الأمر الفظيع، ترامب يعلق على نشر صورة بيل كلينتون بعد ظهورها في ملفات إبستين    المخرجة إنعام محمد علي تكشف كواليس زواج أم كلثوم والجدل حول تدخينها    أليك بالدوين في عين العاصفة مجددًا... قضية Rust تعود وتثير قلقًا واسعًا على حالته النفسية    كسر الرقم التاريخي السابق، سعر الذهب يصل إلى مستوى قياسي جديد    عمر مرموش يؤكد: فوز منتخب الفراعنة على زيمبابوي أهم من أي إنجاز فردي    أحمد التهامي يحتفل بفوز منتخب الفراعنة ويُوجه رسالة ل محمد صلاح    ارتفاع صاروخي لأسعار النفط مع تصاعد التوترات الجيوسياسية    الرئيس الفنزويلي: الطاقة يجب ألا تتحول إلى سلاح حرب    محدود دون إصابات.. التحقيقات تكشف تفاصيل حريق قاعة أفراح بأبو النمرس    "بسبب غاز السخان" النيابة تحقق في وفاة عروسين    اليوم، بدء إعادة جثامين 14 مصريا ضحايا غرق مركب هجرة غير شرعية باليونان    حبس وغرامة ضخمة لهؤلاء.. سر المادة 70 من تعديلات قانون الكهرباء    أمم أفريقيا 2025| بهذه الطريقة احتفل محمد صلاح ومرموش بالفوز على زيمبابوي    إلهام شاهين تتصدر جوجل وتخطف قلوب جمهورها برسائل إنسانية وصور عفوية    زينة منصور تدخل سباق رمضان بدور مفصلي في «بيبو»... أمومة على حافة التشويق    أجواء شديدة البرودة والصغرى 12 درجة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم    بعد ارتدائها البدلة الحمراء.. محامي ضحية ابنتها ببورسعيد يكشف موعد تنفيذ حكم الإعدام في المتهمة (خاص)    استشاري تغذية علاجية بالفيوم ل"أهل مصر": دودة الطماطم خطر صحي وآفة زراعية.. ولا علاقة لها بالقيمة الغذائية    بيسكوف: لا أعرف ما الذي قصده فانس بكلمة "اختراق" في مفاوضات أوكرانيا    حين تضطر أم لعرض أطفالها للتنازل: ماذا فعلت سياسات السيسي بالمصريين؟    مواطن يستغيث من رفض المستشفي الجامعي طفل حرارته عاليه دون شهادة ميلاده بالمنوفية    مشروع قومى للغة العربية    نقابة أطباء الأسنان: أعداد الخريجين ارتفعت من 45 إلى 115 ألفا في 12 عاما فقط    «المستشفيات التعليمية» تعلن نجاح معهد الرمد والسمع في الحصول على اعتماد «جهار»    رئيس هيئة المستشفيات التعليمية يُكرّم مساعد وزير الصحة للمبادرات الرئاسية    مصرع شخص صدمته سيارة نقل أثناء استقلاله دراجة نارية فى المنوفية    استكمال الاختبار التجريبي لطلاب الصف الأول الثانوي على منصة كيريو في محافظات الجمهورية يوم 23 ديسمبر    المؤبد والمشدد 15 سنة ل 16 متهماً ب «خلية الهيكل الإدارى بالهرم»    أمم إفريقيا - مؤتمر حسام حسن: كنت أحمل هم الجماهير في مصر.. وصلاح يصنع الفارق    أمم أفريقيا 2025| وائل القباني: منتخب الفراعنة قدم أداء جيدًا.. وهناك عيب وحيد    حسام حسن: حدث ما توقعته «صعبنا الأمور على أنفسنا أمام زيمبابوي»    يرتفع تدريجيا..أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 23-12-2025 في بني سويف    استغاثة عاجلة إلى محافظ جنوب سيناء والنائب العام    فرقة سوهاج للفنون الشعبية تختتم فعاليات اليوم الثالث للمهرجان القومي للتحطيب بالأقصر    شعبة الاتصالات: أسعار الهواتف سترتفع مطلع العام المقبل بسبب عجز الرامات    بالصور.. مدير محطة حدائق الأهرام بالخط الرابع للمترو: إنجاز 95% من الأعمال المدنية    بالانتشار الميداني والربط الرقمي.. بورسعيد تنجح في إدارة انتخابات النواب    حماية القلب وتعزيز المناعة.. فوائد تناول السبانخ    فلسطين.. إصابة ثلاثة مواطنين في هجوم للمستعمرين جنوب الخليل    القانون يضع ضوابط تقديم طلب اللجوء إلى مصر.. تفاصيل    ما هي أسباب عدم قبول طلب اللجوء إلى مصر؟.. القانون يجيب    ليفربول يحتفل بأول أهداف محمد صلاح مع منتخب مصر فى كأس أمم أفريقيا    القصة الكاملة لمفاوضات برشلونة مع الأهلي لضم حمزة عبد الكريم    ليفربول يعلن نجاح جراحة ألكسندر إيزاك وتوقعات بغيابه 4 أشهر    وزير الدفاع الإيطالي: روما مستمرة في دعم استقرار لبنان وتعزيز قدرات جيشه    فرحة أبناء قرية محمد صلاح بهدف التعادل لمنتخبنا الوطني.. فيديو    فولر ينصح شتيجن بمغادرة برشلونة حفاظا على فرصه في مونديال 2026    هيئة الدواء: متابعة يومية لتوافر أدوية نزلات البرد والإنفلونزا خلال موسم الشتاء    ستار بوست| أحمد الفيشاوى ينهار.. ومريم سعيد صالح تتعرض لوعكة صحية    «الشيوخ» يدعم الشباب |الموافقة نهائيًا على تعديلات «نقابة المهن الرياضية»    فضل صيام شهر رجب وأثره الروحي في تهيئة النفس لشهر رمضان    رمضان عبدالمعز: دعوة المظلوم لا تُرد    ميرال الطحاوي تفوز بجائزة سرد الذهب فرع السرود الشعبية    "يتمتع بخصوصية مميزة".. أزهري يكشف فضل شهر رجب(فيديو)    برلمانية الشيوخ ب"الجبهة الوطنية" تؤكد أهمية الترابط بين لجان الحزب والأعضاء    جامعة قناة السويس تعتلي قمة الجامعات المصرية في التحول الرقمي لعام 2025    قصة قصيرة ..بدران والهلباوى ..بقلم ..القاص : على صلاح    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 22-12-2025 في محافظة قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مراسلات بدم الشهداء في حرب 1973.. حكاية المقاتل أحمد محمد جعفر.. الدم الطاهر على "الخطابات" يوثق البطولة ويؤكد التضحية .. الرسالة الأخيرة لم تصل إلى الشهيد لكنها وصلت إلى ضمير الوطن

تعد حرب السادس من أكتوبر 1973 واحدة من أبرز حروب القرن العشرين، فعلى الرغم من أن ذلك القرن شهد حربين عالميتين وصراعات لا تحصى، فقد احتلت حرب أكتوبر موقعًا سياسيًا خاصًا شدّ أنظار العالم، ولا تزال حتى اليوم حدثًا ذا دلالة عميقة ومكانة جوهرية في التاريخ الحديث.
تكمن فرادة هذه الحرب في أنها لم تكن معركة حدود فحسب، بل استعادة لإرادة القرار وإعادة صياغة لمعادلات الردع في الإقليم، لقد أعادت للمجتمع المصري والعربي معنى الثقة بالنفس، وكرست درس المفاجأة والتخطيط طويل النفس، وتركت أثرا ممتدا في العقيدة القتالية وفي مسار التسوية السياسية اللاحق، ومن هنا، فإن قراءة حرب أكتوبر ليست استدعاءً للذكرى فقط، بل تفكيكًا لمنهج انتصار صنعته منظومة كاملة من الإعداد والانضباط والتضحية، وما يزال قادرًا على إلهام الأجيال الجديدة بمعاني الكرامة والمسؤولية.
إنها حرب التحرير الأعظم في القرن العشرين، وعلى الرغم من مرور 52 عاما فإنها تستحق القراءة ومزيدًا من القراءة، كي نلقي نظرة متقنة - قدر ما نستطيع - على هذه الفترة المهمة من تاريخ الوطن، والتي كان لها تأثير كبير في تشكيل المجتمع المصري إثر انتهاء هذه الحرب، وعودة العلم المصري مرة أخرى ليرتفع على الجهة الشرقية من قناة السويس.
