شعبان يوسف عندما تفتح وعى صنع الله إبراهيم فى مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، لم يكن وحده كما يقول فى شهادة بمجلة مواقف 1992، بل إنه استيقظ فى يوليو عام 1952، هو ابن الطيقة المتوسطة، على خبر يفيد بأن ضبّاطّا من القوات المسلحة، استولوا على السلطة، وعرضوا برامجهم على هيئة قرارات وعمليات تنفيذية، كان هناك كثير من مثقفى وكتّاب ومبدعى تلك الفترة يراقبون الأحداث عن قرب، بل كانوا مشاركين فيها، وكان المنهج الواقعى على المستوى الأدبى والثقافى يحقق انتصارات ذات شأن، فها هو محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس يواجهون أهم سلطة ثقافية آنذاك، وهو الدكتور طه حسين، ويناقشون أفكاره، ويتصدون لها، ويطرحون بدائل كذلك للتطبيق الفكرى والنقدى والثقافي ها هو يوسف إدريس يكتب قصصه الأولى بلغة عصرية لا تتعثر فى محسنات بديعية، ومجازات مفرطة كما كانت تكتب الأجيال السابقة عليه، وها هو إحسان عبد القدوس يعرّى زيف الأخلاق السائدة من خلال تناول عصرى وثائر فى العلاقة بين الرجل والمرأة، وخلاف ذلك كانت تلك الظواهر تنمو ويشتد عودها فى ظل نظام تتفاقم هيمنته وهيبته آنذاك، فى ظل ذلك المناخ ولد وتكوَّن وتطور وعى الكاتب الشاب صنع الله الأورفيلي، كما كان يكتب فى بداياته، وبعد سلسلة مغامرات كتابية قليلة، انتمى لليسار، لأنه هو الأقرب بالنسبة له ولأفكاره فى القضايا الاجتماعية والفكرية. وسيكون من العبث أن نحاول وضع تعريف شامل بالكاتب الروائى والمبدع الكبير صنع الله إبراهيم، حيث أن سيرته الأدبية والثقافية والإبداعية متاحة بشكل واسع على السوشيال ميديا، وبين المثقفين، وكذلك فقد نالت رواياته وقصصه الأولى وكتاباته عموما ومواقفه اهتمام الجميع تقريبا، من القراء والباحثين والمؤسسات، وكانت ذروة مواقفه كما هو معروف رفضه لجائزة ملتقى الرواية عام 2003، وإلقاؤه البيان الأشهر فى تاريخ الثقافة المصرية والعربية لرفض سياسات الدولة المباركية، وكافة الإجراءات القمعية والاقتصادية للسلطة آنذاك، وكذلك التخريب المتعمد من مؤسسات السلطة للاقتصاد الوطنى منذ الخطوات التى اتخذها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات وعُرفت باسم سياسة الانفتاح الاقتصادى، أو كما أطلق عليها الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين "سياسة السداح مداح". وقبل أن نتعرض إلى ما حدث فى حاضر صنع الله، لا بد أن نشير إلى مرحلة من الماضي، تلك الفترة التى أعقبت خروجه من المعتقل عام 1964، وبالتأكيد تركت أثرًا كبيرًا وعميقًا لديه فيما بعد، وكانت هناك خطة أو مصالحة بين اليسار والدولة، فعندما خرج الشيوعيون من المعتقل، عملت الدولة على تشغيل الموهوبين منهم فى الصحافة والكتابة، ولم يكن ذلك من باب العطف أو التعاطف، وإن بدا كذلك فى البداية، ولكن تنفيذا لشراكة تم الاتفاق عليها، فألحقت عددًا منهم فى جرائد ومجلات ومؤسسات ثقافية، وكلفت آخرين بمهمات أخرى، فأرسلت الدكتور شريف حتاتة إلى الجزائر، ليكتب عن ثورتها، وعن دور مصر فيما حدث للجزائر، وفى ذلك السياق أرسلت صنع الله إبراهيم ورفيقيه كمال القلش، ورؤوف مسعد إلى أسوان، حيث الهرم الرابع العصرى "السد العالي"، وكان الكتاب الثلاثة متعطشين لتلك الرحلة التى تمت فى صيف 1969 لينتج عنها "إنسان السد العالي" الذى صدر فى 10 يناير 1967، وأنتجت تلك الرحلة أيضا فيما بعد رواية "نجمة