في أطروحاته حول «نهاية التاريخ»، قدّم فوكوياما تصورا متفائلا عن انتصار الليبرالية الديمقراطية كنهاية لمسار التطور الإنسانى، غير أن هذا الطرح سرعان ما اصطدم بواقع أكثر تعقيدا. فالتاريخ لم يتوقف، بل عاد بأشكال جديدة من الصراع والهويات المتنازعة. إشكالية فوكوياما الأساسية تكمن في نزعة الحتمية الفكرية التي افترضت أن الغرب هو النموذج النهائى للعقل والحرية، متجاهلًا تنوع التجارب الحضارية والأنماط المختلفة للعدالة والكرامة.. كما أنه أغفل العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تزعزع استقرار الديمقراطيات نفسها، وانشغل بإطار أيديولوجى ضيق لا يفسر عودة القومية والشعبوية والدين إلى المشهد العالمى. وحتى مفهوم «الإنسان الأخير» الذي بشّر به، انقلب عليه دليلاً على فراغ المعنى في مجتمع الرفاه. وهكذا تحولت نظرية فوكوياما من إعلانٍ عن نهاية التاريخ إلى تذكيرٍ مستمر بأن التاريخ أكثر عنادا من كل النهايات التي يُعلنها الفلاسفة. إشكاليات أطروحات فرانسيس فوكوياما – خصوصا في نظريته الأشهر «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» (1992) – تمثّل محوراً لنقد فلسفى وسياسى واسع.. وفيما يلى في نظرى تلخيص لأبرز الإشكاليات التي واجهت فكره: حتمية التاريخ والنزعة التبشيرية: فوكوياما افترض أن التاريخ بلغ «نهايته» بانتصار الليبرالية الديمقراطية الغربية بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، وكأن التطور الإنسانى وصل إلى نموذج نهائى لا يمكن تجاوزه.. والإشكالية هنا أن هذا الطرح يقوم على حتمية أيديولوجية تشبه التفسير الدينى للتاريخ، ويتجاهل ديناميكية التغير الاجتماعى والسياسى والثقافى. تجاهل التنوع الثقافى والحضارى: يرى أن الليبرالية هي النموذج الأمثل لجميع الشعوب. وهذا يعكس مركزية غربية تتجاهل قيم وأنماط الحكم في حضارات أخرى (الإسلامية، الآسيوية، الإفريقية) التي قد تقدّم تصورات مختلفة للحرية والعدالة والمجتمع. ضعف التفسير الاقتصادى والاجتماعى: ركّز على الجانب الأيديولوجى والسياسى، مع إغفال دور الاقتصاد والتفاوت الطبقى في تشكيل الأنظمة السياسية. بينما انهيار الشيوعية لم يكن فقط انتصاراً للفكر الليبرالى، بل نتيجة لعوامل اقتصادية واجتماعية معقدة. فشل التنبؤ بالتحولات اللاحقة: أطروحته لم تتنبأ بعودة الصراعات القومية والدينية (مثل الإرهاب العالمى، الحروب في الشرق الأوسط، صعود الشعبوية في الغرب، الحرب الروسية الأوكرانية). وهذه الوقائع بيّنت أن التاريخ لم «ينتهِ»، بل دخل مرحلة جديدة من التعددية والتوترات الأيديولوجية. إشكالية «الإنسان الأخير»: فكرته عن «الإنسان الأخير» الذي يعيش في رخاء مادى ويفتقر للمعنى والبطولة، تطرح تناقضاً: إذا كانت الليبرالية نهاية التطور، فكيف يظهر فيها الملل الوجودى وفقدان الغاية؟.. إن هذا يُضعف منطق «النهاية السعيدة للتاريخ» نفسه. وأخيرا تناقض بين النظرية والتطور اللاحق لفوكوياما نفسه.. فوكوياما تراجع لاحقاً عن بعض أطروحاته، معترفاً بوجود تهديدات جديدة للديمقراطية الليبرالية (صعود الصين، التكنولوجيا، ضعف المؤسسات الغربية)، مما يؤكد هشاشة فرضيته الأولى. وهكذا تحولت نظرية فوكوياما من إعلانٍ عن نهاية التاريخ إلى تذكيرٍ مستمر بأن التاريخ أكثر عناداً من كل النهايات التي يُعلنها الفلاسفة.