خطابات-أحمد-جعفر
وقد شاركت في الدورة الماضية من مؤتمر أدباء مصر، الذي انعقد في محافظة المنيا، وكان منشغلا بحرب أكتوبر وما قيل فيها وما كتب عنها، وقدمت بحثا بعنوان " كتابات من واقع حرب 1973.. البحث عن القيم فى خطاب المعركة" تحدثت فيه عن مدونة الحرب، وأردت أن أقترب أكثر من واقع الناس، وأن أتلمس طريق الجنود وبطولاتهم، وذلك لأنني مشعول دائما بفكرة "البطولة" كيف يحمل الإنسان روحه على كفه ويقدمها فداء لمن يحب، وكان مما تحدثت عنه خطابات ورسائل الجندي البطل أحمد محمد جعفر، الذي استشهد في نهاية شهر أكتوبر 1973، وقد اطلعت بنفسي على رسائله وخطاباته التي توجد في حيازة الأسرة، فالشهيد (خال) الزميلة والصديقة العزيزة سارة درويش، الكاتبة ورئيس قسم المرأة والمنوعات في اليوم السابع، والتي تكرمت وسمحت لي بالاطلاع على هذه الرسائل التي تكشف جانبًا مهما من حياة الجنود في الفترة التي سبقت الحرب مباشرة وأثناء الحرب أيضًا، كما أنها حافلة بقيم مهمة مثل الشجاعة والصداقة والوطنية والتفاني.
الرسائل.. قيم مخضبة بالدم
إن رسائل الحرب مهمة أكثر مما نتخيل، وتمثل للجميع قيمة ومعنى إنها الرسائل الشخصية القادمة من أرض المعركة أو الذاهبة إليها، وبداية هي رسائل تحمل أهمية كبرى، فطالما أرسلت فمعناها أن المرسل لا يزال على قيد الحياة، لذا فإن الأهل كانوا يبتهجون بالرسائل منذ يهل ساعي البريد عليهم، لأنه يسري لديهم إحساس بأن ابنهم الموجود فى المعركة الآن لا يزال حيًّا يرسل الخطابات ويرسلونها إليه، إن الرسائل تعنى أن حالة المرسل جيدة، لأنه لا يزال قادرا على إرسال الرسائل، وبالتالي هو ليس فى ورطة كبيرة أو ما شابه، كما يستقي الناس المعلومات من الرسائل، فهم لم يذهبوا إلى ساحة الحرب، ولم يعرفوا ما الذي يجري هناك، وبالتالي فإن خيالهم يتسع مع كل جملة تأتي فى الرسالة حتى لو كانت عامة أو مبتورة ولم تقدم كثيرًا، لكن المتلقي يُعمل خياله ليصل إلى تصور معين.
رسائل الجندي المقاتل أحمد محمد جعفر
أول ما أقوله عن هذه الرسائل أنني أمسكتها بيدي واستنشقت رائحتها العتيقة، رسائل جاوز عمرها خمسين عاما، تخص الشهيد المقاتل أحمد محمد جعفر (الوحدة 683)، وهي أوراق تحمل حرفيا أثر دمه، إذ استُشهد وكانت في حوزته، فصار الورق شاهدًا مادّيًا على حضوره الأخير.
ومن هنا فإن هذه الرسائل ليست مجرد وثائق خاصة، بل مادة ذاكرة تثبت أن التاريخ يلمس ويشم ويرى، فبقع الدم تحيل من "نصّ مكتوب" إلى "شاهد إثبات"، وتحول المخاطبات اليومية إلى سجل وطني تتجاور فيه الإنسانية والواجب، ملمس الورق ورائحته وحوافه البالية عناصر أصيلة في الحكاية، تذكرنا بأن بطولة الجنود لم تكتب في البلاغات وحدها، بل في دفاتر صغيرة سافرت بين الجبهة والبيت.
خط يد الشهيد .. الحياة والموت فى صفحة واحدة
انطلق الحرب وأثبت الجندي المصري قوته وقدرته ومحبته للوطن، قاتل الأبطال على مدى أيام طويلة، صبروا في هذه المعركة الخطيرة حتى النهاية، منهم من ظل قابضا على سلاحه في وجه المحتل حتى كتب لينا الله النصر النهائي ومنهم من اختاره الله فكتب له الشهادة، وقد استشهد أحمد محمد جعفر في الأيام التي تلت حرب أكتوبر 1973، رحل بعدما ذاق طعم النصر وعرف فرحة العبور، وضمن مقتنياته التي عادت إلى أسرته في الجيزة، مجموعة من الرسائل التي كانت مرسلة إليه، لكن من ضمن مقتنياته كانت ورقة كتب على وجهها اسم حبيبته، ورسم على ظهرها صورة دبابة.