أغسطس" لصنع الله، وأهداها إلى ذكرى شهدى عطية الشافعي، وصدر الكتاب بعد مصادرة روايته القصيرة "تلك الرائحة" التى قدمها الدكتور يوسف إدريس مادحًا ومقرظًا لها، وأحدثت دويًا لصدورها من ناحية، ولمصادرتها أيضًا من ناحية أخرى. نعود إلى حاضر صنع الله، عام 2003 عندما رفض جائزة ملتقى الرواية، معلنا أنه يرفض الحصول على جائزة تمنحها سلطة لا تعمل فى صالح الشعب الفقير والكادح، بل إن هذه السلطة تكرّس كافة السياسات التى تدفع البلاد إلى هوة الفقر والجهل والمجاعة، وتصل السلطة فى مجال السياسات الوطنية إلى حدود شبه قصوى مع العدو الإسرائيلى، هكذا نصت بعض فقرات بيان صنع الله، وكان ذلك الرفض بمثابة صدمة قوية للجنة المانحة لتلك الجائزة، والتى ضمت فى إهابها نقادًا كبارًا مصريين وعربًا، منهم محمود أمين العالم، د فريال غزول، وفيصل دراج، ود محمد شاهين، ود عبدالله الغذامى، ود. محمد برادة، وغيرهم، وترأس اللجنة الناقد الدكتور جابر عصفور الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة. وجدير بالذكر أن ذلك الحدث لم يمرّ فى الحياة الثقافية المصرية والعربية بهدوء، فقد أظهر انقسامًا كبيرًا بين المثقفين والكتّاب العرب عموما، فهناك من صفقوا لصنع الله تصفيقاً حاداً فى قاعة المسرح بعد أن ألقى بيانه وانسحب خارجًا على الفور، وفق خطة ذكية حبكها هو لنفسه، وكان وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى قد عقّب تعقيبًا دبلوماسياً وسط حالة من الذهول والدهشة والارتباك التى سادت الحضور جميعًا، بداية من لجنة التحكيم والكتّاب والمثقفين والمسئولين جميعا، ولكن فى اليوم التالى مباشرة للحدث، ظهرت ميول للرفض من بعض الذين صفقوا لصنع الله، وكان من الواضح أن التراجع جرى بعد الإفاقة من هول الحدث، وفى مواجهة ذلك التصفيق الذى غطى على كل شىء آنذاك، ارتفعت أصوات أخرى لإدانة صنع الله، ولكنها ظلت مجرد أصوات باهتة أمام تيار تأييده ومناصرته. ولا أريد أن أتوقف عند ذلك الحدث طويلا، ولكننى أردت أن أشير إلى أنه كان ذروة قصوى لرفض واحتجاج صنع الله إبراهيم ذاته، وفى الحياة العربية الثقافية كلها، وعمل هذا الحدث على شدّ أزر الأفراد من الكتّاب والمثقفين والمواطنين المصريين عمومًا فى كافة أشكال مقاومة السلطة السياسية، رغم أن المثقفين كانوا يهرولون، ومازالوا، نحو المكاسب التى تأتى من أعلى، ومن السلطة الثقافية، وهناك من يعتبر تلك المكاسب نوعا من حقوقهم على الدولة، وذلك بالطبع استحقاق مشروع وطبيعي، لكن ذلك الاستحقاق يجد بعض المزايدات فى أوقات ملتهبة. كانت البدايات الأولى لصنع الله الكاتب والمتمرد والمترجم والمثقف الكبير، فى عقد الخمسينيات، عندما عمل فى مكتب ترجمة يديره المناضل شهدى عطية الشافعى، وكان صنع الله يكتب بعض قصصه التجريبية الأولى، ويكتب فى جريدة "المساء" بعد تأسيسها فى 6 أكتوبر عام 1956، وكانت تضم حشدًا كبيرًا من اليسار، وكان صنع الله إبراهيم ينشر فيها بعض مقالات بتوقيع "الأورفيلى"، بينما يوقع شهدى عطية باسم "أحمد نصر"، ثم قبض على صنع الله فى عام 1959 ليقضى خمس سنوات فى معتقل الواحات، وكان ما زال طالبا فى كلية الحقوق، وتشاء ظروفه أن يشهد واقعة اغتيال شهدى عطية الشافعى تحت هراوات التعذيب البشعة، وكانت هذه إحدى التجارب القاسية التى عاشها وظلت فاعلة وماثلة فى كتاباته بأشكال عديدة، ولذلك أهدى روايته الثانية "نجمة أغسطس" إلى