إذا كان فرج الله الحلو الذى اغتاله أعداؤه فى لبنان، وتخلصوا من جسده بتذويبه فى حامض الأسيد عام 1959 هو أبرز من فقدهم اليسار اللبنانى، ورثاه نجيب سرور بقصيدة جاء مطلعها، يقول: «فى القرن يُقال العشرين والعام التاسع والخمسين وأنا فى الزنزانة منفردا أترقب وقع أقدام الجستابو». وإذا كان عبد الخالق محجوب، (الذى أعدمه جعفر النميرى فى 28 يوليو عام 1971 على أعواد مشنقة سجن كوبر، إثر الانقلاب الفاشل الذى قام به هاشم العطا)، يعتبر عميد شهداء السودان، فالمصريون يعتبرون اغتيال المناضل شهدى عطية الشافعى القائد الشيوعى المحترم والخلوق فى 15 يونيو 1960، هو أمير شهداء اليسار فى مصر قاطبة، رغم أن الحركة الشيوعية المصرية فقدت رموزا ومناضلين آخرين داخل السجون والمعتقلين، وعلى رأسهم لويس إسحاق ومحمد عثمان، وكانت تُقام فى المعتقلات المصرية مراسم الجنازات، التى يشيع بها الشيوعيون رفاقهم، ووصف صنع الله إبراهيم جنازة لويس إسحاق فى كتابه «يوميات الواحات»، ولكن قصة شهدى كانت هى الأكثر لفتا بين كل من اغتيلوا داخل المعتقلات، ولأن شهدى كان مناضلا مرموقا وقياديا ومثقفا ومؤثرا داخل معظم صفوف اليسار الشيوعى، أخذت قصته أبعادا سياسية ودرامية عديدة، ويكفى أن عبد الناصر عندما كان فى زيارة ليوغوسلافيا مدعوا من الرئيس تيتو لحضور مؤتمر السلام، ووقف أحد حضور المؤتمر لينعى شهدى عطية الشافعى الذى اغتيل فى السجون المصرية بعد التعذيب البشع الذى أنهى حياته تماما، وكانت هذه الكلمة سببا فى إحراج جمال عبد الناصر، وأبرق فورا إلى القاهرة بإيقاف عمليات التعذيب فى المعتقلات، ولكن هذا لم يحدث بشهادة كثيرين كتبوا مذكراتهم فى ما بعد، وقالوا إن التعذيب لم يقف مباشرة بعد رحيل شهدى عطية، الذى وقف ببسالة فى وجه من عذبوه، ثم زعموا بعد ذلك أنه انتحر، ما دفع صلاح جاهين إلى كتابة رباعية شجاعة، وينشرها فى مجلة «صباح الخير» فى 13 أكتوبر من عام 1960 نفسه، ولكنه لم يضمنها الرباعيات، التى صدرت فى ما بعد، وأعتقد أن الرقيب تدخل آنذاك، وتقول هذه الرباعية المجهولة: «قتلوه من التعذيب وقالوا انتحر فكرت لحظة وقلت آه يا غجر لو جنسكم سبناه يعيش فى الحياة اللى انتحر.. راح يبقى جنس البشر». وجدير بالذكر أن شهدى عطية القائد اليسارى والقطب الشيوعى الكبير كان أحد المؤيدين لسياسة جمال عبد الناصر، خصوصا فى منحاها الوطنى، ومنحاها الاجتماعى، وشهدى عطية نفسه كتب كتابا عام 1957 عن الحركة الوطنية المصرية أثنى على السياسة المصرية الناصرية فى ذلك الوقت، وكان الشيوعيون المصريون آنذاك على وفاق مع السلطة الناصرية، وكانوا يكتبون فى جريدة «المساء» التى جمعت معظم كتاب ومثقفى اليسار، وكان شهدى نفسه هو أحد كتابها، ولكن دون إبراز اسمه، لذلك نشرت جريدة «المساء» روايته الوحيدة «جارة أم الحسينى»، دون ذكر