أونا
هذه الثنانية بين الحب والدبابة تكشف بصورة أساسية نفسية المقاتل الذي يجمع بين محبة الحياة والاستعداد للموت، فالجمع بين (الحياة والموت) في ورقة واحدة وجه/ظهر، بمثابة أيقونة تختصر المرحلة كلها.والملاحظ أن المقاتل أبدع في كتابة اسم حبيبته "بشرة" التي يسميها "أونا" رسمها كأنها لوحة، أما الدبابة المرسومة باللون الأحمر فهي رسم "كوروكى" تعليمي، كأنه واجب عليه مذاكرته ودراسته.
الدبابة

إن الصفحتين تعبران عن قيمتي الموت والحياة فى مواجهة بعضهما، إنهما يتصارعان في ورقة واحدة، في دلالة كاشفة عن كون أحمد جعفر شخص مسكون بالمحبة، وهكذا الأبطال دائمًا لا يعرفون سوى الحب يدفعونه دائما من أجل من يحبون.
خطابات الأصدقاء.. رسالة الوداع
إن الكم الأكبر من الرسائل التي كانت بحوزة الشهيد المقاتل أحمد محمد جعفر تعود إلى أصدقائه، هم أرسلونها له، وهو احتفظ بها حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
وكانت معظم رسائل الأصدقاء من المقاتل بهاء الدين عبد الله بالوحدة 1059، وسنتوقف عند رسالتين، ومن قراءتنا نفهم أنهما الرسالة الأولى والرسالة الأخيرة.
يقول فى إحدى الرسائل، وهي ليست مؤرخة، لكن نفهم أنها أول رسالة من بهاء الدين إلى أحمد محمد جعفر؛ لأنه يقول فيها "وهكذا كنت صاحب فضل إذ بدأت بالمراسلة كما كنت صاحب فضل دائما فى كل أفعالك وتصرفاتك"، هذه الجملة ترجح لنا أنها كانت ردًا من بهاء الدين على رسالة من أحمد محمد جعفر – وهي رسالة لم نقرأها - أي أنها الرسالة الأولى، وهي تكشف صفات فى شخصية أحمد محمد جعفر؛ إذ إنه صاحب فضل ولديه مبادرة التواصل مع الأصدقاء، كما أنه محبوب منهم، وهذا ما تؤكده رسالة أخرى من المقاتل إبراهيم عباس أحمد من الدفعة 7451، والتي يقول فيها إنه فرح جدًا عندما وصلته رسالة من أحمد فيصف الخطاب بأنه "من عند أعز الأحباب وكدت أطير من الفرحة".
تستوقفني دائما عندما أقرأ المراسلات في ذلك الوقت، حرص الجميع على إبداء المشاعر أكثر من الإخبار بالأحداث، كانوا يعطون المشاعر ما تستحق من تقدير.
خطاب-من-بهاء-الدين
تبدو تلك الرسالة المؤرّخة في 21 سبتمبر 1973 أقرب ما تكون إلى "رسالة وداع"، فهي تسبق ساعة الصفر بنحو خمسة عشر يومًا فقط، يكتب بهاء الدين إلى أحمد يخبره بإجازته حتى 22 سبتمبر، وأنه قصد بيت صديقه فلم يجده، إذ كان أحمد قد عاد إلى الجبهة. يقول:"«زعلت جدًا علشان لم يسعدني الحظ وأراك… ولكن هذه ظروف ولم نتحكم فيها". يغلق السطر وتفتح فجوة في الحكاية، فالأغلب أنه لم يره بعدها، وأن هذا الخطاب كان الأخير.
تكشف الرسالة وجهين معًا، وجه الصديق الذي يطارد لحظة لقاء تُفوتها الحرب، ووجه أحمد جعفر الإنسان الذي يشد حوله محبة رفاق يحرصون على زيارته ومراسلته، وليس تفصيل "إرفاق الأغنيات"—ومنها أغنية لعبد الحليم حافظ—مجرد زينة خطابية، إنه أثر ثقافي يضع الرسالة في زمنها، ويشي بعلاقة حانية يستعيض فيها الأصدقاء عن الغياب بصوت مألوف يسلّي الجبهة والبيت معًا، هكذا تغدو الورقة شهادة مزدوجة: على قبس إنساني دافئ سبق العبور، وعلى شخصية مقاتل ترك في قلوب رفاقه أثرًا لا يقل رسوخًا عن أثره في ساحة القتال.