رفيقه شهدى عطية الشافعى،كما نوهنا سلفًا، وتناول الكثير من أحداث الاعتقال فى تلك الرواية، ثم كتب كتابًا كاملًا عن تجربة المعتقل تحت عنوان "يوميات الواحات"، وجاء ذلك الكتاب مختلفًا عما كتبه رفاقه عن تجربة الاعتقال فى عام 1959، وذلك لدقة واستطراد صنع الله فى الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة السردية التى تعطى زخمًا للتجربة. ربما يكون الوجه الروائى هو أظهر وأوضح الوجوه لصنع الله ابراهيم، ومن المعروف أن كاتبنا الكبير مقلّ فى الحديث عن نفسه وعن تجاربه، فهو أحد العاملين بشكل كبير فى الإبداع الروائى، وتكاد أن تكون كل نصوصه مجالًا للأخذ والرد على المستوى النقدى، وعلى المستوى الثقافى العام، فمنذ صدور روايته الأولى "تلك الرائحة" عام 1966، وقدمها يوسف إدريس، ثم مصادرتها بعد ذلك، لتأخذ رحلة طويلة حتى تصدر كاملة بعد ذلك، ونجد أن أحد كتّابنا الكبار والمنصفين والعادلين، وهو يحيى حقى الذى كان منتصرًا بشكل جارف للكتابة الجديدة، لا ينتصر لرواية صنع الله، رغم إقراره بموهبة صنع الله الكبيرة، ولكنه يرى أن صنع الله أفسد روايته "تلك الرائحة"، باستخدامه الأبعاد الفسيولوجية فى روايته، ويرى حقى أن صنع الله كان من الممكن أن يتفادى ذلك المنحى، ويعمل على تنظيف روايته من هذا! وإذا كان صنع الله كان قد أحدث ذلك الدوىّ بروايته، وكما انقسم المثقفون إزاء ما حدث فى 2003، فكان هناك ذلك الانقسام الذى حدث إزاء روايته، فيوسف إدريس ينتصر بقوة للرواية ولكاتبها، ويحيى حقى يهاجم الرواية ويدينها بقوة، وكتب فى جريدة "المساء" يقول: "لا زلت أتحسر على هذه الرواية القصيرة التى ذاع صيتها أخيرًا فى الأوساط الأدبية، وكانت جديرة بأن تعد من خيرة إنتاجنا لولا أن مؤلفها زل بحماقة وانحطاط فى الذوق، فلم يكتف بأن يقدم إلينا البطل وهو منشغل بجلد عميرة -لو اقتصر الأمر على هذا لهان- لكنه مضى فوصف لنا أيضًا عودته لمكانه بعد يوم ورؤيته لأثر المنى الملقى على الأرض، تقززت نفسى من هذا الوصف الفسيولوجى تقززًا شديدا لم يُبق لى ذرة من القدرة على تذوق القصة رغم براءتها، إننى لا أهاجم أخلاقياتها، بل غلظة إحساسها وفجاجته وعاميته، هذا هو القبح الذى ينبغى محاشاته، وتجنيب القارئ تجرع قبحه". كان ذلك الرأى الذى ذهب إليه أحد شيوخ الكتابة وكبارها، فى مواجهة واحد آخر من كبار الأدب وهو يوسف إدريس، والذى كان متحمسًا لصنع الله وروايته، ويقول فى مقدمته للرواية: "إنى لشديد الاعتزاز بصنع الله الفنان، وسعيد حقيقة وأنا أحس أنه قد آن الأوان لتقرأه الحركة الفنية والأدبية فى كتاب كامل فى قصة من أجمل ما قرأت باللغة العربية خلال السنوات القليلة الماضية". إذن ولد صنع الله ابراهيم ككاتب روائى وهو محاط بالجدل الكثيف، ذلك الجدل الذى لخصناه فى رأى قامتين من طراز يحيى حقى ويوسف إدريس، ولا بد أن أشير هنا بأن يوسف ادريس أبدى بضع ملاحظات على الرواية قبل نشرها، إذ أن صنع الله كان قد ألحق بها بعض الهوامش، ولكن يوسف إدريس اقترح عليه دمجها فى متن الرواية، كما أن صنع الله كان قد وضع عنوانًا مختلفًا عن العنوان الذى ظهرت به الرواية، وهو "الرائحة النتنة فى أنفى"، ولكن يوسف إدريس لم يعجبه ذلك العنوان، وبعد مناقشة طويلة بين صنع الله وإدريس فى عيادة الأخير فى ميدان الجيزة، توصلا إلى عنوانها الذى اشتهرت به وهو "تلك الرائحة". وبعد عدة عقود يكتب صنع الله مقدمة للطبعة الثالثة للرواية، ويقول فيها تأكيدًا على المنحى الذى اتخذه فى كتابة الرواية، ومنتصرًا لتلك الحدة التى كتب بها: "ألا يتطلب الأمر قليلًا من القبح للتعبير عن القبح المتمثل فى سلوك فسيولوجى من قبيل ضرب شخص أعزل حتى الموت ووضع منفاخ فى شرجه، وسلك كهربائى فى فتحته التناسلية؟ وكل ذلك لأنه عبر عن رأى مخالف أو دافع عن حريته أو هويته الوطنية؟ ولماذا يتعين علينا عندما نكتب ألا نتحدث إلا عن جمال الزهور وروعة عبقها، بينما الخراء يملأ الشوارع ومياه الصرف الملوثة نغطى الأرض، والجميع يشمون الرائحة النتنة ويشتكون منها؟". هنا صنع الله كان يواجه مجتمعًا زائفًا فى سلوكه وثقافته وتقاليده، ويواجه أخلاقيات الكتمان الرديئة، وذلك فى ظل أداءات مرعبة للأفراد والمؤسسات، فكان حتمًا عليه أن يكتب بصدق ووضوح فادح، وهو الفنان الذى عاش حياة قاسية فى المعتقلات، وتعرض لأشكال عديدة من البطش والتنكيل والسادية، للدرجة التى كان عاجزًا عن الإدلاء بشهادته عن اغتيال رفيقه شهدى عطية أمام المحقق عام 1960 إثر اغتيال شهدى مباشرة، خوفًا من أن يبطشوا به، حيث لا ضمانات فى ذلك الوقت لأى عدالة للمعتقلين، فرفض الشهادة قبل أن تضمن له إدارة المعتقل الحماية الواجبة لحياته. بعد صدور تلك الرواية ومصادرتها، ذهب صنع الله إبراهيم مع رفيقيه كمال القلش ورؤوف مسعد إلى السد العالى لإنجاز تحقيق صحفى عن المشروع العظيم كما أسلفنا القول، وقد صدر الكتاب بالفعل عام 1967 تحت عنوان "إنسان السد العالى"، سرد فيه الوقائع الثلاثة لتلك الزيارة الشاقة والمجهدة والممتعة فى آن واحد، وجاء الكتاب منتصرًا للمشروع بشكل كبير وإيجابى، وجاءت قصيدة الشاعر عبد الرحمن الأبنودى عن السد العالى كمقدمة أولى للكتاب، وتقول القصيدة : (الله الله ..هيلا هيلا يا واقف تحت الشمس عشان الحفنة تصير كيلة الله الله.. هيلا هوبه يا طابع إيدك فوق بوابة الشمس الخضرا أمانى ومحبة. اعملى من الحبة قبة واعملى من جيل الراحة مليون عيلة الله الله ... يحليلة) ولم تكن تلك القصيدة سوى عنوان مبهج لذلك المشروع الضخم والعملاق، والذى كان أحد الإنجازات التى أشاد بها الكتاب والشعراء والفنانون آنذاك، وشارك صنع الله بكتابه فى تلك الإشادة، وهو كان أحد المؤيدين لجمال عبد الناصر، والمنحازين له بقوة كأحد القيادات الوطنية الكبيرة فى تاريخ مصر، وكان يهتف بالتأييد والإشادة لعبد الناصر أثناء عمليات التعذيب التى كان يتعرض لها هو وزملاؤه فى الحبس، وعلى رأسهم شهدى عطية الشافعى. تلك السنوات الأولى فى مسيرة صنع الله إبراهيم، والتى دفعته بقوة نحو التعبير عن تجاربه وملاحقة الواقع روائيًا وفنيًا، فلم ينحرف قيد أنملة عن التفسير الفنى للواقع والمجتمع، فجاءت روايته الثالثة "اللجنة" متصدية لما يحدث فى مصر على المستوى الوطنى، وتتالت رواياته الأخرى مثل "بيروت بيروت"، "ذات"، "شرف"، "وردة"، "أمريكانلى"، وغيرها من روايات تصدت لقبح وضراوة ووحشية الواقع، وبالتالى فضحت وكشفت عوراته. وقد شاعت فى روايات صنع الله طريقة الاستعانة بمقولات وأخبار، كانت تعمل على توثيق فريد من نوعه، وبدأت تلك التقنية بشكل ضيق فى رواية "نجمة أغسطس"، ولكنها توسعت فى رواياته الأخرى مثل «ذات»، و«بيروت بيروت». يستحق صنع الله صفحات طوالا للاحتفاء بما قدمه من كتابة وإبداع، وأتمنى أن ننقب فى مشروعه الأدبي، وتكون هناك خطة لإبقائه حاضراً بيننا، كيف لا وهو حى إلى الأبد.