة» (يوحنا،4)
الفيلسوف والنيوليبرالية
خامسا :هناك ميل لدي فلاسفة هذا العصر إلي نقد النظام الاقتصادي السائد لجهة توحش الليبرالية، وعودة الاتجاهات الأصولية المحافظة،وظهر في هذا الاتجاه ثلاثة فلاسفة أولهم تشارلز تايلور والثاني كان أمارتيا سان، الحائز علي جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1998 والثالث باسكال لامي، المدير العام لمنظمة التجارة العالمية والعضو في الحزب الاشتراكي الفرنسي، ورغم التنوع في المنابع الفكرية للفلاسفة الثلاثة إلا أنهم اتفقوا علي "أنسنة الرأسمالية" علي حد قول أمارتيا سان وهو ينتمي إلي مجموعة الاقتصاديين القلائل المدافعين علي دور الدولة ضدّ موجة الليبرالية، وذلك قبل أن تكشف الأزمة الاقتصادية لحكومات أكبر القوي العالمية محاسن التعديل الاقتصادي، بمدّة طويلة، لقد كان يري أنّ المجاعات سببها غياب الديمقراطية أكثر منه افتقاد التغذية. .ونحن مدينون له باختراع مؤشر التنمية البشرية (سنة 1990) الذي يدمج، زيادة علي مستوي الدخل لكلّ فرد، مسائل الصحّة والتعليم بما يحقق الرفاهية.
أما تايلور فقد بلور أفكاره في كتاب بعنوان "مصادر الذات: صناعة الهوية العصرية". وأعقبه كتاب "العصر العلماني"، صدر سنة 2007
يحتوي الكتاب علي تصريح مسجّل يلخص نقدك للجوانب الضحلة في ثقافتنا: "لا شيء يمكن أن يعتبر إنجازا في عالم لا تمثّل فيه الفلسفة شيئا ذا بال عدا أنها إرضاء للذات".
وهذا الوصف لايماثل فحسب ردّ الأساقفة علي داروين خلال القرن التاسع عشروانما نبوءة لما سوف يحدث، ورد اعتبار للفلسفة، فقد كان عند الأساقفة شعوراً بأنّ العالم كان يسير في اتجاه معين إثر حدوث الكثير من التحوّلات... وفجأة اكتشفوا أنّ توقّعاتهم كانت خاطئة، فاهتزّوا بصفة عنيفة وغضبوا غاية الغضب. وبالمثل،يقول باسكال لامي" ها نحن نري اليوم نفس الأمر يحدث بين المثقفين العلمانيين الليبيرالين الذين شعروا أن العالم يسير في اتجاه معين، وأنّ كل شيء يسير حسب الخطة، وحين اتّضح لهم أنّهم علي خطأ هاهم يهتزون ويغضبون،ويضعون ملصقات الحادية علي الحافلات، إنّها لظواهر مثيشرة للشّفقة وكأنّ وضع ملصقات علي الحافلات سوف يجعل الناس يغيرون بطريقة ما وجهات نظرهم حول الله والكون ومعني الحياة.. إلخ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.