يُبرز ذلك الخطاب سياق السرية العسكرية التي أحاطت بقرار العبور، فقد ظل الجنود يؤدون واجبات الاستعداد والانضباط دون أن يُبلَّغوا بالتوقيت أو الهدف النهائي، التزامًا بمبدأ المفاجأة وثقة في قيادتهم، وهكذا كانوا يتهيّأون للقتال وهم لا يعلمون أن أيامًا قليلة تفصلهم عن تحرير الأرض وكتابة فصل جديد من تاريخ الكرامة. وبعد وقوع الحدث انكشف المعنى كاملاً: أن كل ساعة تدريب، وكل أمر روتيني، كانت تمهد للحظة فارقة تُوقع بالدم. وبذلك تحول الخطاب إلى شاهد إضافي على أن الجندي المصري لا يقبل ظلما ولا يساوم على حق وطنه؛ يُحسن الكتمان حين تتطلب المعركة، ويُحسن القتال حين تدقّ الساعة. إنها رسالة مضاعفة الدلالة: درس في إدارة الحرب (سرّية مُحكمة، انضباط وثقة) ودرس في القيم (فداء وثبات)، كلاهما يلتقيان عند حقيقة واحدة هي أنّ النصر يبدأ من داخل الجندي.
تكتسب الأعمال الأخيرة دائمًا مسحة من القداسة، وتستدعي تأويلات يلونها ما يلحقها من أحداث، وفي حالتنا كان الحدث هو الاستشهاد، ومن هذا المنظور التأويلي، لا نقرأ رسالة بهاء الدين إلى أحمد بوصفها مجرد مراسلة، بل كأثر وداعي ينعكس علينا فنقيس به مقدار الفقد، إذ يتكثف حزن الصديق حين بلغه خبر استشهاد أحمد دون أن يلتقياه.
وتمنحنا هذه النهاية المؤجلة درسًا إضافيًا، هو أن الكلمات التي تكتب قبيل العاصفة تتحول، بعد وقوعها، إلى شهادة على ما لم يُقل، وأن صمت اللقاء الذي لم يحدث يصير جزءًا من سردية الوداع، يزيد الرسالة إشراقًا بالحضور وإن غاب صاحبها.


رسائل الأهل.. رسالة لم يقرأها الشهيد
سنختار من رسائل الأهل رسالة لها قصة خاصة، فقد أرسلوها إلى المقاتل أحمد محمد جعفر، ولم يعرفوا أنه استشهد، وبالتالي هي الرسالة الأخيرة التي أُرسلت إلى الابن على الجبهة، والتي لم يقرأها أبدًا.
يقول محمد عبد المجيد فى الخطاب الذي أرسل فى يوم 2 -11- 1973 "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى السيد المحترم أحمد محمد جعفر (حفظه الله) أبعث إليك سلامي من كل أعماق قلبي مع فرحتي لك ولإخوانك المقاتلين فى سبيل الله، وبإذن الله وحده سيزيدكم الله مزيدًا من الانتصارات الرائعة الباهرة ضد أعداء الله والوطن.
لقد سمعنا الكثير من أنباء الانتصارات العظيمة التي كتبها الله عليكم كما وعد الله المؤمنين بالنصر القريب، أما بعد، لقد طمأن الجواب الذي بعته مع صديقك إلى المنزل والحمد لله قد اطمأننا عليك، واستقبلنا جوابك بالأفراح، وكان الجواب مكتوب عليه النصر، ومن قراءة الجواب عرفنا مدى انتصاراتكم العظيمة، التي سيتحدث عنها كل مواطن، على ظهر الدنيا والبشرية أجمع، لقد سجلتم الكثير من الانتصارات فى أيام معدودة على عدو الله وعدو البشرية، لقد فرح أبوك بالانتصار.
هذه بداية الخطاب التي تكشف أثر النصر العظيم على الشعب المصري، وصولًا إلى جملة "لقد فرح أبوك بالانتصار" وهي جملة مفتاحية لفهم الخطاب، وفهم الشعب كله، وكيف تحققت الأماني، وكيف صارت صورة الجندي المصري فى نظر الناس في قمة السلم الاجتماعي.