اسمه، ولكن الجريدة قدمته تقديما فخيما، يثنى على هذه الشخصية العظيمة التى كتبت هذه الرواية، وأعتقد أن جريدة «المساء» التى كانت مهتمة إلى حد بعيد بالفنون والآداب، لم تنشر فى ذلك الوقت رواية مسلسلة لأى كاتب من الكتاب المرموقين، لكنها أفردت خمس حلقات لنشر الرواية، وكانت كل حلقة مصحوبة برسومات بديعة للفنان زهدى العدوى، وكان زهدى من كبار الفنانين، وظلت الرواية حبيسة الصحيفة، حتى نراها فى المجلس الأعلى للثقافة بعد نشرها مسلسلة بأكثر من خمسين سنة، واحتفل المجلس بهذه المناسبة، وحضرت هذا الاحتفال السيدة حنان شهدى، وجاء من موسكو لحضور مراسم الاحتفال المتعددة بمناسبة مرور خمسين عاما على رحيل والدها. وأعتقد أن الحديث عن تعذيب واغتيال شهدى ملأ كثيرا من المذكرات التى كتبها معاصروه، مثل طاهر عبد الحكيم الذى كتب كتابا وثائقيا شديد الأهمية، ولم ينشر مرة أخرى، وهو كتاب «الأقدام العارية»، وأيضا كتاب «معتقل لكل العصور» للمهندس فوزى حبشى، وبطبيعة الحال كتاب «يوميات الواحات» لصنع الله إبراهيم، والذى كان مرافقا لشهدى فى أثناء واقعة الاغتيال، وكذلك كتب فتحى عبد الفتاح كتابه «شيوعيون وناصريون» عام 1975، وصدر عن دار «روزاليوسف»، وكذلك الكتاب الضخم الذى أنجزه الدكتور والمترجم فخرى لبيب، تحت عنوان «الشيوعيون وعبد الناصر»، وفيه دأب لبيب على توثيق كل وقائع القتل والاغتيال والتعذيب، التى تعرض لها الشيوعيون المصريون فى أطول تغريبة عاشوها منذ عام 1959 حتى عام 1964، والأهم من ذلك كله هو كتاب «الجريمة» للدكتور رفعت السعيد، الذى استطاع أن يحصل على التحقيقات التى جرت بصدد الواقعة، ونشر النعى الشجاع الذى نشرته جريدة «الأهرام» آنذاك، ما سبب ارتباكا شديدا للمسؤولين المصريين، واضطرت السلطات آنذاك إلى فصل الرقيب الذى لم ينتبه إلى تسرب هذا النعى. وأريد أن أنوّه بأن شهدى عطية الشافعى الذى كتب رواية «أم الحسينى»، له قصص قصيرة كان قد نشرها فى مجلة «مجلتى»، عام 1936، وكذلك كتب عددا من الدراسات النقدية والأدبية عن توفيق الحكيم والكاتب الإنجليزى ه ج. ويلز، وكانت ثقافة شهدى الإنجليزية تؤهله للقيام بهذا الدور، وأعتقد أن روايته الوحيدة «حارة أم الحسينى» تمثل وحدها تجسيدا نموذجيا لفكرة الواقعية، التى كان اليسار المصرى والمثقفون الطليعيون فى الخمسينيات يرفعونها كشعار لهم، وللأسف لم يلتفت أحد من النقاد اليساريين إلى هذه الرواية، وعلى رأسهم الناقد محمود أمين العالم، الذى كان على علم بها، وكان على علاقة عميقة بشهدى، وكان قد قدم له كتابه «ماذا تريد أمريكا من الشرق الأوسط؟»، وأعتقد أن عدم الحديث والكتابة عن شهدى عطية الشافعى، كان شبه متفق عليه بين رموز اليسار والسلطة فى الستينيات، لعدم تعكير جو الوئام، الذى عاد مرة أخرى بعد خروج الشيوعيين من معتقلات ثورة يوليو!