هنا نجد حججًا لغوية ذات أصول دينية؛ فالله ينصر المؤمنين، والسياق الديني فى المجتمع المصري عامل أساسي فى فهم الحياة، كما أن الخطاب يقدم حجة مفادها أن إسرائيل هي العدو الأبرز للمجتمع المصري وللإنسانية ولله أيضًا، وذلك معناه أن الجنود المصريين لا يحررون الأرض فقط، لكنهم يجاهدون فى سبيل الله، وبالتالي يقودنا هذا السياق إلى تقبل الشهادة بعد ذلك، لأن الشهيد كان فى سبيل الله وله الأجر العظيم والثواب.
الدم يخضب الخطابات.. اكتمال الأسطورة
يستدل من تاريخ الخطاب الأخير الذي لم يقرأه الشهيد أحمد محمد جعفر أن رحيله سبق مطلع نوفمبر، أي في أواخر أكتوبر، ولسنا نعرف على وجه الدقة ملابسات استشهاده، غير أن طبعات الدم على الرسائل تنهض قرينة قاطعة تقول ما تعجز عنه السطور، فالدم هنا ليس أثر فاجعة فحسب، بل ختم صدق يوجز معاني الإخلاص والفداء والتضحية والثبات حتى اللحظة الأخيرة.
وتزيد هذه القرينة معنى أبعد هي أن الوثيقة الشخصية يمكن أن تصبح "سجلًّا عامًا" حين تلامس ضمير الجماعة، وأن بقايا الحبر والورق ليست مقتنيات تذكارية بل شواهد على قيمة عليا دُفع ثمنها.
خطاب-عليه-دم-الشهيد
.
هذا الدم الطاهر سيبقى شاهدًا لا يجف على ما بذله الأبطال من أجل استرداد الأرض ورد العدو المتربّص بنا أبدًا، وسيظل يذكرنا بأن للكرامة مهرا دفعوه طوعًا، وسيبقى الأهل، على مر السنين، يرفعون رؤوسهم فخرًا لأنهم قدموا للوطن أعز ما يملكون، فتُسجل أسماء الشهداء في سجل الشرف وتروى سيرتهم درسًا في الوفاء، وهذا الدم يُطالب بالوفاء بالعهد بحفظ الأثر، وصون الحق، وسرد الحكاية للأجيال حتى تعرف أن الحرية ثمنها غال، وأن الوطن يستحق.
بالطبع ليس المقصود من قراءة مراسلات الشهيد أحمد محمد جعفر (الوحدة 683) اجترار الحنين أو تزيين الذاكرة بخطابات بطولية جاهزة، بل أن نرى الإنسان في قلب الحدث؛ إنسانًا يوازن بين محبة الحياة والاستعداد للتضحية، وبين واجب الجبهة ودفء البيت. هنا سر تأثير هذه المراسلات فهي تقنعنا بأن البطولة ليست صورة جامدة في كتاب التاريخ، بل ممارسة يومية اتسقت فيها الكلمة مع الفعل حتى النهاية. لذلك فإن بقع الدم التي خضبت بعض هذه الأوراق لا تغلق الحكاية، بل تصادق عليها.
دعوة لأرشفة البطولات
تحتفي مصر بحرب أكتوبر بكل الطرق والأشكال، فرغم مرور هذه السنوات لا تزال المدونة تتحدث دائما عن هذا النصر ، ومن هنا يمكن الإشارة إلى نقطة مهمة تتعلق بمقتنيات الجنود في حرب أكتوبر، فهي ليست ذكريات شخصية فحسب، بل دليل على المعنى، لذا يمكن أن نقوم بأرشفة كل ما ينتمي إلى هذه الحرب، حتى تلك التي يملكها المواطنون من مراسلات وصور ، يمكن أن تحتفظ بها (أو بصورة منها) في متحف، بعد أن نقوم بعملية رقمنه لها جميعا.
يمكن بعدها أن نتيحها للجمهور عبر منصات رقمية ومعارض متنقلة تحكي سيرة المقاتل بالاسم والرقم والوحدة والسياق الزمني، كما تدمج هذه المقتنيات في التعليم كي نحافظ على ذاكرة وطن (موثقة، ومتاحة، وفاعلة في الوعي والتربية والإلهام).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.